3

:: أين ثقافتنا من عصر الوسائط المتعدِّدة؟! - رُؤى ثقافيّة - 17 ::

   
 

التاريخ : 09/08/2012

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي   عدد القراءات : 1552

 


 

 

 

-1-

تلكُّؤ الثقافة العربيّة في مواكبتها لتطوّر الثقافة الكتابيَّة في العالم- إذ تتحوَّل من الحبر والورق إلى الحاسوب والنشر الإلكترونيّ- حكايةٌ تستحق الرواية. وهي روايةٌ تستدعي التعريج على علاقة الثقافة العربيَّة بوسائط التلقّي المعاصرة، وموقع تلك الوسائط المتعدِّدة في المؤسَّسات التعليميَّة العربيَّة.

إن واقع التعليم الإلِكترونيّ، حتى في الجامعات العربيَّة- ناهيك عن مراحل التعليم الدُّنيا- ما يزال دون الدرجة المطلوبة، والوضعيَّة الممكنة، بكثير. والسبب في هذا أن الجامعات تعاني من أُميَّة إلِكترونيّة على مستوى أعضاء هيئة التدريس أنفسهم، فكيف، إذن، ستنهض عمليَّة تعليميَّة إلِكترونيّة؟! وبذا يمكن القول إنها تتمثَّل أُولى العقبات في سبيل التعليم الإلِكترونيّ في تلك الأُميَّة الإلِكترونيَّة لدى المعلِّم، من حيث إن التعليم الإلِكترونيّ ليس أجهزةً، بل هو قبل ذلك فكرٌ وثقافة. وفوق ذلك فإن شبكات الجامعات الإلِكترونيَّة هي من أردأ الشبكات التي يمكن أن يعوِّل عليها طالبٌ أو باحث. وإمكانيَّة التطوير التعليميّ في الجامعات- بما يجعله مِهادًا لثقافة معاصرة آخذة بتقنية العصر- ستظل مرهونةً بإدراك أن لا جامعات في هذا العصر بلا شبكات إلِكترونيَّة حقيقيّة، تربط الطالب بالأستاذ، والجامعة بالمجتمع، والوطن بالعالم، وبأسلوبٍ مباشرٍ وسهلٍ وسريع. تلك هي لغة العصر، ولم تعد أمرًا ثانويًّا في ميدان التربية والتعليم. ولقد كان غيابها أحد الأسباب وراء تأخُّر تصنيف الجامعات العربيَّة بين الجامعات في العالم. لتجيء النظرة التي سادت أوساطنا الجامعيَّة إلى هذا السبب: على أنه لا يعني شيئًا في معايير تصنيف الجامعات وجودة مخرجاتها، دليلًا على أن الجامعات لدينا ما انفكَّت تفكِّر خارج العصر، وتتصوِّر العمليَّة العلميَّة والتعليميَّة وفق عقليَّة تقليديَّة، وبحسب أدوات هي في طورها إلى التراجع. ذلك أنه، ومنذ وقت مبكرٍ من نهايات القرن الماضي، كانت قد أخذت الجامعات- في الولايات المتحدة الأمريكيَّة تحديدًا- تدير العمليَّة التعليميَّة في كثير من جوانبها عبر الشبكة الإلِكترونيَّة، بما في ذلك إجراء الاختبارات وتقويم مستوى الطلبة. هذا فضلًا عن الإفادة من النشر الإلِكترونيّ في إتاحة الكتاب للطالب والباحث، مع ربط الطلبة بأساتذتهم، وتسهيل الوصول إلى مكتبات الجامعة وأوعية معلوماتها عبر لوحات المفاتيح الحاسوبيَّة.

-2-

فإذا انتقل بنا النظر من حقل التعليم وعلاقته بوسائط الاتصال المعاصرة، وإفادته منها في أداء رسالته، إلى ميدان الثقافة العامَّة والتلقِّي المعاصر، فإننا- ونحن نناقش العلاقة بين الثقافة والمتلقِّي، ونشير إلى تقصير الإعلام في سدِّ تلك الفجوة بينهما- لا منجى لنا من إعادة النظر في الواقع الثقافيّ نفسه بعينين جديدتين: فهل الثقافة ما زالت كما كانت قبل عشر سنوات؟ وهل المتلقِّي ما زال كما كان قبل عشر سنوات؟ والإجابة عن هذين السؤالين: بالنفي؛ لأن مفهوم الثقافة المعاصرة قد اختلف عن ذي قبل، والمتلقِّي كذلك قد تغيَّر. وعليه، سندرك أن ثقافتنا العربيَّة، وفق أنساقها التقليديَّة- وعلى افتراض حراكها- ما تزال كما هي، لا قبل عشر سنوات، بل قبل مئة سنة! غارقة في الحبر والورق، وفي المنبريَّات، وملفَّاتها العتيقة. ومن هنا يتبدَّى أن الثقافة العربيَّة نفسها قد تتأبَّى على ما يمتدُّ إليها من وسائل حديثة أو وسائط لتخرجها من عالمها القديم، ارتيابًا في الجديد، أو جهلًا به، أو عجزًا عنه.

تَطَوَّر الإنسان، وتَرَقَّت التقنية، ونشأت أجيال تجول العالَم وتتقرَّأ نبضه، من شرقه إلى غربه، عبر مفاتيح حاسوب صغير، وواقعنا الثقافيّ ما يزال يؤمِّل أن تحضر الجماهير الغفيرة محاضرةً علميَّة، أو أمسيةً شِعريَّة، أو تقرأ كتابًا عن الزير سالم!

نشأت أجيال تتذوق ألوان المعارف من كلّ حدبٍ وصوب، وتنفعل لثمارها من خلال نابض «الريموت كنترول»، وواقعنا الثقافي ما يزال يشكو من إدبار الناس عن حضور فعاليَّاته المتراكمة بلا حضور، ومنشوراته المتآكلة بلا توزيع يذكر! مع أننا اليوم في عصر يُؤْذِن بأن يتحوَّل الكِتاب فيه، أو الصحيفة، من مادَّة ورقيَّة إلى مادَّة إلِكترونيَّة، وصار بإمكانك أن تقرأ صحف العالم، وتُتابع نشاطاته الثقافيَّة، وعطاءاته الفكريَّة والفنيَّة، وبشتَّى اللغات، بمجرد امتلاكك حاسوبًا «كَفّيًّا»، يصاحبك حيثما كنت!

وعليه، فإن الشُّقَّة بين الثقافة والجمهور هي في عالمنا العربي نتاج عقليَّة توقَّفت عن النموّ منذ عقود، في أُمّةٍ مستهلكةٍ، لا مبدعة، ولا منتجة.. تَكِلُ شؤون ثقافتها إلى كبار سنِّها، وتُسلم مفاتيحها لصغار الآخذين بأسباب الحياة. حيث إن الثقافة في شكلها التقليديّ لم تعد مُقْنعةً، ولا مغريةً لأحد، حتى لمقدِّميها أنفسهم، وإنما تُقدَّم غالبًا بحُكم المهنة أو المناسبة. ووسيلة اتصال الثقافة- التي نريد- بالمتلقِّي، الذي نريد، ما تزال بدائيَّةً جدًّا. فعلامَ نلوم المتلقِّين، وهم يملكون الوصول إلى المعرفة في مراقدهم، ويلوكون من الثقافة ما تيسَّر بأقلّ كلفة، إنْ جادَّة كانت أو عابثة؟!

إن تجسير تلك الهوَّة بين الطرفين- المثقَّف والمتلقِّي- لا يتأتى إلا بإدراك أن تقديم المادَّة لا يقلّ أهمِّيَّةً عن المادَّة نفسها، وأن ذلك في الغرب- على سبيل المثال المعتاد- قد بات فنًّا وعِلمًا وصناعة. فإقبال الغربيّ على القراءة ليس بناتج مثاليَّةٍ ثقافيَّة مطلَقة، كما يحلو لنا أن ننعت الآخرين، على حين نجلد أنفسنا، مكرِّرين أن معدَّل القراءة في العالم العربيّ لا يساوي عُشر معشار قراءة الإنسان العاديّ في مجتمعات أخرى. وهذا صحيح، في جانب، غير أننا نُغفل من المسألة جانبًا آخر، هو أن آليَّات القراءة هناك، وإيصال المعلومة، قد تطوَّرت كذلك عن ذي قبل، فصارت أسهل وأسرع و أكثر تشويقًا. على أن تجسير ما بين الثقافة والتلقِّي غاية لا يكفلها التمنِّي، بل تكفلها التربية الاجتماعيَّة والوطنيَّة، التي تبذر حبَّ المعرفة والانفتاح على مشارق الثقافة المختلفة، أوّلًا، ثم تصطنع الوسائل المحفِّزة والمثيرة، والمواكبة لمستجدَّات العصر، وإلَّا فإن البدائل- صالحها وطالحها- تُغرق الواقع وتسدّ الآفاق.

ومن هذا يتجلَّى أن المثقّف العربيّ ظالمٌ لنفسه إنْ لم يعِ التحوُّلات الثقافيَّة العالميَّة، وظلّ يظن أنه بوسائله العتيقة سيصل إلى الناس، مظلومٌ إنْ بقيت المؤسَّسات لا تقدِّمه إلَّا عبر تلك الوسائل، أو تُعرض عنه لأنها تنظر إلى الثقافة بمعايير قديمة، وتنتظر أن يتقدَّم بأعماله ويؤثِّر في المجتمع عبر وسائط لم تعد فاعلة في هذا العصر، فيما لا تعترف تلك المؤسَّسات- إلَّا على استحياء- بالتقنية الحديثة ودورها في العطاء والتفاعل.

إن العصر الإلِكترونيّ ماثل بين أيدينا الآن، والتعليم مهاد ذلك العصر، على كلّ المستويات. لا ينفي هذا أن يظلّ الأمر لدينا في تردُّدٍ حضاريٍّ، ولا أن لا يدع العربُ الحنينَ إلى المألوف، تعليميًّا وثقافيًّا، تُنازعهم النفوس إلى ما اعتادوه من دهرهم الأوَّل، خارج عقليَّة العصر الذي نعيش، عصر التقنية وثورة المعلومات والاتصالات. وذلك الحماس للماضي، وضدّ العصر والتقنية، يعكس ذهنيَّةً تَحَوَّل الماضي لديها، بما هو ماضٍ، إلى مقدَّسٍ، والحاضر، بما أنه حاضر، إلى مرتع شَكٍّ وارتياب. ولربما خَفَّف بعضهم من غلوائه عَقِب الثورات العربيَّة الشبابيَّة الأخيرة، التي أثبتت خطورةَ التقنية، وفعاليتها، التي لم يسبق لها مثيل، إنْ في التواصل والتثاقف أو في التغيير، وهو ما أحدث زلزلةً في بعض القناعات المتكلِّسة السابقة، حيال وسائل الاتصال الحديثة، لأخذها بجديَّة.

«لكلِّ امرئٍ من دهره ما تعوَّد».. ولكلِّ نائمٍ على ما اعتاد من دهره ما يوقظه، وإنْ طال المدَى!

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.