3

:: المثلث الرحباني المدهش[1] - ::

   
 

التاريخ : 06/12/2010

الكاتب : فاطمة ناعوت   عدد القراءات : 2567

 


 

 

 

 

 

مازلنا مع موسوعة "جماليات الإبداع الرحباني" تأليف البروفيسور السوري مفيد مسُّوح، الصادرة عن دار "بيسان" ببيروت. من ملامح ثراء تلك الموسوعة تقديمُ المؤلف كاملَ السياق الحضاريّ والفلكلوريّ والبيئيّ والثقافيّ الذي أرهصَ لكتابة هذه المسرحية أو تلك. ففي مسرحية "موسم العزّ" يرسم لنا صورةً قلميةً شاملة لطبيعة الضيعة اللبنانية النموذجية التي تحتفي بتضفير "الحبِّ مع العمل" لدى أهلها عبر الزمن مُعليةً من شأن العمل الجماعيّ المرتبط بالأرض ومواسم الحصاد. موسم العز، أو موسم قطف الحرير الذي تنتجه دودةُ القزّ الجميلة، وما يصاحب ذلك من مواسم أعراس لشباب الضيعة وصبيّاتها. راسما تأريخا بانوراميا شاملا  لذلك الطقس الاجتماعيّ الفاتن في كل أرجاء الأرض بدءًا بالصين، بلد الحرير الأول في التاريخ، ثم مرورا بكل البقاع التي سمحت لها طبيعتُها الجغرافية ومُناخُها بإنتاج هذا الكنز السحريّ الأبيض. كذلك الطقس الفولكلوري في لزوم أن يحملَ العريسُ "القَيْمة"، وهي ثِقَلٌ ضخم، تعبيرا عن قوته، فتقبله العروس وأهلها زوجا، مادام أثبه فتوّته. أيضا رقصة الدبكة التي تميّز بلاد الشام ويتقنها بنوها. ثم المباريات التي تُقام بين شبيبة الضياع من أجل المسامرة والمفاخرة بالقوة وجمال الغناء والشعر والرقص. مؤكِدا عبر كل ذلك على شاعرية الأخوين رحباني واتصالهما الحميم بالطبيعة الجبلية الفاتنة، وعمق إحساسهما بقيمة المشاعر والحب والإعلاء منها. ثم يورد مقولة عاصي في هذا الشأن: "إن الرائعَ هو ما كان منسجما مع الطبيعة والحياة." ونكمل الأسبوع القادم.

سنتعرف من خلال الكتاب على الشخصيات الشهيرة في القاموس الرحبانيّ تلك التي غدت أقانيمَ ورموزا تعبّر عن سمات معنوية بشرية عديدة. مثل "راجح": المخرِّب الغامض، "غيبون": الحاكم الطائش، "فاتك": الحاكم المستبد، "مرهج القلاعي": الصعلوكُ الذي أسقطته الفتياتُ من أحلامهن، وكذا نعرف من هم نواطير الثلج وسواها من مفردات الرحابنة.

في المسرحية الشهيرة "بياع الخواتم"، نتعرف على فكرة "صناعة الخوف"، من أجل حشد أبناء الوطن وطاقاتهم على مشروع يجمع شتاتهم ويوحد صفوفهم من أجل مواجهة خطر قادم. مختارُ الضيعة يخترع شخصيةً وهميةً أسماها "راجح"، وهو شرير جاء لمهاجمة القرية، حتى أنه سيغدو لدى أبنائها "الفزّاعة المرعبة". يهابون بطشه مع أنهم لم يروه أبدا بل يسمعون عن حكاياه المخيفة التي يحكيها المختار دون دليل ملموس على حدوسها. فيصدقونه ويخافون. وحين تتجسد الشخصيةُ أمام عيونهم رجلا حقيقيا يكتشفون أنه ليس إلا بياعَ الخواتم الذي جاء ليزيّن معاصمَ بنات القرية بأساوره وخواتمه! ثم يخطب لابنه غادتهم الجميلة "ريما"، فينقلبُ الخوفُ مرحًا وفرحًا وتعلو من جديد قيمةُ الحبّ، التي أفرزها الخوفُ والترقّب. "رح نحكي قصة ضيعة/ لا القصة صحيحة/ ولا الضيعة موجودة/ بس بليلة/ هوى وضجران/ خرتش إنسان ع ورقة/ صارت القصة/ وعمرت الضيعة." هذا التعميم والتمويه جاء من أجل تأكيد أن هذه الضيعة هي كلّ ضياع العالم، وأن "صناعةَ الطاغية" أو صناعة الرمز، إنما هي فكرةٌ إنسانية وسياسية عامة مارسَها كافةُ الزعماء في كل مراحل الخمول أو الضجر: "الأهالي بدّن حكاية/ أنا خلقتلُّن لحكاية/ تايقولوا إني بحميهن/ من مجهول عليهن جايي." "هايدي يا ريما مش كذبة/ هايدي شغلة حد الكذبة/ بتوعي فيهن بطولة/ بتقطف من إشيا مجهولة." أو حتى في لحظات الهزيمة تجتهد الشعوب لخلق رمز أو بطل لتجتمع حوله قلوب الناس.  "أنا جايي بيع/ هدايا المحبة/ وْلَوِّن الصَّبايعْ/ بموسم هالخطبة/ أنا يا حلواية/ صحبة الرضي/ بياع الفرح."

ثم نقرأ في المسرحية ذاتها واحدة من أجمل ما شدت فيروز: "تعا ولا تجي/ واكذُب عليي/ الكذب مش خطية/ واوعدني إنو رح تجي/ وتعا ولا تجي." وكذا الأغنية التي فتنتنا نحن أبناء مصر على مدى عقود طوال، ولا يكاد يمرُّ يوم دون أن تُذاع في الإذاعة المصرية: "يا مرسال المراسيل/ ع الضيعة القريبة/ خدلي بدربك هالمنديل/ واعطيه لحبيبي/ ع الداير طرزتو شوي/ إيدي والإسوارة/ حيَّكتلو إسمو عليه/ بخيطان السنارة/ بخيطان زُرْق وحُمْر/ وغناني الصبيان السمر/ كتبتلو قصة عمر/ بدموعي الكتيبة/ خِدلي بدربك هالمنديل/ وأعطيه لحبيبي."

نحن إذن بصدد جهد رفيع جادّ، ولغة راقية، وقراءة عميقة واعية، وإخراج أنيق، يليقُ بمحتواه، جعل من هذا الكتاب الموسوعيّ الشامل عملا فاتنا يليق بكنز عربيّ عزَّ نظيرُه اسمُه: التراثُ الرحبانيّ.

 

Fatma_naoot@hotmail.com

 


 
 

[1] جريدة "الرؤية" سلطنة عُمان- 1/12/2010

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.