ليس من المبالغة القول: إن الإعلام العربيّ لم يُفِد كثيرًا من انفتاح الفضاء لكي ينشر العِلم والوعي والمعرفة، اللهم إلاّ في أضيق الحدود. ويبدو الخلل كامنًا- إلى أسباب أخرى- في إدارة الثقافة على نحو عصريٍّ فعّال، وفي تنظيم فعاليَّاتها بصفةٍ تراعي تعقيدات الحياة اليوم. فلقد كان في الإمكان إتاحة تلقِّي المواد الثقافيَّة على نطاقٍ واسعٍ، وبأسلوب يواكب المستجدَّات، بحيث لا يُحرم كثيرون من متابعة الأنشطة المختلفة والإفادة منها، إمَّا بسبب تزامنها، أو لتعارضها مع ظروف المتلقِّي، أو بُعده عن أماكن إقامتها. كما أن الأخذ بوسائل الإعلام الحديثة ووسائل الاتصال المعاصرة كان سيُلغي بعض العجز في فترات (البيات الثقافيّ الصيفيِّ) وغير الصيفيِّ، التي تبدو خاليةً غالبًا من الحراك الثقافي، إنْ لدى المؤسَّسات أو بين الجماهير. ذلك أن الثقافة اليوم لم تَعُد: محاضِرًا يُلقي دُرَرَه السَّنِيَّة على آمِّيْهِ ومريديه من عُلُوِّ منبره، والناس تتجشَّم المشاقَّ وتقطع المسافات للتحلُّق من حوله، كي تتلقَّف ما يُلقي عليها.. وتهزّ الرؤوس!
ويأتي هذا القصور في بثِّ الثقافة الجادَّة، البانية، في وقتٍ يعجّ الفضاء العربيّ بالفضائيَّات الشعبيَّة، والمروِّجة لأنماط غيبويَّة، من الدَّجل والترَّهات. وبعد أن كان المأمول أن تُمْحَى الأُمِّيَّة في أوطاننا- وإنْ في حدِّها الأدنى (الأُمِّيَّة الكتابيَّة)- عُدنا إلى عصرٍ سماعيٍّ شفاهيٍّ، وقَبَلِيٍّ (إِبِلِيٍّ)، بفضل الثقافة الشعبويَّة، مسموعةً ومرئيَّةً ومكتوبةً، بكلّ ما يعنيه ذلك من تراجعٍ اجتماعيٍّ ومعرفيٍّ وقيميٍّ وثقافيٍّ، وكلّ ما يَضُخُّه في شرائح المستهدَفين من عصبيَّات وعنصريَّات، تُفتِّت البنيات الاجتماعيَّة والثقافيَّة إلى عشائر وفئات وطوائف.
إن المشروع العربيّ الكبير في التوحُّد والتطوُّر يبدو مهدَّدًا اليوم، بما يُراد له من أن يعود القهقرَى، بفضل نبش الماضي البئيس، من خلال الشِّعريَّات العامِّيَّة، والمهرجانات الشعبيَّة- غير المرشَّدة- سواء حول (مزايين الأدب) أو (مزايين الإبل)! وفي سبيل هذه الأخيرة، تتبدَّى سلبيَّات أخرى، ليس أقلّها تبذير مئات الملايين من الأموال في غير طائل، وإنما على تلك النُّوق والأباعر، ممَّا لو أُنفق بعضه في أحد المشاريع الخيريَّة الوطنيَّة، أو في مشاريع تدفع بالثقافة إلى الأمام لا إلى الخلف، لكان ذلك أبقَى، بل لكان صِيته أجدى لمَن يطلب الصِّيت والذِّكر الحسن. ولا يعني ما تقدَّم رفض تلك الفعاليَّات جملةً، إذ لا تعدم ما هو مفيد، وضروريّ، وقيِّم. ولكنه يعني تقديم الأهمّ على المهمّ، وأن لا يُجعل بَيض الثقافة والإعلام في سلَّةٍ واحدةٍ، هي الأوهى والأكثر عُرضة للسقوط.
أجل، سيظلّ للثقافة الإعلاميَّة العربيَّة اختيار نَجْدٍ من نَجْدَين، إمّا أن تؤدِّي دورها الباني، أو أن تؤدّي دورها الهدَّام، ولن تجد أقوى من الشِّعر مِعْوَلًا في الحالين.