3

:: حول كتاب "على حافّة الكلام" (مقالات في القيم والاجتماع) ::

   
 

التاريخ : 04/07/2011

الكاتب : حكمت حنين   عدد القراءات : 1787

 


بعد الكلام المعمّق والغوص على الأبعاد الفلسفية والدينية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية والصوفية لمضمون كتاب "على حافة الكلام" لإيلي مارون خليل سأتوقف عند الغلاف والمضمون والأسلوب.

        أوّل ما استوقفني في الكتاب غلافه.

        بحثت في الغلاف الأول عن اسم مؤلّفه فرأيته بعد حين ضائعًا في كم كثير من الكلام المبعثر يغطي بعضَه عنوانُ الكتاب وتصنيفُه ضمن مربع أحمر مؤطرٍ بأسود يحصره، وفي أسفل الغلاف خطّ أسودُ عريضٌ يبرز حسن البياض الذي يشكل قاعدة كل ما على الغلاف الأول.

        ثمّ انتقلت إلى الغلاف الأخير فوجدت فيه صورة صغيرة للمؤلف مع سيرة مختصرة جدًّا له، وهما ضائعان من جديد في كلام كثير مبعثر على قاعدة بيضاءَ يُبرزها الخط الأسودُ العريض في أسفلها.

        إنّ الغلاف بوجهيه لوحة لافتة تعكس أناقة إيلي في العناية بإخراج كتبه قلبًا وقالبًا. وإضعافُه لإبراز اسمه وصورته وسيرته انعكاسٌ لتأثره بالزهّاد والمتصوّفين الذي يبرز في مقالاته حول القيم والاجتماع. وهو تجسيد لايمانه بخلود الكلمة وأثرِها الخالد الذي يتخطى الفناء.

        ثمّ لفتتني أناقة الطباعة ونوع الورق المستخدم ووضوح الحرف المستخدم للطباعة. وأهم من ذلك أنّني نادرًا ما وجدت خطأً لغويًّا أو نحويًا أو طباعيًا. ايلي المعلّم حريص على أن يتجنّب الخطأ لأنّ خطأ المعلّم يترسّخ في أذهان طلاّبه، والخطأ المترسِّخ في الأذهان يستوجب زمنًا طويلاً وجُهدًا مضاعفًا لاستئصاله.

        أمّا مضمون الكتاب فقد لفتني فيه مصادر إيلي التي استقى منها هذه المقالات. وقد وجدتها في ما يأتي:

أوّلاً: بيته الأبوي وفي هذا البيت ركنان متساويان في الأهمية من حيث التربية والتوجيه والارشاد هما الأب الخوري مارون والأم. وربما يعود إلى هذه الثنائية الناجحة تركيز إيلي في مقالاته على التعاضد والتكامُل واستخدامه لصيغة "تفاعل" في جمله.

        ايلي خليل: اسم وشهرة كثيرا الترداد في كسروان، لكن ايلي مارون خليل اسم مميّز. إذا ناديت ايلي خليل قد تسمع ردودًا، لكنك إذا ناديت ايلي مارون خليل فقد لا يجيبك إلاّ واحد هو مؤلِّفُنا الحبيب. ايلي حريص على أن يُقْرِن اسمه باسم أبيه الخوري مارون حيثما وقّع اسمه. تربّى ايلي على قيم مسيحية لبنانية مثالية تجمع عليها الأديان جميعها. استقاها من ذاك الخوري الذي عرفْتُهُ من كلام ايلي عليه.

        أخْتَصِرُ ذلك كلَّه بحوار بسيط دار بين الابن والأب الكاهن نقله إليّ ايلي ذات مرّة.

سأله ايلي: لم لا تعظ كما يفعل سائر الكهنة؟

فردّ الأب: أفضل عظة يلقيها الكاهن يا ولدي هي سيرته القدوة بين الناس.

        كان الخوري مارون قدوة لولده ايلي، وكان ايلي خير خلف لخير سلف. وأراد ايلي تجسيدَ سيرة أبيه فأبّدها في كلامه على القيم. ويكفي قارئ هذا الكتاب أن يعود إلى مقالة "الضمير" ص 71 ليتأكد ممّا ذكرت.

        ولا يقل فضل أمّه في تربيته على القيم عن فضل أبيه، ففضلُها كبيرٌ جدًّا بل ربما كان أكبر من فضل أبيه. فإذا راجع القارئ مقالة "النعمة" صص(91-96) يستنتج أنّ كلام ايلي على النعمة مستقى من أمه وهي التي قال عنها في ص 93: "ما كانت أمي تعرف القراءة، ولا الكتابة، فمن أين "مفهومها" للنعمة؟ من حبها، من خبرتها، من أخلاقها. من تربية والديها "الأميين". أما كانت "الأمية" أسمى من "معرفة" اليوم؟"

        ويضع ايلي في سؤاله كلمتي "الأمية" و"معرفة" بين مزدوجين فكأنه يلمح ضمنًا إلى سخريته من معرفة اليوم المسطحة التي تهتم بالكم لا بالكيف. وبأن الحب والخبرة والأخلاق أرفع قدرًا من المعرفة في التربية.

        إلى جانب بيته الأبوي هناك مصدر ثانٍ مهم وهو مسقِط رأسه: قريتِه وطى الجوز. وطى الجوز القرية الهادئة الوادعة أوحت كثيرًا لإيلي في كل نتاجه. حتى هنا، في موضوع القيم والاجتماع لا يستطيع أن يتفلت من ذكر وطى الجوز، طبعًا صورة وطى الجوز ما قبل عهدها بالكسارات والمرامل والجرافات والشاحنات والتلوث، هذه الصورة ما زالت ماثلة في أعماق عقله وقلبه وعلى رؤوس أقلامه.

        ففي مقالته "النجاح نشاط اجتماعي" ص 49 يفتتح كلامه بربط النجاح بالطموح. وفي مقدمة من أربعة أسطر على هذا الربط لا يستطيع ايلي إلاّ أن يختم بتشبيه يستمدّه من وطى الجوز إذ يقول: "ما تطمح إليه... يتفجّر... بهيًّا كشمس آب في "وطى الجوز"."

        وفي مقالة "الحنين حياتك الثانية" ص 137، وقبل أن يختم في ص 140 هذه المقالة المؤلفة من أربع صفحات يقول: "نحنُّ إلى..." ويعدّد أمورًا كثيرة يحنّ إليها، ثمّ يتابع: "نحنّ إلى "وطى جوزك" التي باتت وطى الكسّارات وخِيَم النايلون"..."

        إيلي لا يستطيع، في كتاب من مئتين وعشرين صفحة على القيم والاجتماع، وهو كتاب فكري ذو أبعاد فلسفيّة تصوفيّة دينيّة اجتماعيّة أخلاقيّة تربويّة، إلاّ أن يعود إلى ذكر وطى الجوز التي تسكنه كروحه.

المصدر الثالث لمضمون هذه المقالات ثقافة ايلي وهو قارئ نهم وجوّاب معارض كتب يشتري منها الأعلاق والنفائس على الرغم من توافر كثير من المعرفة على شبكة الانترنت وهي في متناول يديه. إنه صديق حميم للكلمة والكتاب. هو عشير عمر للحرف والقلم والورق.

        من هذه الثقافة يستقي كثيرًا من المعرفة والآراء التي يكتسبها ويصبها من جديد في قالب خاص به حتى لتبدو وكأنها من ابتكاره، وإلا فأين الابداع في صياغة القديم؟ وما الحاجة إلى الجديد إن كان يحاكي القديم محاكاة؟

        والمصدر الرابع لايلي في هذه المقالات حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية. ايلي تربوي وأديب وشاعر وقصاص وكاتب مقالات، وهو زوج وأب وجد، وقد نسج شبكة علاقات اجتماعية مميّزة حيثما حلّ وارتحل..

        فإذا راجعنا مقالاتِه "الصداقة" و"في مسألة الموت" و"الكلمة جسد المقال" و"زبد الأحلام" و"الكهنوت بين التربية والشعر" نجد كلاً منها خلاصة علاقة اجتماعية انسانية معينة تجسد مبادئه والقيم التي يتمسك بها.

        أما أسلوب ايلي فإنه نبض قلبه وتوتر أعصابه وعصف فكره. إنه إيلي نفسه على ما قال الناقد الفرنسي بوفون. هل تأملتَهُ يمشي، ينظر، يتنفّس، يدرّس، يتحرّك، يتكلّم. تكاد لا تسمعه وهو يحادثك. إنّه الهدوء، السلام، الطمأنينة، السكينة. وهذا ما انعكس في اختيار كلماته. كتابه مليء بحقل معجمي للتفاؤل يكاد القارئ يعجز عن رصد عناصره. من هذا المنطلق يكتب إيلي الجُملة كِلْمةً كِلْمةً فكأنه بفواصله بين الكِلْمة والكِلْمة يدعوك لتقف عندها وتتأمل في عمق معناها، بل معانيها التضمينية. إنه ليس رصّاف كلام، بل هو نحّات يُعْمِلُ إزميله في حجارة حروفه وكِلْماته، فينتقي ما يجب أن يبقى، ويزيل ما تجب إزالتُه، فتخرج المقالة أو القصيدة أو الرواية أو القصة من بين يديه آيةَ إبداع يكادُ لا يُجارى فيه.

        إن ايلي مارون خليل علامة فارقة في عالم الكتابة الشعرية والنثرية الفنية الراقية، فهل يكون علمًا من أعلام الكتابة يومًا ما؟

        إن الأعمال التي أصدرها حتى الآن وهي كثيرة، تؤكد ذلك. فإلى مزيد من العطاء الخلاق يا ايلي. وسَلِمَ عقلُك وقلبُك وسَلِمَ قلمُك ويداك. وشكرًا.


مداخلتي حول كتاب "على حافّة الكلام" (مقالات في القيم والاجتماع)

لايلي م. خليل. أُلقيت مساء يوم الجمعة 6/أيّار/2011

في ندوة عقدت حول الكتاب في خيمة "لقاء الاثنين – كسروان" (سهيلة)

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.