3

:: أنا وفيروز والزمن طويل (3) - جلنار ::

   
 

التاريخ : 30/08/2010

الكاتب : خطيب بدلة   عدد القراءات : 4924

 


 

 

جلنار

 

 

 

سأتناول في هذا المقرأ قصيدةً هائلة عنوانها (جِلْنار)، أبدعها الشاعر ميشال طراد، ولحنها الأخوان الرحباني، وغنتها فيروز، فيروزة الزمن العربي العظيمة..

قبل أن تنضم إليَّ- عزيزي القارىء- لتشاركني قراءة هذه القصيدة، أقترح عليك، إذا كنت في البيت، ولديك تسجيل لأغنية (جِلْنار) أن تبادر إلى سماعها، وبالأخص إلى مقدمتها الموسيقية، وهي أطول قليلاً من المقدمات الموسيقية التي اعتاد الرحبانيَّان على تأليفها، وهما يفعلان ذلك، برأيي، للدلالة على طول الليل.. ثم تطلع فيروز بالنداء: يا صبح رَوِّج.

ولكن لحظة. من ذا الذي يغنّي، أو غنّى للصبح قبل هذا؟ هناك، في حدود اطلاعي، أغنية سيد درويش (الحلْوَة دي)، ولمحمد قنديل (يا حِلْوِ صَبَّح)، ولنهاوند (يا فجر لمَّا تْطّل). هل يوجد غيرها؟ ربما، ولكن هذه الأغاني قليلة جداً، لأن وقائع الأغنية العربية، من ظلم، وهجر، وبكاء، وأنين، ومرارة، ووحدة، ووحشة، وكيد عواذل، ثم صلح، فوصال، فوداد، ثم حب، وعشق..، تدور كلها في الليل، (ليل العاشقين) على حد تعبير جورج وسوف.. و(بالليل يا روحي أرتل بالأنين اسمك) كما يغني عبد الوهاب، و(يا ليل يابو الليالي) على حد تعبير عبد العزيز محمود.. إلخ.

أضف إلى ذلك أن كل مطرب يدخل إلى استوديو "طريق النجوم" أو "سوبر ستار" أو "ستار أكاديمي" وتطلب منه اللجنة أن يغني يضع يده على أذنه ويصيح: يا ليل.. وما ينفكّ يغني لليل حتى تظن أن له عليه ديوناً مستحقة، على حد تعبير صديقي المرحوم ماجد حميداني!

وإن كان جَدنا الشاعر العظيم امرؤ القيس قد خاطب الصبح، فليس لأنه يحبه على طريقة ميشال طراد، ولكنه فعل ذلك لكي يتخلص من الليل الكئيب الجاثم على صدره.. وقد تخيله مشدوداً بالحبال ومغار الفتل إلى جبل "يَذْبُل".

تتميز مخاطبةُ الصبح الفيروزية بالرقة والكياسة (يا صُبْح رَوِّج)، ولا تنسوا أن (رَوِّجْ) تعني: أوْشِكْ على الظهور، وهي مشتقة من لغة العمال والفلاحين، فإذا سألت رجلاً يعمل: لسّه مطوّل معلم؟ يجيبك: رَوَّجنا. أي: أوشكنا على الانتهاء.

تتجلى الرقة والكياسة ليس في عذوبة الصوت، وترقيقه أثناء الخطاب وحسب، بل وباستخدام عبارة (طوّلت ليلَك) التي تنطوي على شيء من العتاب، والليل هنا مملوك للصبح (يا صبح طوّلت ليلك).. تأتي بعدها كلمة (بلْكي) التي تعني (عسى) وتفيد في الإغراء والتشجيع على الظهور.. (بلْكي بْتِجِي أختَك تْغنّي لكْ، بلْكي بْتِجِي جِلْنار)..  وجلنار هنا- ويا للروعة- هي أخت الصبح!

وأرجو أنا تتذكروا أن لون الصبح في لحظة ظهوره تشبه لون زهر الرمان (الجلنار)، وإذا كنتم تذكرون فإن أم كلثوم تشبه الفجر بالحريق (وإذا الفجر مُطِلٌّ كالحريق).

في المقطع الثاني من القصيدة ترتفع الحالة الشعرية درجة لا بأس بها نحو الأعلى، فالصرخات التي تسمعها المغنية كانت (تموج في الوادي).. وهذا أمر منسجم مع طبائع الأشياء، لأن الصرخات تنتمي إلى عالم الأصوات، والأصوات لها موجات.. ولكن.. كيف (يَتَعَنْزَق) الضباب على الصرخات وكأنها، أي الصرخات، جسمٌ ملموس مجسد؟

ولكن المدهش أكثر هو أن (المنجَيرة) التي يحملها راعي البكاء تشبهه (منْجَيْرتو متلو)، وهي الأخرى مُؤَنْسَنَة، بدليل أنها بكت له لتسلّيه (بِكْيِت تَـ يِتْسَلّى).. ثم مالت عليه وجعلا يتناجيان بصمت.. فيا ترى بماذا تهامسا: شو قَوْلْكُن عَ السّكِت قالِتْلُو؟- شو قَولْكُن قالاّ؟..

الشاعر الذي كتب القصيدة يعرف، والمغنية فيروز تعرف أن (المنجيرة) قالت له (ع السّكت):

خلّيك حَدّي تا يْروق الجو- وْرَنْدِح وْسَمّعْني- ولِمِّن بْيِطْلَعْلَك يا راعي الضّوّ- تِبْقى تْوَدّعني.

ههنا تبلغ القصيدة ذروة الذرا كلها حينما تقول:  

وّقّفِتْ قَلْبي عَ الدّرِبْ ناطور

تَ فاق ألف نْهار

وْوَعْيِت الشّمس وْزَقْزَق العصفور

وْما إجِتْ جِلْنار

هل قرأتم في الشعر، أو سمعتم في الغناء، أو تتوقعون أن يقف القلب على الدرب ناطوراً؟ ثم: لماذا قالت: وعيِت الشمس، ولم تقل: طلعِت الشمس؟

لأن الطلوع ينتمي إلى الكلام المألوف، ولأنه ينطوي على تعالٍ على البشر.. وأما استيقاظ الشمس (النائمة) المترافق مع زقزقة العصفور.. فهو شعر، وأي شعر!

*

 

أنا وفيروز والزمن طويل (1) - بتشوف

أنا وفيروز والزمن طويل (2) – أنا وْسِهْرانِة

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

31-08-2010 12:1

suzanneds1@hotmail.com

سوزان ضوّ صايغ

أستاذ بدلة

غفا الزّمن طويلاً قبل أن تستيقظ شمس كلماته وتترك لنا، وكأنّها تشفق على مرورنا قرب الكلمات، تفسيرات بهذه الشفافية.

قراءة تشبه الانعتاق من قاموس يرتاح على رفّ مكتبة

شكراً لك

 


 

   
 

.