3

:: القاصّة الإماراتية فاطمة المزروعي: "صرعتُ الكآبة بالكتابة" ::

   
 

التاريخ : 08/10/2011

الكاتب : أجرت الحوار شـهـيرة أحـمـد   عدد القراءات : 1734

 


تقوم حالياً بعملية «صيانة معرفية» لأنها تخشى على روحها من العطب

فاطمة المزروعي: "صرعتُ الكآبة بالكتابة" - شـهـيرة أحـمـد

 

ذات طفولة مشرعة على شغف السؤال أدركت الكاتبة الإماراتية فاطمة المزروعي أن خلف ركام الأرواح الرتيبة جمرة مشتعلة... كان ذلك عندما ارتطمت رأسها بأربعة حروف لا غير هي حاء وراء وياء وتاء مربوطة، قررت هي عن سابق إصرار وتصميم أن تفكها من ربطتها وأن تفتحها لتتصل بياء تسبح في عنفوانها. مذّاك، صارت كلمة “حرية” هي “حريتي”.. وصارت النجوم والشهب والأقمار التي نجمت عن الارتطام خبزها الإبداعي وماء كتابتها. وصارت الكتابة صديقتها ودواءها وهدفها وحلمها وسرّها الصغير الذي تخبئه في أوراقها...

قبضت عليها وقد انفتحت لها تخومها النورانية وقررت أن تكتب لتظل حيّة... لكي تنيرها الجمرة لا أن تحرقها...

بضحكة صافية تخرج مباشرة من القلب الى الشفاه تمكنت فاطمة المزروعي من أن تستدرج الكتابة الى بيدرها في وقت مبكر من عمرها. كتبت الكثير واحتفظت به إلى أن نضجت مجموعتها القصصية الأولى “ليلة العيد” فدفعتها الى العلن ثم جاءت “بلا عزاء” و“وجه أرملة فاتنة” و“زاوية حادة” و“كرووووك” وغيرها من الكتب.

 

 

فاطمة هذه الأيام قررت أن تتأنى في نشر جديدها. أن تصمت وتدخل في طقس التأمل والقراءة. لنقل إنها تحاول “صيانة” روحها ووقايتها من الآفات الثقافية؛ فالمبدع مثل البيت يحتاج إلى نوع من إعادة التأهيل أو الصيانة بين فترة وأخرى. الأرواح قابلة للعطب السريع في هذا العصر الذي يحفل بالأعطاب، وإن أصابها العطب لن ينجح شيء في شفائها.

هكذا مسَّني السحر

كيف مسَّك السحر، وما الذي أخذك الى الكتابة؟

الرغبة في التحقق. الذات المتوترة المشبعة بقلق المعرفة. الأسئلة التي كان يضج بها رأسي ولا أجد فسحة لطرحها إلا على الورقة التي كان صدرها أكثر اتساعاً واستيعاباً لي من المحيطين بي الذين كانوا يستهجنون أسئلتي ويصدونني بكلمة “عيب”. ربما كانت أسئلة جريئة أو صادمة من طفلة لكنها كانت ترتد اليّ. ظلت معلقة هناك في سقف الروح ولم تجد متنفساً لها سوى القلم والورقة. هذه أكثر الأشياء التي تغزو ذاكرتي أمام سؤال كهذا. الرغبة في البوح، في التعبير عن الذات، في تفريغ الانفعالات التي كانت تمور في داخلي وتكبر في أعماقي. كثيرة هي الأشياء التي أدخلتني الى عوالم الكتابة. ربما من أهمها الرغبة في التواصل مع العالم الخارجي الذي كان بعيداً عني في عزلتي القسرية. شكلت الكتابة بالنسبة ثقباً أنظر منه الى الحياة التي تحدث حولي فيما أنا أكتفي بالمشاهدة. أشياء الطفولة هذه وأسئلتها المحرجة أحياناً لا يعبر عنها المرء إلا في وقت لاحق. يندهش الآخرون كيف تكتب إنسانة مثلي: محجبة، خجولة، هادئة، وحيدة او ميالة الى الوحدة، لا تختلط بالعالم الخارجي، بهذه الجرأة. بالنسبة إليهم يبدو الأمر غامضاً أو غير مفهوم. بالنسبة إلي ليس سوى تعبير عن جزء خفي من شخصيتي التي لا يعرفونها. هم يرون الصورة الخارجية فيستغربون!.

قبل أن أكتشف الكتابة حاولت طرح أسئلتي وما يؤرقني على بعض الصديقات فلم أجد غير الرفض. كانت ردود الفعل صادمة فأخذتني الى نفسي وانكفأت عليها، ثم شيئاً فشيئاً صرت أعيش في عزلة صغيرة أكتب فيها كل ما يعنّ لي. كنت أشعر بالسعادة والخوف معاً. كان هذا سرّي الصغير. الآن أدرك أنني كنت أمارس حريتي التي لم أتمكن من ممارستها في الواقع. صارت الورقة صديقتي التي أبوح لها بكل ما أريد ولا تصدني. لا تغلق أذنيها ولا تمل مني حتى لو كررت حديثي. لا تتعب مني. لا تعتذر بأنها مشغولة. لا تشكو. لا تتضايق بل تفتح صدرها لي في كل آن. صار عالمي الأبهى يتجسد في الورقة. وصرت ارسم في حضرتها أفكاري وما يشغلني. أنفس عن كل ما يزعجني او يؤلمني او يفرحني. كانت مساحتي الكاملة التي لا يشاركني فيها أحد. في البداية كنت أشعر بالقلق والتوتر حين أمسك بالقلم لأكتب... ثم مرة بعد مرة صرت أكثر راحة وسلاسة في التعبير عني. مع المران والتمرس صرت أكثر ثقة وأكثر جرأة وأكثر حرية في التعبير عن نفسي ودقائق حياتي. الآن أعي أنني كنت أمارس حريتي في عزلتي الصغيرة. العزلة افادتني كثيراً. كانت واحتي الروحية للتأمل والقراءة. وبفضل الكتابة لم أعد محبوسة في غرفة وبعيدة عن الناس.

محرمات اجتماعية

ثمة من يرى أن المشكلة في الكتابة الإبداعية أنها تستلزم الكثير من الجرأة وربما اختراق “تابوات” أو محرمات معينة ومن هنا يأتي الرفض او المنع، ما رأيك؟

هذا كلام دقيق الى حد كبير. نحن نعيش في مجتمعات تحكمها ثقافة ذكورية تنظر الى المرأة نظرة قاصرة. أما المرأة المبدعة فهي موضوعة في دائرة الاتهام. إذا كتبت ينظر الناس إلى ما تكتب على أنه تجربتها الشخصية وهذا يعتبر في بعض المجتمعات “عار”. لهذا ربما يرفض الأب أو الأخ أن تكون ابنته او أخته كاتبة خاصة إذا كانت تكتب الشعر او القصة أو الرواية. ثمة من لا يستطيع أن يتجاوز فكرة ان الكتابة “عيب” أو ينظر إليها كما لو كانت فعلاً شائناً أو خطأً. المشكلة أن المجتمع، بل وبعض النقاد، لا يتخيلون أن المرأة تكتب عن المجتمع وقصصه وحكاياته ومما تسمعه وتشاهده وتقرؤه. الكاتب يجاهد لكي يجدد في أساليبه الفنية وتقنياته ويذهب في التجريب والتجربة الى مدياتهما القصوى فيما المرأة الكاتبة تجاهد لكي تحافظ على حقها في الكتابة ولكي لا تخسر أسرتها في بعض الأحيان وقد تتخلى عن الأولى لصالح الثانية لتعيش على الحسرة والشعور المضني بالغبن.

الظروف الاجتماعية قاسية على المرأة المبدعة، ضاغطة، معقدة، وأشعر أحياناً أنها مثل حبل يلتف حول أعناقنا ليمنع عنا الحياة. الكتابة هي النفس الذي يمدنا بالحياة. المرأة المبدعة مسيجة بالمعاناة. تخوض حرباً شبه يومية لكي تنشر قصيدة أو كتاباً. كل قصة معركة. كل قصيدة سهم تطلقه ليصيب التقاليد التي تجور عليها بلا سبب منطقي. الكاتبة العربية معجونة بالألم، هو ماؤها وهو مصدر إلهامها ونبعه ووحيه، وهو المادة الأولى التي تشكل العمود الفقري لأي مشروع إبداعي. لكن ثمة أنواع من المعاناة يمكن أن توقف تدفق الشريان الإبداعي فيجف ويموت وتذهب صاحبته الى الإحباط والمرض وربما الجنون. بعد هذا كله يأتي الإعلام الذي يظلم الكاتبة الجيدة بالتجاهل والتهميش فيما يفتح ذراعيه لكاتبة نصف موهوبة أو ربع موهوبة فقط لأنها تكتب عن الجسد بشكل إغوائي أو إباحي. وفي المجمل لا تتمتع المرأة المثقفة بالحضور الذي يناسب إنجازها في وسائل الإعلام، واللاتي يبدين اهتماماً بالقضايا الاجتماعية الجادة ويتناولن موضوعة المرأة بطريقة لا تناسب الغرب يحتللن المقاعد الخلفية من المشهد الإبداعي العربي مهما كانت مساهمتهنَّ جادة ونوعية.

تعددية إبداعية

جربت اكثر من شكل للكتابة: الشعر، القصة، الرواية، ما سرّ هذه التعددية في إنتاجك الإبداعي، وكيف تنظرين الى حضور كل منها في ذاتك المبدعة؟

في كل واحد من هذه الأشكال أعبر عن نفسي بطريقة مختلفة. في القصة أشعر كما لو أنني ألعب وتغمرني متعة لا يمكنني وصفها. في الشعر أشعر أنني طفلة وأنني أغني في الحقول. في الرواية وجدت مساحة واسعة تستوعب الآلام والشروخ والأزمات وتصلح لبناء عوالم جديدة. الرواية صالحتني على نفسي. أعادتني للحياة بحياة أخرى. نحن نذهب الى المستشفى للعلاج من أمراضنا. الكتابة هي دوائي وعلاجي. الكتابة هي التي خلصتني من الكآبة والقلق والعزلة. أحب الشعر كثيراً، إنه ملاذي وسندي في هذا العالم الموحش. به أستعيد طفولتي. يؤرجحني الشعر على أكثر من بحر. يغويني، يفتح لي عوالم لا متناهية من السحر والجمال. أحياناً أشعر أن القصيدة هي التي تكتبني ولست أنا من تكتبها. منذ البدء كنت أسعى لقول ذاتي، للتعبير عن نفسي، للنجاح في تحقيق أي إنجاز مهما كان صغيراً. تعددت الأشكال لكن الغاية في ظني واحدة. وما أريد قوله هو هو لا يتغير بل يتغير الشكل وربما الأسلوب. لا أعرف إلى أين ستأخذني الكتابة. أبحث عن شيء أتعلق به أو أستقر عليه. تنقلت بين هذه الأجناس الأدبية بسبب القلق. كنت أريد التعبير عن مشاعر فياضة تموج بها نفسي. لم أستقر بعد ولا أعرف على بحر أي جنس منها سترسو سفينتي. كثيرون قالوا لي إن عليَّ التركيز على جنس بعينه لأن هذا أفضل إبداعياً. شعرت بالخوف لأنني بصدق أجد نفسي في كل هذه الأشكال. هي حالة تتلبسني فأكتبها فتأتي في شكل معين ولا يمكنني إجبارها على أن تكون في شكل آخر. لست قلقة من هذا الأمر وعندما يحين وقت هذا النوع من الاختيار سوف تنفرز الأمور بشكل تلقائي.

ما أكثر ما يقلقك إبداعياً وفكرياً؟

كثيرة هي الأشياء التي تؤرقني على المستوى الإبداعي منها على سبيل المثال لا الحصر:

يؤرقني أن العربي لا يقرأ ولا يهتم بالمعرفة، وترعبني الاحصائيات التي تنشر عن حجم القراءة وتدنيها وأن الكتاب في ذيل قائمة اهتماماتنا. بل إن القراءة باتت فعلاً مستهجناً من بعض الناس وكأن صاحبها يقوم بفعل خارج عن المألوف خاصة إذا كان الكتاب في يد امرأة. فالنظرة السائدة لدى الغالبية العظمى من الناس أن عليها الاهتمام بجمالها ومظهرها وأناقتها وملابسها وصالونها وغير ذلك من المظاهر السطحية أما أن تهتم بثقافتها او تولي عقلها عشر ما توليه لهذه من الاهتمام فتلك من الأمور المستغربة.

يؤرقني ويؤسفني أن نسبة الوعي متدنية بين النساء وأنهن فهمن الحرية بشكل خاطئ. الحرية ليست تغييراً في الشكل الخارجي فيما الداخل قاحل. هذا تغيير قشري، صورة لا أكثر ولا أقل وأعتقد أنه تراجع وليس تقدم.

تؤرقني الصورة السلبية التي تقدم بها المرأة في وسائل الإعلام التي تركز على الجانب التجاري وتستخدم المرأة في عرض الإعلانات والترويج لكل منتج سواء كان له علاقة بها أم لا، والأدهى أن الصورة التي تقدم بها تهدر إنسانيتها وتحولها الى سلعة. ناهيك عن ظهورها في الأغاني والكليبات في حالة يرثى لها من العري. يؤرقني ان العلاقات الإنسانية بين الناس الى اضمحلال، وأن الفردانية والانكفاء على الذات في ازدهار. بتنا لا نعرف بعضنا بعضاً رغم أن الباب مقابل الباب والجدار ملتصق بالجدار. كل يهتم بشؤونه وشجونه ولا يعنيه قريب ولا جيران. أين ذهبت تلك الألفة التي كانت تعمر البيوت والفرجان؟ ماذا حدث لنا؟

رسائل المَنام

الأحلام مادة ثرية للكتابة وهي تحضر في غير نص من نصوصك، هل تعتبرين أحلامك رسلاً وهل توظفينها كرسائل؟

أنا من الذين يحلمون بكثرة. لا يكاد نومي يخلو من الأحلام. وفي بعض الأوقات ساعدتني الأحلام على البوح وإيجاد الكلمات التي أبحث عنها. الفلسفة ايضاً فعلت الشيء نفسه وإن في عالم الواقع. أحب الفلسفة لأنها تضيء المناطق المعتمة في داخلي. أحياناً تجيب على سؤال يعذبني وأحياناً تأخذني إلى عذاب أكبر لكنها في كل الأحوال تعرفني أكثر على نفسي وتقربني منها وتصالحني عليها. كثيرة هي الأحلام التي تحولت الى مشاهد في قصصي أو روايتي.

هذا عن الأحلام/ المنامات فماذا عن الأحلام/ الطموحات، ما هي أحلامك على صعيد الكتابة والحياة؟

لا أعرف.. ولا أملك إجابة على سؤال صعب كهذا!. لا أستطيع التنبؤ بما يمكن أن افكر به بعد ساعة فما بالك بعد سنوات أو في المستقبل. لا يمكنني التيقن من اي شيء بعينه. أحلم بأشياء كثيرة بالطبع لكن تحققها رهن بما أنتجه. ربما أعمل على الوصول الى قراء جدد. أن أدخل مدناً لم أدخلها.. وأصل الى بشر لم أصل إليهم. لا أتحدث عن الانتشار او التمدد الإعلامي بل عن التغلغل في ضمائر الناس عبر قصة أو قصيدة أو رواية تحاكي توقهم وأشواقهم. أفكر في أهمية أن يكون للمثقف ثقلاً ما يقدمه الى الآخر... يقدم وطنه أيضاً الى الآخرين. لا خطة لدي واضحة سوى أن أكتب وأكتب.

عرفت أنك تكتبين رواية جديدة، حول ماذا تدور؟

هي رواية تتموضع بين الفلسفة وعلم النفس. في روايتي السابقة “زاوية حادة” ركزت على عوالم الطفولة وما فيها من جوّانيات تأتلق في الروح. كان خياراً موفقاً على ما أظن. أما الآن فيشغلني موضوع الشخصية الإنسانية، تركيبتها البسيطة المعقدة في الوقت نفسه/ أحلامها/ طموحاتها/ سلوكها في المواقف المختلفة/ باختصار أعمل على الجانب النفسي والداخلي. الإنسان المعاصر ومأزقه الوجودي إن شئت الدقة هو بطل روايتي.

 

ماذا عن الشعر؟

لديَّ ديوان لكنني لا أريد التعجل في نشره. أنا الآن في مرحلة مراجعة أو وقوف مع النفس. لديَّ الكثير مما أريد قوله لكنني أريد أن أقوله بشكل لافت إبداعياً. الآن أنا في حالة قراءة دائمة. المبدع مثل البئر يمكن أن ينضب إن توقف عن القراءة وفي حال استمر في الإبداع من دون أن يضيف رصيداً جديداً الى مخزونه الإبداعي سوف يكرر نفسه وموضوعاته وأنا لا ارغب في أن أكرر نفسي.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.