الياس أبو شبكة، 77 الشارع العام - زوق مكايل *
كنتُ في مطالع حياتي الصحافية، وفي أول عهدي بالكتابة في جريدة (النهار) يوم كتبت مقالاً طويلاً امتد على صفحة كاملة بعنوان (الياس ابو شبكة: انهم لا يحترمونك) (27 كانون الثاني 1974) صببتُ فيه - بكل حماسة الشباب التي تبلغ احياناً كثيرة حد الرعونة وارتجال المواقف غير المسؤولة - غضباً شديداً على الدولة غير المهتمة بتراث ابو شبكة. وبلدية زوق مكايل التاركة بيت ابو شبكة يتآكله الخراب حتى يهدده بالانهيار. واذ كان ذاك المقال سلبياً من ألفه الى يائه.
كانت له ايجابية وحيدة طغتْ على سلبياته جميعاً، هي انه كان مدخلاً الى تعرّفي برئيس البلدية المحامي نهاد نوفل الذي كانت ردة فعله على المقال ان علّقه على لوحة خاصة في القصر البلدي. والتقيته بعدها في اجتماع أوضح لي بهدوئه ونضجه وحكمته ما لديه من معطيات راهنة وأفكار مستقبلية ومشاريع تحت الدرس لترميم البيت وتحويله متحفاً. وكان ذاك الاجتماع فاتحة صداقة لي مع نهاد نوفل هي اليوم في الاغلى بين صداقاتي. ولم يكن موقف الرئيس نهاد نوفل. في ذاك الاجتماع، مجرد كلام تهدئة شاب متحمّس حتى التسرّع، بل أخذ الرئيس المسؤول (على عادة طريقته المبنية على مبدأ فعلت لا سوف أفعل) يعمل بصمته المعهود وتصميمه على مواجهة الصعوبات، وكان يشارك في كل احتفال عن ابو شبكة، بل يرعاه، في قاعة محاضرات القصر البلدي.
* * *
وجاءت الحرب التي أشعلت لبنان سنة 1975 وطالت، بين ما طالت (وما اكثر ما طالت في لبنان) بيت ابو شبكة، فكان سبباً مستباحاً لمن تعاقبوا على اختلاله وسكناه ومحو الأبيات التي كان ابو شبكة كتبها على الحيطان، وعبثوا بالبقية الباقية من معالمه التزينية والنقوشية. وبلغ الأمر ببعضهم الى حد فتحه بازاراً لبيع الاحذية، ما أشعل الغضب في بعض الأقلام. ومنها قلمي، لمطالبة الدولة بالتحرك. وإعلاء الصوت لبلدية زوق مكايل كي تبادر.
ولم تكن عين الرئيس نوفل غائبة عن كل ما جرى ويجري، حتى سنح الإمكان، فكانت خطوته الاولى (ولعلّها الأصعب) إنقاذ البيت من خطر الزوال، واستملاكه من مالكيه الذين آل اليهم من الورثة وأصحاب الحق. فذات فترة. تناهى الى الرئيس نوفل همس ان المالكين (وهم مقاولون وتجار بناء، وتالياً من حقهم الطبيعي التصرف بالعقار من دون اي اهتمام بما يمثله العقار ومن يمثله صاحبه الشاعر) ينوون هدم البيت لتشييد مركز كبير مكانه. فسارع الرئيس الحريص على تراث ابو شبكة الى استملاك العقار.
وبدأت من يومها مراحل المسيرة الصعبة المضنية (ضمن الامكانات الشحيحة الصعبة المتوافرة) نحو سعي بلدية زوق مكايل الى ترميم البيت، وهو ما جرى ببطء رصين، ونقل البيت من حالته المزرية (بأبوابه المخلّعة وشبابيكه المنهارة المكسّرة وحيطانه المقلّشة وغرفه التالفة وسقفه المحطّم وخشبه المنخور) الى ورشة ترميمية مسؤولة أعادت اليه تباعاً أبوابه وشبابيكه والرسوم على سقفه وجدرانه وبنيته التحتية واللون والحياة الى قرميده ومحيطه. وراح يستعيد الحياة، شكلاً على الأقل، في انتظار عودة الحياة الى المضمون.
* * *
في سبيل ذلك عمد الرئيس نوفل - وهو المخطط الصامت الحكيم - الى تشكيل لجنة متحف الياس ابو شبكة ترأسَّها الرئيس شارل حلو، وضمّت كبار اللبنانيين من مستوى عميد (النهار) غسان تويني، نقيب الصحافة محمد البعلبكي، السيدة بهية الحريري، السيدة رباب الصدر، السيدة نايلة معوض، السيدة ريما شحادة، الدكتور لطف الله ملكي، وأعلاماً آخرين راحوا يجتمعون في دارة الرئيس حلو ويخططون لولادة المتحف.
ومن الأنشطة المواكبة. كانت أمسية شعرية نظّمتها مؤسسة ناديا تويني في حديقة زوق مكايل العامة، لقراءات ممسرحة من ناديا تويني وفؤاد ابو زيد والياس ابو شبكة.
وسنة 1997 لمناسبة خمسينية الشاعر (1947 - 1997) وفي ذكرى الشاعر (27 كانون الثاني) كان الاحتفال الكبير بافتتاح البيت (تمهيداً لتحويله متحفاً). يومها دخلته غلواء (زوجة الشاعر) للمرة الاولى بعد خمسين سنة (كما قالت لـ(النهار)). وكان النهار تاريخياً في زوق مكايل جال فيه المدعوون على غرف البيت المرمّمة. وأزيحت الستارة عن تمثال الشاعر (حجريّ بإزميل بيار كرم) امام البيت.
وفي وقت لاحق (حزيران 1997) شهد القصر البلدي مهرجاناً شعرياً كبيراً في خمسينية ابو شبكة. جمع كبار الشعراء من مصر (فاروق شوشة). وسوريا (سليمان العيسى)، والعراق (عبد الوهاب البياتي) والسودان (محمد الفيتوري). ولبنان (سعيد عقل)، واداره السفير فؤاد الترك، وكان المهرجان برعاية رئيس الجمهورية الياس الهراوي الذي حرص على حضوره في مقدمة جمهور كثيف احتشد للاحتفال بشاعر زوق مكايل ولبنان.
ولم يكتفِ الرئيس نهاد نوفل بمهرجانية الخمسينية واحتفالاتها، بل واصل العمل الصامت على تهيئة البيت متحفاً، فعمد الى تشكيل لجنة خاصة لجمع التراث المطبوع والمخطوط، والمقتنيات الممكنة، وهو ما حصل، ويحوي البيت اليوم سرير الشاعر وبعض خزائنه، واستعاد البيت نقوشه وشكله الاول، الى مجموعة كبيرة من الوثائق والصوَر والكتب والمخطوطات وكل ما يجعل المتحف متحفاً شخصياً، بتصميم رائع من الفنان جان لوي منغي الاختصاصي بهذا النوع من المتاحف على غرار المتاحف العالمية لاعلام العالم.
* * *
وقبل البيت وقبل المتحف. لم تكن بلدية الزوق مقصّرة بحق شاعرها، فهي سعت - ونجحت - في تسمية تكميليتها الرسمية تكميلية ابو شبكة الرسمية المختلطة. وفتحت قصرها البلدي لمهرجانات متتالية عن الشاعر شهدت على منبرها كلاماً شعرياً ونثرياً عن ابو شبكة بات اليوم مرجعياً عن الشاعر، إضافة الى مؤتمر أدبي من أربع حلقات دراسية جرت في بيت الشاعر لتكريسه كما يخطط له الرئيس نوفل بيت الأدباء يلتقون داخله في حلقات أدبية.
وبانتظار التجهيزات اللوجستية التي باتت اليوم في مراحلها الاخيرة (أثاثاً، وبنية تحتية، وعرضاً للمواد وفقاً لمخططات جان لوي منغي)، يجثم البيت بهالته وهيبته مستعيداً ألقه الشكلي، استعداداً لألقه المضموني حين سينفتح لزواره وروّاده، يقصدون العنوان الذي غنمَ من ترقيم بيوت زوق مكايل وشوارعها، ليصبح اليوم: 77 الشارع العام - زوق مكايل.
* عن (انوال)، العدد الاول، كانون الاول - 2006