3

:: ألقلَق (3) ::

   
 

التاريخ : 25/06/2012

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1745

 


 

       ألقلَقُ "النِّعمة"؟ نَعم! وأيُّ نِعمةٍ! وأيُّ نَعيم!

       ألنِّعمةُ أن تلبس القلقَ الذّاهبَ بك إلى طُمأنينة الخَلقِ العجيبةِ، المأسَويّة، اللذيذة، الرّائية، وفي الآن نفسِه!

       كيف يتمّ لك ذلك؟ بأن "تَنْسَكِنَ" بـ"النِّعمة"، "نِعمةِ" القلَقِ الخَلاّق. وهذا لا يتمّ، أو يتحصّل، لك، إلاّ إذا كنتَ "مَمْسوسًا" بنِعمة جُنون الخَلق، بِخَلِق جنون النّعمة. "ألمجنون" خَلاّق. و"الخَلاّق" مجنون. فالفنّ، على مختلف أنواعِه، والعِلْم، على اتّجاهاتِه كلّها، نتيجةُ جنونٍ خَلاّق، أو نتيجةُ خَلْقٍ مجنون، وتاليًا، فالفنّان، أيُّ فنّانٍ، والعالِمُ، أيُّ عالِمٍ، "مَمْسوسٌ" بـ"نِعمةِ" الجنون.

       إنّه يرى ويسمع ويتذوّق ويلمِس ويشُمّ ما لا يراه الآخرون، وما لا يسمعون، أو يتذوّقون، أو يَلمِسون، أو يشُمّون. وهو يطمح إلى ما لا يطمحون. ويصطفي ما لا يصطفون. ويأمل في ما لا يأملون. ويفكّر في غير ما يفكّرون. ويتصرّف كما لا يتصرّفون. ويتحدّث كما لا يتحدّثون. ويحيا كما لا يحيَون.

       إنّه مفرَدٌ جمع. مذكَّرٌ مؤنَّث. مادّيٌّ زاهد. مُقبِلٌ مُدبِر. مُتَعامٍ راءٍ. ذاكرٌ ناسٍ. صاخِبٌ ساكن. عاصفٌ هادئ. مُثابِرٌ عنيد. صلبٌ ليِّن. لكنّه مِقدامٌ لا يتراجع. لا يلتفت إلى وراء، إلاّ لعِبرة. عيناه، دومًا، إلى ما بعد الحُجُبِ والّسُّتُر والآفاق. لا يُضَيِّقُ عليه مَدار. لا يَحُدُّه مَدًى. فمن أين له ذلك كلُّه؟

        من موهبتِه القلِقة، من قلَق الموهبة. هذه الموهبة الّتي لا تستكين. وفي عدم سكينتِها، سكينتُها. في عدم اطمئنانها، طمأنينتُها. ساكنة، مطمئنّة، لأنّها تستمرّ قلِقة. هذا القلَقُ القادرُ، الهادرُ، الفائرُ، يجعل: نفسَك تموجُ بالفِكَر، تَمورُ بالرّؤى؛ وِجدانَك يَنبثِقُ من اختلاجاتِك، يعصِفُ بالخَيال. وترتاحُ، أنت، بل تسعد! فما تشاؤه!؟ يُخلَقُ فيك، منك، بك، لأجلك. سعادتُك قلِقة؟ بل مُرَوَّسة. تغرزُ مأساتَها فيك، في فكرك، رؤاك، في اختلاجاتك، في خيالك، وتكتئب، أنت، فما تشاؤهُ، يتهادى فيك، منك، بك، لأجلك. سعادةٌ واكتئاب! قلقٌ واطمئنان! هي ذي! إنّها "النِّعمةُ" المُبارَكةُ المُبارِكة! ألنِّعمةُ الرّافعةُ الّتي ترقى بك، وتجعلُك في تَوقٍ دائمٍ إلى الارتقاء. كلُّ ارتِقاءٍ تَماهٍ بِمِثال.

       ... وهذا القلقُ الخَلاّقُ، بما هو نِعمةٌ وتَسامٍ وتَماهٍ، يجعلُك تصطرعُ في ذاتك بكلّيّتها، ومع ذاتك بكلّيّتها. صراعُك هذا، يؤدّي بك إلى التّكامُل والتّناغم والانسجام، بعد الاختلاف والتّمَزُّق والتّباعُد. كلُّ اختلافٍ إلى تَكامُل. كلُّ تَمَزُّقٍ إلى تَناغُم. كلُّ تَباعُدٍ إلى انسِجام. هكذا تُشرِقُ، أنت، نفسًا ووِجدانًا، تلتمُّ كلُّك على كلِّك، نفسُك والرّوح، ما ينعكسُ على جسدك انتِعاشًا، راحةً، اطمئنانًا. وإذا بك، في منتهى السّكينة والسّلام.      

       من أين؟

       من منبع أسمى. منبع هو السّكينةُ والطُّمأنينةُ معًا، وبكاملهما. لا يمنحُك السّكينةَ، إلاّ مالكُها الّذي يحياها. لا يُنعِمُ عليك طُمأنينةً، إلاّ الكلّيُّ الاطمئنان: فكرًا وحياةً.

       وأنت، أن تعرفَ كيف "تستقبلُ"، كيف تتلقّى، كيف تمنح ذاتَك ما ترجو لذاتك.

       فماذا ترجو، ولماذا، وحتّامَ؟

       أتعرفُ ما تَرجو!؟ أترجو الطّمأنينةَ، لأنّك قَلِقٌ باستمرار؟ مَن يقول لك إنّ الطُّمأنينةَ علاج! ومَن يُثبِتُ لك أنّ السّلامَ دَواء؟ ومَن يؤكّد لك أنّ النّعمةَ هي "النِّعمة"، بما تعرفُه وتتمنّاه وبه تحلُم!؟

       إنسانٌ، أنت؟ فأنت منذورٌ للقلق. حالمٌ بالنّجاة منه. تبغي الانعتاق.

       لن تكونَ حُرًّا، أبدًا. تظنُّ أنّك حُرٌّ وأنتَ "تُبدِعُ". لكنّ إبداعَك ظَرْفيٌّ، آنيٌّ، وإن كنتَ تُحَلِّقُ أبعدَ من أيّ أفقٍ، وراءَ أيِّ مَدار، خارج أيّ كون. تحليقُك ابنٌ لخَيالِك, خَيالُك ابنٌ لقدرتِك. قدرتُك بنتُ الإمكان. ألإمكان مرتبِطٌ بالجسد. تنطلقُ الرّوحُ من الجسد المُكَبَّلِ، دَومًا، بالرّغائب، بالنّزوات، بالضّعف؛ وكذلك النّفْسُ والخَيالُ... وإن كانت كلُّ رغبةٍ دفعًا جديدًا، وكلُّ نزوةٍ ثورةً جديدة، وكلُّ ضعفٍ عَهدًا جديدًا... يبقى الجديد إشارةَ قلقٍ، هي، في الوقت عينِه، إشارةُ خَلْق.

       لماذ ترجو ما ترجو؟ لأنّك غيرُ مقتنِعٍ بما أنت فيه وعليه. تريد أن تصل "إليه". رغبتُك، هذه، محدودةٌ، هي الأخرى، بالظّرف، بالزّمن، بالقدرة. وتبقى ترجو، تريد "خَلخَلةَ" قدرةِ كِيانِك والإمكان. تنجح ولا. تحاول. تبقى تحاول. هنا قدرتُك، والحرّيّة.

       حَتّامَ؟ إلى لا حدود. طالما أنّك كائنٌ حيٌّ، فأنت فاعلٌ منفعِل، مؤثّرٌ متأثّرٌ، موحٍ مُستوحًى... إنّه التّفاعُلُ اللامحدودُ بظرفٍ، ولا بزمان، ويحاول تَخَطّي الإمكان. أمن إمكان!؟ وتظلُّ تُحاوِلُ. هي طبيعتُك، إنسانيّتُك، موهبتُك، نِعمتُك! سببُ كَينونتِك، مُمَيَّزًا.

       هذا القلَقُ النّعيميُّ، تخافُه وتبحثُ عنه. تبحثُ فيه. تسيرُ إليه راغبًا عنه وفيه. تحيا تَناقضَك الجميل! وتستمرُّ موهبتُك مأساتك اللذيذة، وتنعمُ، أنت، في قلب هشاشة "النّعمة الدّائمة".

       قلَقُك الخَلاّقُ، هذا، جحيمُك ونعيمُك... وسببُ كَينونتِك!

 

ألاثنين 5/3/2012

 

ألقلَق (2)

ألقلَق (1)

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.