3

:: جوزف أبي ضاهر وأناشيد الروح ::

   
 

التاريخ : 07/02/2011

الكاتب : أنطوان بطرس الخويري   عدد القراءات : 1976

 


 

تصفَّحت كتاب «هل» لجوزف أبي ضاهر صفحة صفحة بإمعانٍ وشَغف. ولمّا قرأت ما فيه من تعابير وصور ممزوجة بأهازيج واختلاجات على عُمق أغوار، ومُوشّاة بألوان من نداوات الفجر وأنفاس الرّياحين على رُواء وبَهاء، شعرت بأنني أقع على بعضٍ من زهر سماء يتساقط أمامي بين الأسطر والكلمات، وعلى بعضٍ من خمر ملائكة ينسكب في كؤوس من الحبّ والانتشاء، وعلى بعضٍ من تِبْر فكرٍ يتلألأ في ثوب من الشمس، وعلى بعضٍ من عطرِ موهبة يفوح بعذوبةٍ أرقّ من شذا الجنان!.

ولمّا قرأت همساتٍ مُوحيات هي أقرب الى النَّجاوى من الشعر، رحت أتساءل: هل هذه الـ «هل» هي أناشيد الروح من بستان طاغور، أم هي بعضٌ من نفثات مزامير داود؟ هل هي تراتيل ناسك، أم هي تسابيح طالعة من أفواه آلهة الشاعر؟!

ولمعرفتي العميقة بالشاعر جوزف أبي ضاهر الصديق الأَحبّ والأصدق، تأكدت من أنّ قلمه ما يزال يبثّ الروائع لَهوفًا على التهابٍ، بوحيٍ عُلويّ كالأنبياء.

ولمّا وصلت إلى الصفحة العاشرة من «هل» قرأت:

«يزرع الفلاّح قمحًا في تراب.

ويزرع الكاتب كلامًا في ورق.

أَيُّهما يأكل ممّا زَرَع؟

وهل يشبع؟».

فقلت: ربّما لا، لأنّ الشهيّات تتناهض دائمًا إلى المراقي.

وقرأت في الصفحة السابعة والثلاثين:

«نَسيَ الفلاّح، وهو يزرع، حبّات قمح بين أصابعه.

نَبَتت، صارت كفُّه سلّة خبز. فمّن يأكل منها لا يعرف جوعًا.

هل كفّ الفلاّح أكرم من كفّ الأرض؟».

في شرع الشاعر أبي ضاهر لم تُزهر الأحلام، ويورق الجمال، وتنهلّ السَّنايا...، لا تُضاء مشاعل ولا يطيب عطاء ولا تتحقّق أمينات ولا تفيض أريحيّات، فهو يرى في كفّ الأرض نقاطًا من عافية أبيه تصبَّبت عَرق جهادٍ وكفاح ليُطعمه رغيف الكرامة قبل رغيف الخبز، ويتلمّس بين أصابع أمّه حبّات مسبحتها دُعاءً وصلاة لتنبت في قلبه وبيته نعمة الخير والبركة.

ويتكرّر السؤال:

هلٍٍ نجاوَى المؤلف وتراتيله ومزاميره مَهموسةٌ كلُّها في أُذن الأرض وفي سَمْعِ السّماء بعيدًا عن الطقوس التي تستدعي الضّراعات، أم هي لُمَعٌ تَنزَّلت عليه شلالات نورانيّة، فتدفَّقت حكمةً وبوحًا وجدانيًّا؟

ثم أعود إلى الصفحة الثلاثين لأقرأ:

«الشجرة امرأة، تُحبّ الشّعر والغَزَل.

تضطرب لهما، تهدأ. ولا يخرج من فمها: آه.

هل لمحتم عصفورًا يقرأ عليها شعره، ويُغازلها؟»

فاستنتجت أَنّ ما جاء في كتاب «هل» من مُترفات مُتألِّقة بالوجد ومتألّقة بالحبّ، ومُتجلّية بالرّوعة كما الأيقونات، لا يُمكن الاكتفاء بقراءتها وشميمها مرّة واحدة، بل تُنهل بالشفاه قبل العيون، كالقرابين.

ويبقى هذا السؤال: تُرى هل تعب الطفل الذي في داخل الشاعر، وقد كان فيه رمزًا للوداعة والبراءة؟ أم تعب فيه الجهاد في صناعة الكلمة وصياغة المعاني، فانصرف إلى نداءات الحريّة وهتافات المعرفة، فزاد على فكره الرّهيف وَمَضات من رؤى روحانيّة وبُعد إنسانيّ، قَصد الارتباط بما هو فوق؟

لقد وجدتُ في «هل» جوزف أبي ضاهر الشاعر والأديب أعجوبتين: خَفَق شعرٍ بين حناياه، وَدَفقّ نثرٍ من سناياه، فَمَجدت الموهبة!


 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.