3

:: في قداس الذكرى الأولى لغياب منصور الرحباني- المطران خضر: أمسيتَ وتراً تعزفه الملائكة ::

   
 

التاريخ : 18/01/2010

الكاتب : جماليا - بيروت   عدد القراءات : 2369

 


 

في قداس الذكرى الأولى لغياب منصور الرحباني

المطران خضر: أمسيتَ وتراً تعزفه الملائكة
يستكملك الرب لتصير الى صورته فيطرب

 

جماليا - بيروت

 

 

 

في الذكرى السنوية لأُولى لغياب الفنان منصور الرحباني أقامت أسرته قدّاساً إلهياً في كنيسة مار ميخائيل للروم الأرثوذكس في حارة الغوارنة- أنطلياس، حضره، الى عائلة الرحباني، حشدُ أصدقاء من الأسرة الثقافية والفنية.

احتفل بالذبيحة الإلهية متروبوليت جبل لبنان المطران جورج خضر وألقى عظة في الفنان الراحل هنا نصها الكامل:

 

 

أظن أنكم لا تتوقعون مني حديثاً عن مسرحيات الرحبانة فهذا خارجٌ عن نطاقي. كما لا تنتظرون كلاماً عن اللحمة الفنية بين عاصي ومنصور، والموت جعل منصور وحده، لذا هو قائم في فرادته أمام وجه الله. غير أنه لا يسعني إلا أن أقرأ شعر منصور قراءةً عيسوية، ومسيحيته تدفعني إلى هذه القراءة، وليسوع لمسات على الشعر هنا وثمّة. القلب الذي يتحرك بالألم أو فيض الفرح بلقى المسيح بصورة أو أخرى، وهذا لا يحصل بالضرورة بشكل مكشوف. الالتحاق بالصليب والقيامة كثيراً ما انبسط بالموسيقى العالية، وهذا بسببٍ من اتخاذ المسيح معارج إليه من الوهج البشرب. لذلك سوف نقول بعد هنيهات لله في هذه الخدمة: "نسجد لك في كل مواضع سيادتك" ومن أقوى ما في سيادته: الفن الكبير الذي كثيراً ما بدا بلحن من التراث الذي اشتهى المطلق حسناً ومقاما.

هناك من ألهمهم الروح القدس ان يذهبوا الى الله توّاً بالقداسة، وهي لا تحتاج الى تعريجات الفن، اذ إبداعها لنفسها نزولٌ من الروح عليها، وهناك من يضطره تكوينه الى تبنّي وسائل البشرة عالِماً أن الكلمة اتخذ بشرتنا ليقول بها قبل سفك دمه حبه لنا على رجاء ان ينبتَ عند بعضنا الخلق ونرنِّمَ للرب كل يوم ترنيمة جديدة لأن الله يبدعنا بجدته.

امتداداً لهذا اقول إن الشعر العظيم جديد، لأنك تقول به الكلمات التي لا تقال بصورة أخرى. انه سفر ليس قائماً فقط على الانطلاق ولكنه قائم على الانخطاف. ومن هذا القبيل هو عالم آخر وما هو آخر بحدة جنون. في هذا القول تسلُّلٌ إلهي ما، فيأتي صاحبه منه آخر، كائناً ما كان الموضوع. اذا تمسرح الشعر أم لم يتمسرح يبقى فناً في ذاته. ولكنه يغنى. إلقاؤه عربياً أغنّ.

لست أعرف لمنصور شعراً بالعامية، أعرف ما نشر بالفصحى. ليس المقام للتحليل ولا أجيز لنفسي هذا ولكني أحسست في هذه القصيدة او تلك ما سماه يوحنا الذهبي الفم "مواضع لسيادة الله". لذا أقول إني لم اتجاوز هذا الهيكل في الحديث عن منصور شاعراً. ولكني أعرف أن هناك نثراًَ أعظم من النظم، ومنه إنجيل يوحنا الذي ليس مثله عندنا كلام في الله، وأعرف ان منصوراً كان يحب ان يخضع لإنجيل ربنا يسوع المسيح وان يأتي منه. ومن يطمح الى سيادة الإنجيل عليه بات إنجيليَّ الروح أي فقيراً إلى الرب. نعمة الفقر نادرة عند الكثر من المثقفين. إن حلاوة الكلمة البشرية تنزل علينا من فوق. اما هذا اللحم والدم فلهوٌ وزينةٌ وزخرفٌ وهذا كله ليس
بأدب.

لما كنت أتأمّل مرةً أيقونة الثالوث لروبلوف في موسكو ورأيت وجوه الملائكة الثلاثة وألوان ثيابهم وتناسقها في وحدة أخّاذة قلت في نفسي إن الله عطف على روبلوف وأمسك بأصابعه والريشة وأكمل الصورة. لعلّ في كلامٍ بديع انصباباً إلهيّاً كهذا.

حقق الرحبانيان على الأرض لحمة بينهما غدت مادة لتطلعّاتنا الجمالية. ولكن بعد انفصال الجسدين، وبعدما انكسر القلمُ، يأخذ الربُّ قلمه ليكتب في سجله ما يراه في كل منهما، ولا أعرفه كاتباً إلا كلمة رحمة. في أدبنا النّسكي رواية عن واحد قرع باب السماء فسئل مِن الداخل "مَن القارع؟"، أجاب "أنا" فلم يُفتح له. وطرح عليه السؤال ثانية وأتى الجواب إيّاه فلم يُفتح له، حتى قرع الباب ثالثة وسئل من يدق الباب قال "أنت" ففُتح له. هذا التوحيد بالله هو باب الملكوت اذ لا عبور لك الى السماء الا اذا سكب الله عليك حبه فاستجبت له بحب.

ما كان مطروحاً عند المخلّص أن يستقيم الرأي اللاهوتيّ عند منصورٍ تفاصيلَ. هذا شأن الأئمّة ولكن ما يلحُّ عليه الرّب هو ليس الحبّ فقط بل عقيدة الحب. إن أنتَ عرفتَ أنها العقيدة الإلهيّة الوحيدة فأنتَ خالصٌ. ومنصورُ كان من الذين كانوا لهذه العقيدة معتنقين.

يسمع صديقنا الذي نقيم الذبيحة الالهية لراحة نفسه ترانيم الملائكة وأجواقها وهو نفسه أُخذ في جو التسبيح. كل شيء في الملكوت مموسقٌ بلغة فردوسية تليق بمجد الله، وعزّتُه منسجمةٌ مع كل مموسقٌ في النفوس القائمة فوق في الرضاء الإلهي بانتظار القيامة. كان عندنا هنا قيامات لما كنا ننتقل من جمال الى جمال وكلها تهجئة لانبعاث البشر واستنارة كون مجدد بالنور الالهي. ما أراده الرحابنة او نووه هو استقطاب التاريخ الى الحق، والمخلوقات الى الخالق، لان الدنيا الحاضرة ليس مصيرها الى ذاتها ولكن الى الدعوة التي دعيت بها، أيْ إلى كلمة الله التي تقيمنا في مدىً لا نهايةَ له وفي نغمٍ لا ينطق به التلحين البشري. انت أمسيت يا منصور وتراً او مجموعة أوتار تعزف عليها أصابع الملائكة حتى يستكملك الرب لتصير الى صورته فيطرب.

على رجاء هذا العزف الكوني وخلوص شعرٍ إلهيٍّ سنقيم من أجل سلامك ذبيحةَ التّسبيح التي نباشرها بعد هنيهات ونحن لك محبون".

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.