3

:: يقولون : إن "شِعرنا لم يعد صالحًا لهذا الزمان" - حوار مع البروفيسور عبدالله بن أحمد الفَيفي ::

   
 

التاريخ : 25/09/2011

الكاتب : حوار: انشراح سعدي   عدد القراءات : 2492

 


 

 

 

يؤكّد أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي- الشاعر والناقد والأكاديمي العروف- أن المتفحّص لمستوى المعرفة باللغة العربية اليوم لدى جُل من يكتبون قصيدة النثر سيذهل لضعفهم في اللغة العربية.. كما يهاجم د. الفيفي ثقافة الاستيراد لدينا داعيًا إلى تأسيس لنقد عربي...

 

*  يقول عبد المعطي حجازي "إن قصيدة النثر بعد مرور أكثر من قرن على ظهورها لم تستطع أن تقنعنا بأنها قصيدة"، وأنت جئت بمصطلح جديد تزاوج  فيه بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة (النثريلة) على ماذا أسست  هذه التسمية؟؟

-  وكيف يقنعنا النثر بأنه شِعر؟  ذاك هو التحدّي.  وهو تحدٍّ- للأسف- صار في كفّ غير مالك؛ أي أن أحدهم يبدأ مشواره في الكتابة بادّعاء الإتيان بما لم يستطعه الأوائل، فيسمِّي خواطره وأسجاعه شِعرًا، فإن قيل : كيف؟  قال : "قصيدة نثر"  ثم يجد- لأسفٍ أكبر- من يوهمه بصحّة ذلك، حتى تستعصي حالته على العلاج، وحتى تصبح صدمته في مَن يبوح له بغير وهمه لا تُحتمل.  فإذا هو يتعامل مع إشكاليته تلك بمنطقيّة : "يا قاتل يا مقتول"  أمّا ما أسميتُه أنا (قصيدة النَّـثـْرِيْـلَـة)، فشكلٌ جديدٌ مختلف تلفت إليه نصوص من قصيدة النثر، يتمثّل في أبنية إيقاعيّة، لكنها غير منضبطة على التفعيلة انضباط قصيدة التفعيلة، ولا متحلّلة من التفعيلة تحلّل النثر، أو ما يسمَّى قصيدة النثر، كما هو نموذجها لدَى أُنسي الحاج، على سبيل المثال، ولا تخلو النثريلة كذلك من الاحتفاء بالتقفية.  ومن ثَمَّ فهي لونٌ جديد، يقع بَيْن قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة.   

 

ثقافة الاستيراد
"نحن نستورد كل شيء من الأفكار إلى الشِّعر والنثر"
"لو كنا ذوي ثقافة إنتاجية لطوّرنا نثرنا وشِعرنا اللذين يمتدّ رصيدهما إلى مئات السنين"

 

*  عادة  نحن العرب نستورد المصطلحات لا نؤسس لها؟

-  نعم نحن ثقافة استيراد، لا ثقافة إنتاج.  نستورد كل شيء : الأفكار، والنصوص، والمصطلحات، والشِّعر، والنثر، كما نستورد الماديّات، من الطائرة إلى عود الثقاب.  ولا يروق لنا من شيءٍ إلّا إذا حظي بدمغة الآخر ومباركته، وإن كان من بنات أفكارنا، أو حتى من تراثنا.  المعضلة هنا حضارية، أشمل وأعمق من الأدب والنقد ومصطلحاتهما.  ومصطلح "قصيدة النثر" نفسه أحد هذه المستوردات العتيقة، لأن مادّة هذا الشكل من الكتابة غير جديدة في النثر العربي، وإنما الجديد تسميتها المترجمة ترجمةً مغلوطة من المصطلح الفرنسي "Le poème en prose".  وكما فصّلتُ القول في كتابي : "حداثة النَّصّ الشّعريّ : قراءة نقديّة في تحوّلات المشهد الإبداعيّ"، فإن "(قصيدة في النثر)- كما هو المصطلح الفرنسي- تختلف عن (قصيدة النثر)، في كلتا اللغتين العربية والفرنسية؛ فالصيغة الأولى تؤكّد الهويّة النثريّة : " en prose : في النثر"- من حيث إن النثر ظرفٌ لذلك الكائن الملتبس : (قصيدة)- في حين أن الصيغة الثانية (قصيدة النثر) تتجاوز ذلك، لتُضيف إلى (النثر) هويّة (الشِّعر)- إذ تجعل منه (قصائد)- بل تمزج الهويّتين لتُلغي بينهما الفواصل".  وهذا محض عبثٍ معرفي ولغوي وفنّي.  على أن مصطلح "قصيدة"- كما بيّنت في بعض مقاراباتي- مصطلحٌ لا يمكن أن يقترن بالنثر بحال من الأحوال؛ لمناقضته النوعيّة لطبيعة النثر، من حيث دِلالة كلمة "قصيدة" في اللغة العربية.  وفوق هذا، فإن قصيدة النثر لم تكن، حتى في الفرنسيّة، بحركة تجديدٍ للشكل الشعريّ، بمقدار ما كانت ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان ضدّ مصيره، كما تذهب إلى ذلك (سوزان برنار). ونعود إلى القول : إننا لو كنا ذوي ثقافة إنتاجية، لطوّرنا نثرنا وشِعرنا، اللذين يمتدّ رصيدهما إلى مئات السنين، ولما انشغلنا هكذا بالتقليد، فبقينا تابعين، واقفين جوقةً خلفيّةً لتجارب الآخرين، ذات السياقات الخاصّة والمورِّثات المختلفة.  ثم- لو كنا كما ينبغي لأُمّة شِعريّة كالأُمّة العربية- لاقترحنا نحن التسميات المناسبة لأبنائنا وبناتنا؛ لأن التسمية لاحقة للمسمّى، لا سابقة عليه؛ غير أن ما حدث هو نتاج عقلية عربية منحدرة، اتّباعية لا إبداعية.  وقد لا يُلام الأفراد في مهزلة واقعٍ ثقافي متردٍّ أكبر منهم كهذا، لكن اللوم يقع حين يغيّب أيضًا الوعي بالمرض، ويُنكر وجوده، ويقصى النقد للظواهر، ويسفَّه الطموح إلى التغيير والتأصيل والبناء، وفي المقابل يُمَجَّد التسليم والاستسلام والاستلاب والتبعيبة والسير مع القطيع، بلا رؤى ولا أهداف.

 

قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة

 

*  ألا تجد أن التسمية ثقيلة سماعيا وقد تلاقي الاستهجان كما الشان مع الزمكانية التي رفضها أغلب أهل التخصص؟

-  ليس يعنيني المصطلح في ذاته، ولست متشبثًا به، فهو مجرد مقترح.  ومن ضمن إشكالياتنا الثقافية، أننا ننشغل بالجدال حول الكلمات، وننسى المحتويات.  هذا من حيث المبدأ.  على أني قد أبنت وجهة نظري في عدّة بحوثٍ منشورة، وفي مناسبات مختلفة، بدءًا من سوق عكاظ 2007 إلى محاضرة لي في اتحاد الكتاب والأدباء في الإمارات المتحدة 2011، مشيرًا إلى أن (قصيدة النَّثْرِيْلَة) أسلوب بَيْن قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة؛ ولهذا اقترحتُ له مصطلحًا خاصًّا، على طريقة العرب في النحت، مكوّنًا من (قصيدة النثر) و(قصيدة التفعيلة)، تجنّبًا لاتخاذ صيغة مركّبة من قبيل : (قصيدة النثر-تفعيلة).  ثم ما الفرق في السماع بين "نثريلة" و"تفعيلة"، ليُستثقل الأوّل ويستساغ الآخَر؟  نعم، لو رشح هذا المصطلح عن فرنسا، مثلًا، لراق وشاق أكثر بما لا يُقارن  ومهما يكن من شيء، فليسمّ الناس ذلك اللون من الكتابة ما شاؤوا؛ فما تعنيني الظاهرة نفسها، لا الاسم.  وقد أظهرتْ المقارباتُ التي قدّمتها أن بعض التجارب النصوصيّة لا تقف عند حدّ استخدام التفعيلة كيفما اتفق، بل إنها لتبتكر تشكيلات منتظمة، وكأنها تصطنع بحورًا وزنيّة، كثيرًا ما يردفها ترجيع القوافي.  وبذا حاولتُ كشف اتجاهٍ فنّيٍّ غير معلَن وتسميته كي أمنحه شهادة ميلاده المستقلّة.  وهو اتجاهٌ أرى أنه لو تكاثف وأصبح له رصيده الواسع من التجارب والاستجابات، لأمكن التنبؤ بأن ينتهي إلى فتح بدائل إيقاعية، عن عروض الخليل وشِعر التفعيلة في آن، لا بنبذ الموسيقى الشِّعْريّة العربيّة، ولكن بتخليق أشكال إيقاعية جديدة، وبروح عربية تستعيد بكارتها الإبداعية، المغيّبة في ضوضاء الاستيراد المشار إليها.

 

القصيدة الخرساء
"اللغة العربية برمّتها باتت غريبة الوجه واليد واللسان"

 

*  في كتاب عبد المعطي حجازي الموسوم "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء"، يقول : "من يكتبون قصيدة النثر  يجهلون اللغة  بدرجات متفاوتة".  ماتعليقك؟

-  أتفق مع الشاعر حجازي.  لكني سأضيف أن القضية لم تعد تتمثّل في الجهل المتفاوت باللغة، المألوفة نظائره بين الشعراء كافّة، ولكن في أن قصيدة النثر قد مثّلتْ ملجأً لكل من أراد التعبير، وهو لا يمتلك أبسط الأدوات المؤهّلة لخوضه في هذا المجال.  فقد وجدوا أمامهم مفهومًا هلاميًّا لما يسمّى "قصيدة النثر"، وفوضى عارمة في نماذجه الكتابية والنقدية، وذاك، إذن، حلّ من لا حلّ له، ومنقذ من لا صبر له على التعلّم، والتأسّس.  ولا ننسى هنا أن اللغة العربية برمّتها باتت غريبة الوجه واليد واللسان في البلاد العربية.  فماذا يفعل من يريد أن يعبِّر عن مشاعره الإنسانية الطبيعية، وهو غير جادّ، بل يبحث عن السهل "غير الممتنع"؟  ليس له إلّا أحد خيارين، فإن كان يمتلك موهبة فطرية في الشِّعر، اتجه إلى العاميّة، فصار شاعرًا نبطيًّا أو حُمينيًّا أو زجّالًا بين الزجّالين، وإن كان لا يمتلك تلك الموهبة أساسًا، وكانت تعتلج في داخله أفكار ورؤى مضطربة لا يعرف لها هوية، ولا يُتقن نمطًا لإخراجها من رأسه وصدره، نَضَحَها علينا تحت عنوان عريض هو : "قصيدة النثر".  هذا هو الواقع.  ولو استقرأ المرء تجارب هؤلاء، بدءًا من الماغوط إلى آخر القائمة، لوجد أنهم يعترفون بأنهم اندلقوا في هذا التيار التعبيري على غير أساس ولا هُدى، ولا مقصديّة لإخراج ما في أنفسهم تحت أيّ تصنيفٍ أدبي.  لكن الظروف وضيق ذات اليد من الأدوات الفنية ساقتهم سوقًا إلى ذلك الجدار.  ثم جاء من قال لهم : إن ما تنثرون يسمّى في لغةٍ أخرى : "شِعر النثر"، أو "قصائد النثر"  إذن ليكن كذلك.  ثم تطوّر الأمر من ذاك إلى ادّعاء فاحش لاحق، بأن هذا هو الشِّعر اليوم، وأن شِعرنا المعروف لم يعد صالحًا لهذا الزمان وهذا المكان  حقًّا إن المتفحّص لمستوى المعرفة باللغة العربية لدى جُلّ- إن لم يكن كلّ- مَن يكتبون قصيدة النثر اليوم، سيذهل لضعفهم المزري في اللغة العربية، وعلى الرغم من هذا فقد منحتْهم قصيدةُ النثر صدارةً إعلاميّة أدبيّة، لا يستحقّونها؛ لأن القائمين على تلك المنابر الإعلامية إمّا منهم، أو من مواليهم، أو ممّن لا يميزون الغثّ من الثمين.  علمًا بأن الشعراء كانوا، في كل الأُمم والعصور، ورثة اللغة، وأئمة أسرارها ومجدّدي حياتها.  فأين هؤلاء المساكين من ذاك؟  بيد أن البغاث بأرضنا يستنسر

 

النقد العربي المعاصر

 

*  هل يمكننا ان نأسس لنقد عربي معاصر  بعيدًا عن الغرب؟

-  بالتأكيد، لا  لا يمكن أن نكون بعيدين لا عن الغرب ولا عن الشرق.  والقول بهذا تطرّف مضادّ.  إننا واقعون، عادةً، بين فكرتين خاطئتين : فكرة أن لا نجاة لنا إلّا بالارتماء في أحضان الآخرين، ملقين جميع أسلحتنا وثيابنا، وفكرة أننا سنبقى في كوكب آخر، لا نؤثّر ولا نتأثّر.  وإذا كانت الفكرة الأولى فكرة انسلاخية، تُبَغِّل الخَيـْل، فإن الفكرة الأخرى عقيم.  قَدَر المجتمع البشري أن يكون مجتمعًا بشريًّا، يفيد، ويتفاعل، لكن ميزة الإنسان أنه يصطفي، ويختار، ثم يبني.  لأن ما معنى الإبداع؟  إنه خلاصة تجربة الإنسان الإنسان، (لا إنسان الغابة)، من معطيات الذات والاكتساب، بحيث يتمخّض إنجازه عن جديدٍ مختلف.  أمّا حين يتمخّض الجبل عن فأر، أو عن جبل آخر، أو عن سهل، أو عن لا شيء، فما ذلك بإبداع، بل هو نسخ أو مسخ، مهما أُلْبِس من زينة القوم.

                                                                               

(مجلّة "اليمامة"- السعودية، العدد 2174، السبت 19 شوّال 1432هـ الموافق 17 سبتمبر 2011، ص28- 29(

 

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

26-09-2011 03:0

isameldine@gmail.com

عصام الدين

جميل حين نقرأ لأجل التخصص

حوار ممتع


 

   
 

.