3

:: اَلحبّ والبُعد ::

   
 

التاريخ : 12/02/2013

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 2026

 


 

 

       إنّ في البُعدِ الجسديّ، عَمّن تُحِبُّ، ألمًا وحسرةً وحرقة وحنينًا. هذا ما لا شكّ فيه، أبدًا. لكنّ في هذا البُعْدِ، أيضًا، مُتعةً متعدِّدةَ الجوانبِ والاتّجاهات والوجوه والأسماء... وكذلك لا شكّ، في هذا، إطلاقًا. فكيف يكونُ ذلك!؟

       لن أتحدّثَ حول النّقطةِ الأولى، فقد أغرقها الكتّابُ والشّعراءُ والمُحَلِّلون درسًا وتَمْحيصًا، وأطلقوا فيها وعنها وحولها، الكثيرَ من النّظريّاتِ والآراء. سأكتفي، إذًا، بالتَّكَلُّمِ على النّقطة الثّانية.

       إنّ اَلبُعْدَ الجسديَّ أنواعٌ، منها البُعْدُ في المسافةِ الجغرافيّة. أنت في مكانٍ، و"هو" في آخر. والبُعدُ الجغرافيُّ هذا، قد يكون طَوعيًّا، اختياريًّا، لغايةٍ ما يعرفُها المُبتَعِد؛ وقد يكون مُتَعَمَّدًا لهدفٍ ما، قد يكون زيارةً عائليّة قصيرة، يشعر بأنّها غايةٌ في الطّول؛ أو لزيارةٍ من أجل "جنسيّة" جديدة يحسبُ أن قد "تشفيه" من أمراض وطنه "الأمّ" و"الحبيب"؛ أو لسياحة مع "أهل"، أو"أصدقاءَ"، أو "زملاءَ"، يحيا بينهم مَلَلا لا نهائيّ الثِّقل على القلبِ والرّوح؛ أو...

       ويكتشف، في بُعده، أنّه أكثرُ قربًا!

       كيف يحدث هذا؟ كيف يكون؟ كيف يُشعَر به؟

       اَلبُعْدُ الجغرافيُّ يجعلُك صاحبَ خَيالٍ خَلاّق. أنت "ترى" الحبيبَ بـ"خيالـ"ك. عينُ خيالِك أقدر من عين جسدِك. أكثرُ نَفاذًا. تُبعِدُك عن الواقعِ، واقعِ الحياةِ، واقعِك أنت!؟ مَن يقول إن ليس هذا هو المقصودُ بعينِه!؟ "غِبْ وزُرْ غِبًّأ، تزد حبًّا" يقول الشّاعرُ "المختبِر". وما أدراك ما يحدث في كِيانك، جوّانيّتِك الحميمة، من براكينَ وشظايا تتجدّد، تلقائيًّا، تُحيي فيك نفَسًا لم تعرفْ. توحي إليك لذائذ لم تختبرْ. خيالُك الخَلاّقُ سَبّاقٌ، نَفّاذٌ، يَطوي المسافات، يُلغي الجغرافيا، فإذا أنت والحبيب، قلبٌ إلى قلب، نهدةٌ إلى نهدة، ارتجافةٌ إلى ارتجافة، ارتشافةٌ إلى ارتشافة. وإذا أنت والحبيب، كيانٌ إلى كيان، بما في الكيان من "كلّيانيّة" نشطة، نزِقة، "تُشَرقِطُ"، فتحوّلك عاصفة نَشوانةً دائمةَ الهبوبِ والتَّأَجُّج! وما أدراك ما...

       ومهما كان سببُ بُعدِك، يبقى، بالنّسبةِ إليك، غربةً تحرقُ فيك الرّوح، لا تُرَمِّدُها. حريقُ الرّوحِ نَيسانُها المشتَهى! والغربةُ النّفسيّةُ، أشَدُّ فَتْكًا بالنّفس، تخنقُ النّفَسَ، يُبَحُّ فيها الصّوتُ، تختلجُ الحياةُ، فأنت على شَفير الموت، على حافة الحياة، نفْسُك "أمّارةٌ" بالحياةِ حلوةً، ونفَسُك يغصُّ، يتلجلجُ، تختنقُ، متيقِّنًا، ولا تستطيعُ شيئًا! ما آلم الوضْعَ، ما أوجعَ القلبَ... إنّما ما أخصبَ الخيال! وجَعُك طريقُ إبداعِك!

       ... وتُسَرُّ. آلامُك مُبدِعة. تحيا اختِناقًا، يُثير فيك انفِتاحًا! تحيا ألَمًا، يدفقُ فيك فرحًا. اِزدواجيّةُ الحياة! اَلحزن والفرح. اَلألم والسّعادة. اَللّذّة والنَّشْوة. اَلموت والحياة. اَلبُعْدُ والحبّ...

       وتقفز إلى ذاكرتك أبياتٌ من "المجنون"، ومن "جميل"، ومن "كُثَيِّر"... فتبتسم، لا هازئًا كما في زمنٍ انقضى، بل أنت، الآن، رجل "خبرة"ٍ، "تتفهّم" الحال. ولكن تهبُّ، في ذاكرتك، في قلبك، والرّوح، أبيات "نداء القلب"، و"إلى الأبد"! تستبدّ بك. تُقَرِّحُك. تستفزّك. تلوّن ليالي غربتِك ونهاراتها. تجعل منك سميرَ النّجوم والأفلاك، ولا تستطيع تنسى، ولو رغبت! وأنت لا ترغب في نسيان. اَلنّسيان غائبٌ عن قاموسك. فأنت تتسلّى بأن تسرد على ذاتك حياتك مع "الحبيب"، مذ "اكتشفتما"، معًا، انجذابَكما، وَلَعَكما، هِيامَكما... ومن ثمّ "جنونَــ"كما، واحدُكما بالآخر! ولا يغيب عنك تفصيلٌ، ولا أيُّ تفصيل. وتعجبُ، أنت، فذاكرتُك تاعسة، فكيف "تشبّ" و"تنشب" في هذه "المسألة"! كم كان (أبو شبكة) على حقّ! ولكن... ولكن... هل كلُّ "ليلى" مثلُ "ليلاه"!؟ إنّما قبل: أكلُّ بُعْدٍ مثلُ أيِّ بُعْدٍ!؟   

       وتكون في مجموعة من النّاس. تنظر ولا ترى. تُغمض عينيك فتطالعُك الرّؤيا الّتي لا ترغب في سواها. تصافح ولا تشعر بحرارة. تعود بيدك إليك، فتشبّ فيها نارٌ آتيةٌ من "بعيد"! وتشمّ فلا تستطيب عطرًا، ويملأ نفسَك عطرٌ تهادى إلى كِيانك، كلِّه، يغلّ فيك، يتسلّل إلى كلّ ما فيك، وسعيدًا، مُثيرًا، في جوارحك يُقيم، نافذًا، فعّالا، محرِّكًا فيك الذّاكرةَ النّاريّةَ الدّائمةَ الاشتعال. وأنتَ... أن تتألّقَ غبطةً، وتَشفَّ نورًا، فتمتطي الرّيح، وبنبضة قلبٍ سريعةٍ تصل! وتُغمَران، تُضَمّان، تتناغَمان، تذوبان، تتقطّران، خلاصة الحبّ الخلاصيّ، المُخْلصِ، المخلِّص.

       وتشعّان قدّيسَين تشفعان...

اَلأحد 20/1/2013

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.