3

:: «حبر لأوراق الذاكرة» - تاريخ ما لم يكتبه التاريخ ::

   
 

التاريخ : 15/03/2011

الكاتب : جان كميد   عدد القراءات : 2076

 


 

 

طالما فكّرت، إذ أنا في مجال استعراض الحقائق، بتلك العبودية النفسية في الناس، التي تدفعهم إلى التوجّه دائمًا نحو «العظماء»، أولئك الذين هم أو كانوا على رأس الدول، أو في مناصبها الكبرى، أو قادة للجيوش أو للثورات، أي في مراكز طليعية تشهر أسماءهم وتُذيع «مآثرهم» على الملأ. فهذا سياسي داهية، وذاك قائد ألمعيّ حقق انتصارات باهرة، أما «الأدوات» التي حقق بها هذه الانتصارات، وذهب منهم ضحايا وجرحى ومعاقون من أجلها، فما نصيبهم من إنصاف التاريخ لهم سوى إقامة نصب لـ «الجنديّ المجهول»، وفي تسميته اعتراف بأن أسماء هؤلاء وأشخاصهم ستظل مطويةً مجهولة، يطغى عليها اسم القائد ويُنسب كل الفضل إليه. هكذا يستعين الأفراد بالجماعات، ويقطفون الثمار التي زرعها «المجهولون».

وطالما تساءلت في نفسي كم ان التاريخ يظل فقيرًا إذا اقتصر على ذكر الأعمال الكبرى، فلا يحدّثنا إلا عن الحروب والغزوات، وعن التجاذبات بين الدول، والخلافات أو التحالفات السياسيّة، غافلاً عن تسجيل الأمور المعتبرة صغيرة التي تتألف منها حياة الشعوب في الحقيقة، والتي، في أحيان كثيرة، كانت مبعث حصول الأمور الهامَّة التي سجَّلها المؤرخون.

ومن هذه الأمور «الصغيرة» ما تحفل به ذاكرات رجال رافقوا مرحلةً من المراحل، وشهدوا فيها أحداثًا لا يمكن للأمانة التارخيّة اهمالها، ومع ذلك فقد مرَّ بها كتبة الحوليات مرَّ الكرام.

وهناك مشاهير يدينون بشهرتهم لمغمورين كانوا يقفون وراءهم، فاعاروهم عقولهم وأقلامهم وظلوا هم في الظل. هذا ما دفع كاتبًا علا ضميره المهني على كل الاعتبارات، فدخل في حميميات رجال فكر وأدب وسياسة يستخرج ما في جعبتهم من ذكريات عن مراحل عاشوها وحقائق لمسوها وأمورًا شاهدوها وكانوا يحتفظون بذكراها لأنفسهم، فجاءهم مَن يفك عنها الرصد ويُعلنها، وفي اعلانها حفظٌ لها وابقاؤها حية وتخليد العلم بها.. حين كانت مهدَّدة بالانطواء مع انطواء مَن كانت قابعة في صدورهم لم يُكشف، قبل ذلك، عنها نقاب.

هذا الكاتب الضنين بالحقيقة أن تُغفل، أو تُنسى أو  تظل مجهولة غائبة عن العلم بها، هو الأستاذ جوزف أبي ضاهر، فقد طاف على شلة كبيرة من الرجال الذين ذكرت، فعاد بحصاد وفير من معلومات أدلوا بها وهي، للمحلل المدقق، لا تقلّ أهمية عمّا جرت العادة أن نُعْلي شأنه من أحداث نحسبها وحدها ما يجب أن يبقى صيته على المدى، أما غيرها فلا يستحق أن نوليه اهتمامًا لأنه لا يعدو أن يكون من ماجريات حياتنا اليومية العاديّة.

 

 

 

من جوزف أبي ضاهر ما عرفه من بولس سلامه نقله الينا من أن هناك آثارًا أدبية أو كتابات صحفية لم يَحْبر بها في الحقيقة قلم صاحب التوقيع عليها، وهو يذكرها بالأسماء ومكان نشرها.

وبفضل جوزف أبي ضاهر نعرف، على لسان الصحفي سمعان فرح سيف صاحب جريدة «الأحوال»، أن المفوض السامي الفرنسي استحدث، بسبب هذه الجريدة، بدعة جديدة غير معروفة في عالم القوانين والتدابير الادارية، وهي منع صاحب جريدة جرى تعطيلها عن الصدور بقرارٍ منه أن يُصدر صحيفة بديلة عنها.

كما نعرف بالأسماء، وبفضل جرأة جوزف أبي ضاهر في الاعلان عن الحقائق، مَن هم الذين كانوا يكتبون خطب أحد رؤساء الجمهورية، تلك التي كان فيها اعلان مواقف للدولة، وترشح منها توجهاتها السياسية. أليس في كشف هذه الخفايا أهمية تكمن في وضع الأمور في نصابها، وتبديد الاعتقادات التي لا تنطبق على الواقع؟

ويأخذ المؤلف هذا الكلام الصاعق عن لسان المؤرخ الشيخ نسيب وهيبة الخازن: «ان تاريخ لبنان ما زال صناعة يمارسها كل منا على هواه»، مستطردًا إلى كلام بول فاليري: «التاريخ يسوّغ ما نريد، ولا يلقّن علمًا بمعناه الدقيق، والتاريخ أخطر محصول أنتجته كيمياء العقل». قولان خطيران: الأول على صعيد التاريخ اللبناني، والثاني على صعيد التاريخ بالمطلق، وهما ليسا في علم السواد الأعظم من  الناس الذين يأخذون الكتابات التاريخية على علاّتها ولا يعرفون ان ما هو مسجَّل فيها لا يعكس كلّه بالضرورة حقيقة الحال كما حصلت فعلاً.

وقد التقيت شخصيًا مع جوزف في كشف بعض ما هو مجهول من طبائع الشاعر شارل قرم، فرويت، في مقالٍ لي، كيف كان شارل قرم يقتني في بيته نعشًا وهيكلاً بشريًا وجمجمة، وقد جعلها في غرفة خاصة في البيت... يقضي فيها بعض وقته، قائلاً ان مثول شبح الموت دومًا في الذهن كفيل بعدم حيادنا أبدًا في سلوكنا عن الصراط المستقيم. كما انه كان يكره ربطة العنق لأنها تتدلى إلى أسفل، مفضّلاً عليها الفراشة (papillon) لأنها ترتفع إلى أعلى. فجاء جوزف أبي ضاهر يكشف، عن لسان المحامي الأديب عبد الله لحود، غرائب أخرى في مزاج شارل قرم، وهي انه كان يطبع على نفقته كتبًا لشعراء ليس مقتنعًا بموهبتهم وشاعريتهم، وانه لم يكن يعترف بشاعرية أحد، ويحب المجاملة المبالغ بها. كما يذكر من تناقضات شارل قرم ما ذكره له عبد الله لحود من انه، رغم حماسته للكثلكة، تزوّج من فتاة بروتستانتية، وانه، مع كل حماسته الفائضة لكونه كاثولكيًا، كان معجبًا بالوثنيات، حتى انه، لما عرف بأن هناك رجلاً يسكن في عمشيت ويمارس طقوسًا وثنية طلب الاجتماع به.

كتاب جوزف أبي ضاهر هذا خزّان لذاكرة كبار من عندنا، جمعها كلها في مرجع واحد وقد كانت متفرقة في واعياتهم وسوف تذهب معهم عندما يذهبون، فأنقذها جوزف من الضياع، وله في هذا الفضل كل الفضل.

وماذا أقول في الأسلوب الذي يسوق فيه جوزف مرويّاته وهو في منتهى اللطف، حتى أصبحنا نستشم رائحته فور أن نبدأ بقراءة نفثات قلمه، فنعرف أن هذه الطريقة في التعبير هي «ماركة مسجَّلة» له لا يشاركه فيها مشارك.

 

أخي جوزف، زدنا من هذا التدوين لتأريخ ما لم يكتبه التاريخ، فهي الخدمة الثمينة التي تؤديها للحقيقة وللمكتبة التاريخية اللبنانيّة.

 

 

حبر لأوراق الذاكرة، الجزء الأول، كتاب لجوزف أبي ضاهر، صدر عن الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا في 160 صفحة من الحجم الوسط.

 

 

 

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.