3

:: ... وإلى المئوية الثانية يا "أَبا الخالد" ::

   
 

التاريخ : 29/07/2011

الكاتب : جماليا - بيروت   عدد القراءات : 2331

 


كلمة هنري زغيب في الاحتفال بإزاحة الستارة عن تِمثال أمين الريحاني في ديك المحدي/طاميش (الخميس 28 تَموز 2001)

لِمناسبة إعلان مكتبة الكونغرس: 2011 السنة المئوية لصدور كتاب "خالد" في نيويورك سنة 1911

 

 

                                                               

نَجيءُ إليكَ اليوم، في الثالثة من مئويّاتِك! وما أغناها جميعَها، وأخصبَها في ذاكرتنا والوطن.

في العام الماضي احتفلْنا بِمئوية "ريحانيّاتك"(1910-2010) وفيها قَولتُكَ التي اتَّخذناها شعاراً لنا: "قُلْ كَلمَتك وامشِ".

وفي العام الأسبق احتفلنا بِمئوية خُطْبتِك "المدينة العظمى" (1909-2009).

وها نَجيئُك اليوم في مئوية "خالدِك"، نعتصر النُّسغ الذي حَمَّلْتَه "خالداً"، جَمّعتَ له فيه خلاصةَ الخلاصات، فَقَوَّلْتَهُ كلمتَك، ومشى بها منكَ إِلينا، ولا يزال - وسوف يبقى - طَوّافاً بها من جيلٍ إلى جيل، ومن هُنا إلى كل هُناك.

مِئَوِيَّتُهُ اليوم، "خالدُك"، حاملةٌ كلَّ أنفاسِك، هو الذي قبل قرن كاملٍ طارَ بها من شرفة الفريكة على عَلْوَة واديها إلى شرفة العالَم على علوات مانهاتِن، مروراً بِعَلْوَةِ الجسر في بروكلن، متطلِّعاً إلى السيدة العالية (تمثال الحرية) عند جبهة "إيليس آيلند"، صارخاً إليها ووجهُكَ صوب الـ"هُنا": "متى تُحوّلين وجهكِ نحو الشرق أيتها الحرية!".

مئويّتُه اليوم، "خالدُك"، حاملةٌ كذلك تسعينيةَ خطبتِك في القاهرة (1922): "أَنا الشرق، تذوب عنديَ الألوانُ كلُّها، غروبُها والفجر، أخضرُها وأصفرها، أُرجوانِيُّها والجُلَّنار".

أيَّ "أنتم" كنتَ، يا "أَبا الخالد"، وكم كثيرٌ أنتَ في رجل وصوت، تَشَعْبَنَ رجالاً وأصواتاً، وباسم "خالدَ" قام من رماده فينيقاً طار من بعلبكّ المدينةِ العظمى في العالم القديم، إلى نيويورك المدينة العظمى في العالم الجديد، وهلَّ - مثلَ لبنان - وطناً كثيراً شعَّ إلى أوطان العالم حاملاً إلى الغرب المتحرّر أصداء شرقٍ ناهدٍ إلى الحرية، صادحاً بنبرة العقل في صوت "خالد": "المدينةُ العظمى هي التي تنتصر فيها الحرية، وتسود فيها الحقيقة".

ولَم يَخِب ظنُّه "خالد". منذ مئةٍ حتى اليوم لم يَخِب ظَنُّه في قيمومة لبنانَ إلى فجر الحرية، منذ أيار 1916، إلى تشرين 1943، إلى آذار 2005 منه اندلعَت شرارةُ الثورة إلى كلّ هذا الشرق الذي قلتَ فيه قبل مئة عام: "أَنا الشرق أحتمي من العالَم بنفسي، أهلي يلبَسون الحياة، يرقصون في ظلال البان والنخيل، يُحرقون البخور في هيكل أحلامي، يَصيحون طالبين إطلاق النفس والعقل والروح والجسد، يَصيحون: لبَّيك أللهم لبَّيك، يسجدون في ساحات المدينة، بالأبواق ينفرون، وعلى الثورة يُحرّضون".

وها هو "خالدُكَ" اليوم، بطروحاته السياسية والفكرية، يَسير بين الجموع الثائرة والحشود الملتَمَّة غَضَباً بُركانياً في شوارع الشرق العربي وساحات عواصمه والمدن، يستعيدُ منكَ ما لا ينفكُّ ينادي به منذ مئة عام: الحرية والديمقراطية للعالم العربي، إصلاحاتٍ تُغَيِّر الأنظمةَ إلى أفضل، ونُظُماً تنحو صوب المدينة العظمى التي هاجر "خالد" من بعلبكّ إلى نيويورك باحثاً عنها، ورُحتَ أنتَ تُطَرِّزُهُ كتابةً دقيقةً كما خيوطُ النول استمدَدْتَ تقْنياتها من كرخانة الحرير قبالة بيتك في الفريكة، أضَفْت إليها من قطن أميركا وصوفِها ما نسَجْتَ منه ثوباً "خالدياً" يَجمع شرقاً إلى غرب، مناقضاً سلَفاً ما ادّعاه كِپْلِنْغ لاحقاً من أنّ "الشرقَ شرقٌ والغربَ غرب"، وما أثاره هانْتِنْغْتُون من صراعٍ للحضارات بين الدول ناجمٍ عن خلافات ثقافية ودينية بين الحضارات الكبرى.

ولم تيأَسْ ولا يَأَّسْتَ "خالدَك"، فلم تَجعلْه "دون كيشوتَ" الأحلام المستحيلة، وتَخطّيت ثربانتس بقُوّة رجائك الإنساني، ورُحتَ تضع في صوته "الخالدي" إصلاحاً دينياً، يبدأُ بفصل الدين عن الدولة، ويَخلُصُ إلى تقويض مقولة "شعب الله المختار"، زارعاً شرقَ الرومنسيا والنوستالجيا في غرب العقل البراغماتي، من أقصى الشكّ إلى أوّل اليقين، فكتبْتَ ما وجد فيه قارئُ الشرق مَنْفَذاً لنَدْهة السؤال، ووجدَ فيه قارئُ الغرب شُمولاً في النظرة إلى الكون، وتبشيراً بالحب الإنساني، ونصيراً لكل قيمةٍ أخلاقية نبيلة.

بذلك، يا "أبا الخالد"، كنتَ قبطانَ السفينة التي، قبل مئة عام، حَمَلَتْ إلى مرفإِ نيويورك غيمةَ الفكر المهجري التي - بعد "خالدِك" - أَمطَرَتْ "مصطفى" جبران وميتراه على شاطئ أورفليس، وأمطرَت شمادم وأفكارَه على فُلْك "مرداد"، سياقاً من جبران إلى نعيمه إلى روّادِ الأدب المهجري، فكنتَ أباهم جميعاً ولو أَنكَرَ بعضُهُم أُبُوَّتَك.

إنه السؤال الأكبر رحت تلاحقه بين الفريكة ونيويورك، ومن الفريكة إلى عواصم العرب ومغانيهم وملوكهم، تؤرّخ لهم، تسعى لهم، تقترح لهم، حالِماً بِدُوَلٍ لهم "مُتّحدة" على صورة ما ألِفْتَه في أميركا من ولاياتِها توحّدت في دولة متحدة، وما تنكَّرتَ للمنبع المبارَك الأول الْمُنهَلّ من الجبل المقدس، نَهَلْتَ عذوبتَه في قلب لبنان، ولم تُكملْ نَهْلَكَ كلّه، لأنك لم تتوقَّع يوماً أن يَسقط بكَ العُمر عن درّاجة.

يا "أبا الخالد": باسم عمرك الذي قضيتَه رحلاتٍ تلو رحلات، بين سفينة أربعينية الوجهات، وجَمَلٍ صحراويّ الفلوات، وبغلة مَحبوب إلى قرى لبنانيات، أَسفاراً جميعُها من الفريكة وإليها، نُهَنّئ عمْرَكَ اليوم يرتاح على مدخل ضيعتك الغالية. فمنذ اليوم لن يَمُرَّ إلى الفريكة مَن لا يَمُرّ بكَ على بوّابتها هنا، شامخَ التذكار، ريحانِيَّ المزار، قلتَ كلمتَكَ ومشَيْت، ولا تزال كلمتُك تتردّد جيلاً بعد جيل من هنا إلى كل هناك.

فالتحية إلى "خالدك" في مئويته الأولى.

وإلى اللقاء في المئوية الثانية، يُحييها بعدَنا من سَيكونون هنا، وتكونُ أنتَ معهم كما أنت معنا اليوم، وستكون كلمتُك في المئوية الثانية، هِيَ هِيَ، حيةً نابضةً في ذاكرة التاريخ، لأنّ صوتَ "خالدِك" صوتَ الحرية كان، وسوف يبقى، في كل مئويةٍ مقبلة، صوتَ الحرية التي يزول كلُّ صوتٍ، وصوتُها باقٍ مُشْرِقاً لا إلى زوال.

                                                                هنري زغيب


email@henrizoghaib.com

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.