3

:: في ذكرى رحيل منصور الرحباني ::

   
 

التاريخ : 18/01/2010

الكاتب : عبد الغني طليس   عدد القراءات : 4294

 


 

في ذكرى رحيل منصور الرحباني

عبد الغني طليس

1

"37 عاماً": مرحلة اسمها الأخوان عاصي ومنصور

 

بين "حزب" عاصي الرحباني و"حزب" منصور لا يريد هذا البحث أن يضيع، وهو ليس دراسة تفصيلية للمسرحيات التي انتجها الأخوان بالاعتبارات الموسيقية والمسرحية والشعرية، فذلك يحتاج مساحة أكبر طبعاً، بل بحثٌ في خصائص عاصي المبدع، ومنصور المبدع، واسلوب عمل كل منهما وملامح تكوينه الاساسية وميوله الفنية "الطبيعية" قبل الاحتراف وبعده بتعدّد الأوجه وتداخل الأبعاد المشتركة بينهما، وذلك من خلال معرفة شخصية وفنية دقيقة بالاثنين ومزاجهما وآرائهما وإمكاناتهما، وبفضل معلومات موثوق بها، بالاضافة الى "مواجهة" اجريتها بين الإنتاج المسرحي الماضي للأخوين رحباني، وإنتاج منصور المسرحي منفرداً، واستخلصتُ نتائج. أما البراهين أو الأمثلة المطلوبة في النتائج فهي حاضرة في مناقشتي أبرز مسرحيات منصور وأهمها "آخر أيام سقراط" وهي تحفته الفنية وأكثرها اشتمالاً على "ثورته" الجديدة، وركيزةُ ما أتى بعدها من المسرحيات في الفكر تحديداً، ثم في مضامين العمل وطرائقه. أما البراهين والأمثلة في ما خصّ أعمال عاصي الشخصية فهي مبنية على معاينات ووقائع "متفرّقة" جمعتها ونسّقتها وربطتها، وهذا تحدّ صعب جداً، لأن النصوص الموسيقية او المسرحية الموقّعة باسم عاصي منفرداً غائبة منذ 1949، عام "الاتحاد" مع منصور وفيروز، وذلك يمنع الإطلاع الموضوعي على "الكائن الذين كان مسحوراً شخصياً بأسطورة الجمال" بحسب عارفيه، من بداية حياته الفنية حتى وفاته عام 1986، وتاليا فإن الأمر يشبه الدخول في حقل ألغام، أرغب، عن سابق تصور وتصميم، في دخوله بما أعرف وبما أقدّر، وبما للرجلين في نفسي من الإعجاب. المسألة معقدة وخطرة؟ نعم. لكنها تستحق.

***

احترف عاصي ومنصور الفن في حدود عام 1943. "مع الاستقلال بدأنا"، كان يقول عاصي الذي تولى قيادة التجربة الرحبانية كمتقدم بين أخوين، من دون ان يدري ان الأستقلال الوطني الذي ناله لبنان في ذلك العام سوف يكون قاعدة لإستقلال فني مواز ليس عن الفرنسيين اولي الأمر في الإنتداب، بل عن الغناء المصري والبغدادي والبدوي الذي كان سائداً في لبنان حينذاك. بعض الحفلات المحلية في انطلياس، بلدة عاصي ومنصور، وبعض الدروس الموسيقية للشابين الموهوبين معاً، وبعض العزف على الكمان والبزق، وكثير من الإرادة والأقدام، كانت هي البداية التي جاءت بعدها مرحلة الإحتراف الجدي بدراسة معرفية للموسيقى، والعمل عزفاً في بعض الملاهي، والإنضمام الى رعيل "إذاعة الشرق الأدنى" التي تحوّلت بعد أعوام... "الإذاعة اللبنانية" الرسمية. كان إنتاج عاصي ومنصور، اولا، افرادياً، بمعنى أنك كنت تسمع أغنية او قصيدة أو اسكتشاً ملحناً من تأليف أحدهما وتلحين الثاني أو العكس كما تقول غلف بعض الإسطوانات القديمة ("لملمت ذكرى لقاء الأمس" شعر منصور، تلحين عاصي)، وظل الأمر على هذا المنوال حتى اندمجا تحت إسم "الأخوين رحباني"، ومنذ ذلك الوقت لم يعد أحد (إلاّ قلّة "تعرف ولا تعرف" من المقربين جداً) يعلم ماذا كتب أو لحن هذا أو ذاك منهما بالضبط، وصار إسم الأخوين توقيعاً ثابتاً، ودخل عاصي ومنصور عميقاً عميقاً في سرّهما الجميل، وتضحيتهما السامية بـ"الأنا" لصالح "نحن" في الشعر والموسيقى والمسرح، ثم انضمت فيروز اليهما فكانوا بالفعل من أبطال معدودين في الإستقلال الفني اللبناني: صناعة هوية غنائية وموسيقية لبنانية نابعة من جذور مترامية في الموسيقى السريانية والبيزنطية الكنسية، وفي الفولكور البلدي، وفي الألحان المصرية القديمة، وفي الموسيقى العالمية، وتكونت للأغنية اللبنانية شعراً وألحاناً وأداءً، وكذلك للمسرح الإستعراضي، شخصية إبداعية ذات مواصفات خاصة غير منغلقة على حدود أو تقسيمات في الجغرافيا او التاريخ الفني، وفي الوقت نفسه، فاتنة في محليتها. ومن المحلية تأتي العالمية: هكذا تقول جوائز نوبل للآداب على الأقل، أو الأكثر!

***

إن احداً من الذين كتبوا عن الأخوين عاصي ومنصور الرحباني في تجربتهما المشتركة المدهشة في المسرح الغنائي، لم يتجرأ على ملامسة خط احمر ومجهول، أو الإقتراب منه، يتمثل في: ما هو دور عاصي وما هو دور منصور بالتحديد، أي ماذا فعل كل منهما، على حدة، في تلك المرحلة الطويلة الخلاّقة شعراً ومسرحاً وموسيقى وفكراً واستعراضاً وأداء غنائياً مذهلا بصوت فيروز، وبأسلوب فني جديد، مختلف، تجاوزي يصل مع الماضي ويقطع في آن واحد، ويتقدّم في إتجاه المستقبل مضيئاً وصانعاً حياة إبداعية إستثنائية. في تجربتي الشخصية مع الأخوين رحباني، لا أخفي أنني قبل معرفتي الوطيدة بهما 1977، وبعدها، كانت تسكنني رغبة عارمة في معرفة من كتب أو لحّن هذا المقطع المسرحي أو تلك الأغنية الفيروزية أو حتى تلك المسرحية. كل المسرحيات، نصوصاً وألحاناً، كانت "محفوظة" عندي عن ظهر قلب، ولا يزال أغلبها إلى الآن في مكانه في الذاكرة. ولما عييتُ عن معرفة شيء من هذا القبيل، لا من عاصي ولا من منصور، بتُّ أتحين الفرص "المناسبة" بين الإثنين عليّ أروي غليلي وفضولي و..."غرامي" الذي لا يصدّق، بهما، لكن، على ما يبدو، كانا لي بالمرصاد. هذه الواقعة مثال على "سرية" الأخوين على مرّ السنين: مطلع عام 1980 كان الأخوان عاصي ومنصور يقدمان مسرحية "الشخص" في الأردن، ببطولة الفنانة رونزا، بعدما اعتمداها نجمة لمسرحهم إثر خلاف حاد جداً مع فيروز عام 1979، وكانت فيروز لعبت المسرحية في البيكاديللي 1968. في كواليس المسرحية جلستُ الى عاصي نتبادل الحديث حول غير موضوع سياسي (إبان حرب لبنان الأهلية) وفني، عندما سألته عما إذا كان هو ومنصور متشابهين أو متطابقين في كل شيء، فأجاب: "لأ. أنا مع اللحن، وهو مع الموسيقى (يقصد التأليف)، بس كمان انا بألّف وهو بيلحن". فاستوضحته ممازحاً: "حزورة؟" فقال: "لا. فكّر فيها بتلاقيها". كأنني عثرت على لُقية ثمينة، حين فكرت فيها. فما قاله عاصي، ولو بتورية في لحظة "اعتراف"، قدّم اليَّ معلومة كانت تراودني... بالتحليل، لكنها غير مثبتة. جاء كلام عاصي ليثبت بعض ما أفكر فيه عن مزاج عاصي الشخصي، ومزاج منصور الشخصي في الألحان والموسيقى. لكن كان ينبغي أن اسأل منصور رأيه في الأمر لأؤكد المعلومة من الطرفين. راحت سنة... جاءت سنة وسنوات، حتى عام 1998 وكانت تُعرض مسرحية "آخر أيام سقراط"، حين جلستُ الى منصور في منزله بإنطلياس نتحدث في... "كل شيء" كالعادة (وصوتي يصل من انطلياس الى بكفيا كما كان يقول)، ورويت له ما قال لي عاصي عام 1980. نظر منصور إليّ بعدما سألته: "صحيح هالشي؟" وردّ: "إذا قاله عاصي... يعني صحيح". وإذا (الشرطية) هذه ليست تشكيكاً في معلومتي، بل كما قال لي بعد ذلك، خوفاً من أن يكون المقصود بالجملة التي أرويها عن لسان عاصي، الإيقاع به ليعترف لي بسرّ من أسرارهما، هو وعاصي. ثم هزّ رأسه هزّة من "اكتشف" فيه أحد أمراً دفيناً!

***

الى هذا الحد كان عاصي ومنصور "نائمين" على حقيقتهما المشتركة التي حيّرت "المابتحيّر"، فأدنى معلومة "تقسيمية" عنهما كانا يتعاملان معها وكأنها تؤدي الى... مقتل، فينكرانها ما استطاعا، وبما ملكت أيمانهما، إلاّ من أخذها غيلة، فنهما، كمثل ما فعلت! الغريب أن كل ما عرفته في حياتي "المديدة" مع عاصي ومنصور من عام 1977 حتى 2009، وبشكل مؤكد، من أسرار (عملاقة!) هو أن أُغنيتي "يا رايح ع كفرحالا" و"سوى ربينا" من تلحين عاصي، و"تراب عينطورة" و"راجعين يا هوى" من تلحين منصور، وثلاث – أربع مقاطع مسرحية اخرى لا تُغني طبعاً ولا تسمن من جوع المعرفة. وهل هذا غير رذاذ... من بحر، أو في أفضل الإحتمالات ورود قليلة من جنائن معلّقة. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن النقص في المعلومات الدقيقة حول دور عاصي، ودور منصور، في هذه المسرحية أو تلك، هو سبب اول في عدم الإقتراب من هذا الخط الأحمر المجهول، وصعوبة التمييز بين شخصية أحدهما وشخصية الاخر (الاّ في العموميات وبعض التفاصيل) نظراً الى ذوبان الفروقات في اطار كلي، هو سبب آخر، ويضاف الى ذلك سبب إرادي حديدي تجلّى في إحاطة عاصي ومنصور هذا الموضوع بجدار سميك من الكتمان. لقد غرق عاصي في منصور، وغرق منصور في عاصي، وغرق الجمهور اللبناني والعربي على مختلف مستوياته، من النخب الثقافية والفنية الى السواد الأعظم من المعجبين والمحبين "في كل مكان"، بعاصي ومنصور وفيروز، وكان الجميع يشعر بأنه غرق لذيذ في المتع الفنية الراقية، فلماذا إذاً الأسئلة العبثية، ولماذا البحث في الممنوع... بأمر رحباني رفيع لا يُناقش كأغلب الأوامر الفنية الرحبانية الديكتاتورية... الجميلة؟ غير إن الفضول الفطري والمكتسب لدى البعض كان يطل برأسه بي حين وآخر، إما ليتقصى شيئاً عن حقيقة ما يجري بين عاصي ومنصور لإرواء عطش "التجسس"، وإما للنيل من أحدهما او كليهما. كأن يقال ان عاصي كان الملحن، ومنصور كان الشاعر، او ان عاصي كان يضع الأفكار المسرحية، ومنصور يضع الرسم التنفيذي، او غير ذلك مما لم يكن بالفعل إلاّ وهماً أو تخميناً او ضرباً بالرمل او... استدراجاً لأحدهما ليجيب او ليرد على الأقاويل فيتم اكتشاف شيء من خلال الاجابة او الرد. وحين كان أصحاب الفضول ييأسون من معرفة يد عاصي من يد منصور في الصنيع الرحباني لتفضيل هذا على ذاك او العكس، كان بعضهم المغرض طبعاً، يذهب ابعد في السوء، كأن يقال ان عاصي ومنصور كانا يكتبان ويلحنان مسرحياتهما. لكن الأغنية التي تروج وتنتشر شعبيا في كل مسرحية هي من تلحين فيلمون وهبي، على اعتبار ان الأخوين كانا يطلبان لحنا لفيروز من فيلمون في كل مسرحية، وكان اللحن بالفعل ينجح في الوصول الى الجمهور بسلاسة منقطعة النظير، انما من دون ان يكون ذلك اللحن هو الوحيد الذي ينجح في المسرحية، فأغلب اغاني المسرحيات الرحبانية لفيروز ونصري شمس الدين ولغيرهما من اصوات الفرقة الرحبانية كانت تنجح كنصوص والحان واداء وتتألق...

***

خلاصة القول ان التشكيك كان حاضرا في كل حين حول الأخوين رحباني. بل اكثر: كانت كل مسرحية جديدة للأخوين وفيروز تواجَه لدى كثير من الجمهور والنقاد بأن المسرحية التي سبقتها لهما كانت افضل، ودائما! لماذا؟ لا احد يعرف. وهكذا دواليك. وبتبريرات عجيبة، وابناء ذلك الزمن، في الاعلام والفن، يتذكرون جيدا. حتى كبار النقاد في كبريات المنابر الصحافية وقعوا في هذه الاشكالية غير المفهومة فانتقدوا المسرحيات ايام عرضها ثم امتدحوها بعد ذلك بسنوات! المشككون استمروا. والاخطر انهم تجددوا، بشكل غريزي، من جيل الى جيل. واذا كان "بعض" الجيل القديم قد عاصر الاخوين وشكك فيهما معا في حياة عاصي، ثم فضل عاصي على منصور بعد وفاة عاصي، وحاول ادعاء معرفة "خفايا" رحبانية عاصرها سنا على الاقل، من دون اي اثباتات جدية، فإن بعض الجيل الجديد من المشككين لم يعاصر تجربة الاخوين رحباني. ولا عرف شيئا من تلك "الخفايا"، ومع ذلك تبنّى التشكيك استنادا الى قول عابر لفنان هنا، او رأي ذي خلفيات لفنان آخر هناك، او استنتاج متسرّع لصحافي هنالك. وبما أن عاصي الرحباني توفي عام 1986، فإن تشكيك الجيل الجديد كفّ عنه، وانصبّ على منصور (على اساس ان "الحي مطموع به" كما يقول المثل الشعبي)، وهذه المرة بالقول ان عاصي كان "كل شيء" ومنصور كان "شيئا" من "كل شيء" هو عاصي. وكان منصور، اذا سئل، يبتسم بشفتيه، ويحزن بقلبه، ويضحك بعقله على كل من ادعى من هؤلاء واولئك من الجيلين معرفة في "الخفايا" الرحبانية، وقد "حفظ" شيئا عن "بعضهم" وغابت عنه اشياء: انها حكاية الغموض الساحر. يجب الاعتراف هنا، بأن منصور بعد رحيل عاصي، كان جبارا في مواجهة ضربات سيوف الاتهام ضده على مدى ربع قرن، لأنه لو ضعف وغلبته "الأنا" وباح بأي حقائق حول ما فعل عاصي وما فعل هو، لانهدم البيت عليه وعلى قبر عاصي وعلى صوت فيروز وعلى كل ما كان من المجد الرحباني، وعلى الجمهور الكبير، ولرأينا حرب "داحس والغبراء" رحبانية تمتد الى الورثة، وورثة الورثة الى ما لا نهاية...

***

لم يكن عاصي ومنصور نسختين متشابهتين كما قال عاصي، واكد منصور، او كما يعتقد بعض المبالغين. كان عاصي عاصي. وكان منصور منصور. وكانت بينهما فروقات اساسية حينا، طفيفة احيانا. ولعل اجتماع تلك الفروقات في نسيج فني واحد على عمر فني طويل (1949 – 1986) هو الذي جعل التجرية الرحبانية غنية بهذا القدر الكبير: غنية بالاختلاف الذي تكامل في النهاية، بين شخصين، هذا يضيف الى ذاك ما هو بارع فيه اكثر، وذاك يضيف الى هذا براعته في حيز آخر. اما ما يتشاركان فيه من القدرات المضيئة فتحصيل حاصل في قوته واثره وخيراته... بدقة اقول: كان عاصي شاعرا كبيرا باللغة العربية الفصحى، وباللهجة المحكية، وكان منصور شاعراً بالاثنين، وكبيرا. كان عاصي موسيقيا خبيراً وعالما بالتوزيع الموسيقي وكان منصور بالاثنين خبيرا. كان عاصي مفكرا متأملا في الحياة، وكان منصور كذلك. كان عاصي صاحب خيال مسرحي، وكان منصور ايضا. كانا رفيقين في مواصفات احترافية فنية متنوعة وعميقة، وهذا معروف عنهما. فما هي الفروقات غير المعروفة عنهما، اذاً؟ بدقة وحذر اقول (لاحظ انني اضفت الحذر): كان عاصي يتبنى نظرية تقول ان الأغنية لا تحتمل شعرا كثيرا. كان يريدها سهلة ممتنعة: السهولة تقربها الى الجمهور العريض، والامتناع يجعلها تتوالد معنى ومبنى في النفوس بشكل متواصل. اما منصور فكان مع نظرية الأغنية القائمة على شعر خالص، ما استطاع، مقتنعا ان هذا يعطيها ديمومة اكبر ويبتعد بها عن المألوف الغنائي. فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف؟ النتيجة نصوص اغان لا تعدّ ولا تحصى، بالآلاف، تتدفق فيها النظريتان من بساطة عالية وغموض شعري في وقت واحد. فالاغنية البسيطة لا تجافي العمق، والاغنية العميقة لا تعادي البساطة: انها القطبة الخفية في شعر الاغنية الرحبانية الذي كأنك تقوله انت لنفسك من داخل نفسك، وكأنه يقال لك من مكان لا تبلغه. والاستدراك هنا ملزم: كان عاصي قادرا ايضا على كتابة الشعر الخالص، وكان منصور قادرا على كتابة النص السهل الممتنع، لكن نزوع كل منهما الى الاسلوب الذي يحب، ولو مزيجا من الغرابة، فضلا عن ان الاثنين لحّنا في النوعين: لا كل منهما في نوعه "المحبب" فقط، في كل اعمالهما المسرحية. نكمل في الفروقات بين عاصي ومنصور، وبحذر: كان عاصي ميالا في تكوينه الغني الاساسي الى الفنون الشعبية، الى الفولكلور، الى نظرية السهل الممتنع نفسها في الالحان، اما منصور فكان ميالا الى التأليف الموسيقي، والى الاجواء الاوركسترالية التعبيرية (تجلى ذلك تماما في اعماله الخاصة بعد حين). فماذا كانت النتيجة؟ ألحان لا تعدّ ولا تحصى، بالآلاف، ومقطوعات موسيقية، وحوارات غنائية، وتوزيع موسيقي احدث ثورة كاملة... وكلها مقومات جمعت بين الرقة والعذوبة. والعفوية المدوزنة على احتراف من جهة، والهم الموسيقي المركز الذاهب من جهة اخرى الى خبرات عصور كلاسيكية وجديدة معا: انها القطبة المخفية في الموسيقى الرحبانية التي كأنك تدركها وأنت لا تدركها، وكأنك تتعلم منها ما لا تعلم. والاستدراك الثاني ملزم كذلك: كان عاصي قادرا على التأليف الموسيقي ببراعة، وقد فعل، وكان منصور قادرا على تلحين الاغنية المسماة شعبية ببراعة، وقد فعل، لكن ميل كل منهما الى نبع النوتات والمقامات والالوان "الخاص" الذي "يريده" كرّس الموسيقى الرحبانية المعروفة بالثراء وتعدد "الارواح". اي: بلا منصور كانت موسيقى عاصي تنقص ما كانته موسيقى منصور. والعكس صحيح. الفارقان المذكوران لا يكتملان من دون الفارق الاساسي الآخر، وبحذر: كان عاصي مولعاً "بالافكار الغريبة وبالقصص التي لا تصدّق"، على ما قال عنه منصور اكثر من مرة. لذلك كان يستمتع حين تُبنى المسرحية، اي مسرحية، على فكرة خيالية الى حد كبير، على ان تترجم الى الواقع على الخشبة في شخصيات يمكن ان نصادفها يوميا في الحياة. او يمكن ان تكون فوق الواقع. فالفكرة الخيالية القائمة على "قصة لا تصدّق" كانت تفتح مناطق مقفلة في وعي عاصي يتم من خلالها اختراع ناس وحالات مشهدية مبتكرة، وفانتازيا بشرية اذا جاز التعبير. اما منصور فكان مولعا بالشخصيات التاريخية الكبيرة. وبالقصص التي تروي زمنا ماضيا مُخْتَرعاً قابلا ليكون "تاريخيا" ايضا، وكان يشعر بالتحليق حين كانت تقام المسرحية في الأغلب على مادة من التاريخ، او مادة تحوي عناصر وملامح "تاريخية"، بما يسمح بإنشاء فخامة تعبيرية على الخشبة. فماذا كانت النتيجة؟ مسرحيات بمضامين مختلفة، انسانية ثورية مثل "جبال الصوان"، مقاومة للظلم سلميا مثل "ناطورة المفاتيح"، وجودية مثل "المحطة"، غرائبية بأزمنة ضائعة "هالة والملك" و"صح النوم"، سياسية عبثية مثل "يعيش يعيش" و"الشخص"، او تاريخية محددة في الزمن "ايام فخر الدين" و"بترا" وغير ذلك. هنا ايضا وايضا، الاستدراك ملزم: كان عاصي قادرا على صياغة التاريخ في قوالب مسرحية متميزة وقد فعل حكما، وكان منصور قادرا على التقاط اشارات الافكار المسرحية الخيالية والسفر بها بعيدا، وقد فعل حكما، لكن توجه كل منهما في اتجاه نص مسرحي معيّن جعل المكتبة المسرحية الرحبانية قوس قزح حقيقيا في الهموم الفكرية لا الغنية فحسب. وكان الاخوان، ما ان يضعا الفكرة المسرحية، كائنة ما كانت، حتى يعكفا عليها بالمعالجة كأنهما رجل واحد... متعدد. كيف تم التوصل الى هذه الفروقات؟ اكمل، في تجربتي الشخصية لأقول: لقد حضنت ذاكرتي اعمال الاخوين رحباني المسرحية على مستويين: الأول هو مشاهدتي كثيرا منها من "هالة والملك" الى "الشخص" الى "يعيش يعيش" الى "صح النوم" الى "المحطة" الى "بترا" في قصر البيكاديلي، الى "جبال الصوان" و"ناطورة المفاتيح" الى "قصيدة حب" في مهرجانات بعلبك (وبعضها عرض في معرض دمشق الدولي)، ثم لاحقا "المؤامرة مستمرة" و"الربيع السابع" وقد بدأت بالمتابعة الرحبانية – الفيروزية في سن الثانية عشرة، وبالحفظ غيبا عبر الكاسيت. المستوى الثاني هو انه كانت تستهويني منذ ذلك الوقت مقارنة الالحان بعضها بالبعض، ومقارنة المشاهد المسرحية والحوارات الرحبانية بشكل اخذ وقتي كاملا ومنعني حتى من ان "ارى" غير عاصي ومنصور وفيروز واسماء محدودة جداً في مرحلة اولى من حياتي وشبابي قبل ان استفيق في العشرين على الآخرين، وابدأ الغوص في ما هو ابعد من "حبي" الرحباني. هذا في ما خص اعمال الاخوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز. بعد ذلك، حَضَنت ذاكرتي الاعمال المسرحية التي قدّمها منصور الرحباني منفرداً منذ 1987 من "صيف 840" الى "الوصية" الى "القداس الماروني الالهي" الى "وقام في اليوم الثالث" الى "آخر يوم" (عن شكسبير) الى "المتنبي" الى "جبران"، الى "حكم الرعيان" الى "زنوبيا" الى "عودة الفينيق" على مدى ربع القرن الماضي... وحين اجريت مقارنة دقيقة وتفصيلية لما كان من اعمال الاخوين نصوصا وموسيقى وافكارا، وما كان من اعمال منصور الرحباني وحده، ورجعت الى الكاسيتات في مكتبي واحدة واحدة، "اكتشفت" بعض ما سلف ذكره من الفروقات. واذا كان مستحيلا الكلام على عاصي منفردا، بدقة واستفاضة، لأن لا إنتاج موقّعا باسمه وحيداً دون اخيه منصور منذ عام 1949 كما ذكرت في بداية بحثي هذا، فإن الكلام على منصور منفردا يغدو طبيعيا، لأن تجربته المسرحية الطويلة "23 عاما" تسمح بذلك.

***

كيف انتقلت القيادة الرحبانية الى منصور؟ كانت الامور في اوجها: عاصي ومنصور وفيروز، والمسرح الرحباني يشهد حضورا من نار ونور يمتد الى العالم العربي بإشعاعات غير مسبوقة تجديداً وتطويرا، عندما اصيب عاصي بجلطة في الدماغ عام 1972 اصابت مناطق "النطق والكتابة والذاكرة" عنده. فجأة قُصف الحلم الفني اللبناني الجميل الذي قدّم اروع مسرحيات غنائية استعراضية منها "هالة والملك" 1967 و"الشخص" 1968 و"يعيش يعيش" 1969 و"صح النوم" 1970 ومثلها وبعدها كثير مثل "ناس من ورق" و"البعلبكية" و"بياع الخواتم" و"ناطورة المفاتيح" و"جبال الصوان" وغيرها بطولة فيروز، و"موسم العز" و"دواليب الهوا" الاولى بطولة صباح ووديع الصافي والاخرى بطولة صباح ونصري شمس الدين، وفجأة ايضا بات على منصور الحلول في مقصورة القيادة الرحبانية، مع حفظ رأي فيروز كبطلة مطلقة. فالجلطة الدماغية احدثت تداعيات سلبية جذرية في طريقة كلام عاصي فصارت متقطعة، وفي لفظ الحروف فأصبح متعثرا، وفي ذاكرته فكانت تحضر وتغيب. ورغم ذلك، وبعد الجراحة العاجلة التي اجريت له على يد البروفسور الفرنسي كلود غرو وسرعة تجاوبه طبيا مع الادوية والتمارين، وخلال اشهر قليلة، كان تطور جدي ايجابي قد حصل في حالة عاصي فاجأ اطباءه، بعدما فاجأهم ايضا حجم دماغه الاكبر مما اعتاده الاطباء من حجم الادمغة عادة، وشيئا فشيئا عادت مشاركاته في المسرحيات الى الظهور ولو اقل زخما بالحائل الصحي، وبقي اسم الاخوين من دون نقصان يذيّل مسرحيات عدة: "المحطة" و"قصيدة حب" 1974 (بعد الجلطة بعامين)، "لولو" 1974، "ميس الريم" 1975، "بترا" 1977 من بطولة فيروز قبل ان يحدث عام 1979 الخلاف العميق بين عاصي وفيروز والذي ادى الى انفصالهما المعنوي، فارتأى عاصي (وكان منصور يداريه كالعين "الرمدانة") فورا، تبني مغنية شابة ذات صوت جميل هي عايدة طنب (رونزا) المتخرجة من برنامج "ستديو الفن" التلفزيوني (وقد كانت من عناصر كورال الفرقة الرحبانية) فاعتمداها نجمةً جديدة لمسرح الاخوين، هو ومنصور، واعادا تقديم "الشخص" ببطولة رونزا هذه المرة عام 1980 ثم نزلت رونزا، بعد ذلك، اسما اول في المفكرة الرحبانية في مسرحيات لاحقة ("المؤامرة مستمرة" 1980 و"الربيع السابع" 1982) في شكل بدا للجمهور ان الاخوين استبدلا فيروز برونزا واحلاّها محلها، فهاجت الذاكرة الشعبية التي اعتادت ربط الاخوين رحباني بفيروز لا بغيرها، واستُقبلت رونزا بسوء بالغ (من دون مناقشة صوتها) لأنها تحولت في نظر الجمهور بديلا ممن لا يرضى الجمهور منها بديلا، اي فيروز. ولم يمر وقت طويل حتى اقتنع عاصي ومنصور ان عملية الاستبدال، سواء خططا لها لتكون استبدالا ام لم يخططا، لن تنجح، وان تراجع مستوى الاقبال – قياسا بالماضي – الجماهيري والنقدي على المسرحيتين المشار اليهما مع رونزا، بالاضافة الى وَهَن نصيهما وبنائهما المسرحي اصلا، ادلة قاطعة على ان شيئا ما، وسيّئا بالتحديد، يجري، وينبغي وضع اليد عليه في التجربة الرحبانية قبل استفحاله. و"تأكد" لعاصي ومنصور ما كان مؤكداً وقد حجبه غبار الخلاف مع فيروز، ان فيروز لم تكن صوتا بل ملهمة جمال، ولم تكن بطلة لمسرحياتهما بل كانت روحا في النص المسرحي نفسه.

 

 

 

2

"لو أنا متّ وبقي عاصي لفعلوا به ما فعلوا بي!"

 

توفى عاصي في حزيران 1986: انه الزمن الفاصل.

هناك مرحلة اولى هي سبعة وثلاثون عاما اسمها الاخوان رحباني. وهناك مرحلة تالية هي ثلاثة وعشرون عاما اسمها منصور الرحباني. لذلك، ليس سهلا البتة ان "يولد" فينا شخص اسمه منصور الرحباني من جديد عام 1986، بعدما كان "وُلد" مع شقيقه الاكبر عاصي، وترافقا فنيا وحياتيا على مدى سبعة وثلاثين عاما قبلها، باسم "الاخوين رحباني". الواحد الذي صاره منصور كان من اثنين هما عاصي ومنصور، وتاليا فإن الحمل المسرحي والشعري والموسيقي الثقيل والجميل الذي كان يرفعه اثنان بات عام 1986 (وفاة عاصي) على كتفي واحد منهما، مع تحدٍّ اضافي هو رأي سائد شيّعه مدّعو "معرفة الاسرار" اياهم الناشطون باستمرار، يقول ان عاصي كان "اهم" من منصور وله يعود "الفضل الاكبر" في التجربة الرحبانية – الفيروزية!.

التحدي كبير. قرر منصور ان المسيرة ستكمل. اعلن بدء كتابة مسرحية باسم "صيف 840" وكان كل ما تقدم في رأسه: من فشل التجربة مع رونزا، الى احتدام الخلاف بينه هو وبين فيروز ايضاً، الى الخلل الجدي في إنتاج الاخوين رحباني الاخير، الى "الرأي السائد" بأن منصور لن يكمل بالزخم الذي يُبقي التجربة الرحبانية نضرة ومتجددة. في ايار 1987 كانت "صيف 840" تفتتح في كازينو لبنان من تأليف منصور الرحباني وتلحينه ومسرحته منفرداً، مرفقة بإهداء حميم "تحية الى عاصي"، بعد سنة ونصف سنة من الكتابة والتحضير ثم التنفيذ على اعلى درجات اليقظة والحرص والدقة في كل شأن من شؤونها: هو اول امتحان فردي لمنصور، ومع نجمة كانت من الصف الثاني في مسرح الاخوين هي هدى، شقيقة فيروز، والى جانبها احد ابرز اصوات الفنانين الشباب يومها غسان صليبا.
اراد منصور في "صيف 840" القول ان عاصي رحل، لكنه قادر وحده على ان يكون كمنصور وعاصي، فكتب مسرحية غنائية استعراضية من النوع نفسه الذي كان جمهور الأخوين وفيروز اعتاده ايام العز، إن لجهة القصة او السيناريو او الحوار او الاغاني او الاستعراض ككل (ولو ان "بعضهم" عاد فاتهم منصور بأن "صيف 840" هي من مخلّفات عاصي!). كانت "صيف 840" بمثابة الجسر الطبيعي الذي سوف يأخذ منصور، في ما بعد، الى شخصيته المسرحية الجديدة. ولم تكن مسرحية "الوصية" القليلة الحيلة التي تلت "صيف 840" ومن بطولة هدى وغسان صليبا ايضا الا "تجربة" اكدت لمنصور ان هناك عالما فنيا آخر ينبغي أن ينتقل اليه. ففي مقابل نجاح "صيف 840" الذي كان مدويا، وكانت اول مسرحية رحبانية (بعد الحرب) تعرض في لبنان "شرقية" و"غربية" (بمفاهيم الحرب الاهلية) ثم في مصر وبعض دول الخليج وتلاقي اعجابا استثنائيا على مدى اكثر من سنة، فإن "الوصية" بدت مرتبكة مسرحيا وجماهيريا. وبها شعر منصور الرحباني انه بات في حل من اي ارتباط بالاسلوب المسرحي الرحباني المعتاد، وان هناك مرحلة اخرى تناديه... فكانت مسرحية "آخر ايام سقراط".

***

 

هنا، تنبغي العودة الى مسألتين: الاولى تتعلق بمزاج منصور الرحباني الانساني، فهو رجل مسكون بالتاريخ كوقائع واحداث، وبشخصياته كرموز بشرية تحمل اكسير البقاء والخلود في مواصفاتها، وكان يحفظ ويناقش في اغلب سير حياة العظماء ويرى فيها قيما ثابتة في الزمن لكنها متحركة بالمعنى الانساني. اما المسألة الثانية فهي ميل منصور المركّب والفطري، كما اوضحنا في متن البحث، الى التأليف الموسيقي، وهو نازع باستمرار الى ما وراء الجملة اللحنية. لذلك فإنه عندما وصل الى قرار تقديم "آخر ايام سقراط" كان امام جملة استحقاقات:

الاستحقاق الاول... هو خروجه من حالة منصور وعاصي في "صيف 840" الى حالة منصور ومنصور فقط، في "سقراط"، اي من حالة الذاكرة الرحبانية المعروفة الى محاولة كتابة ذاكرة رحبانية جديدة. واذا كانت "صيف 840" محاكاة لمسرحيات ايام العز الرحبانية فإن "سقراط" هي سعي الى تجاوز مجموعة خصائص من القديم الرحباني في الشكل والمضمون. في هذا المعنى تمرد منصور في "سقراط" على... عاصي، وكذلك على  منصور الذي قد لا يرغب او قد لا يجرؤ على مفارقة عاصي، مستكشفا اعماقه وتحولاته واحتمالات الايام الآتية فيه. وبدلا من ان يكون الكلام الجماهيري والنقدي على سؤال عما اذا نقص ام لم ينقص مسرح منصور في غياب عاصي، قرر منصور ان يكون الكلام مركزا على ما يستطيع منصور أن يبنيه لنفسه بعدما بنى وعاصي وفيروز العالم الرحباني المعروف...

الاستحقاق الثاني... هو التزام منصور، بعد اليوم، ما يحب هو، وما يتقن هو، من الاساليب الفنية والمعرفة المسرحية لا ما اعتاده الجمهور منه. لذلك فقد ركب سفينة التاريخ وأبحر عميقا في سبع مسرحيات اخرى، فحقق انتقالا في الموضوع المسرحي الدرامي باعتماده شخوصا تاريخية من لحم ودم وافكار، وحقق في موازاة ذلك انتقالا اضافيا في الموضوع الموسيقي باتباعه اسلوبا مغايرا في التلحين والتوزيع الموسيقي، وبات التأليف الموسيقي بارزا بقوة، كما باتت اغاني المسرحيات نفسها تأتي من ضمن النص المسرحي لا من ضمن المتخيل المسرحي كما كان يحصل سابقا في غناء فيروز اغاني حب في مسرحيات لا حبيب لها فيها... بالمرة، بالاضافة الى ان هذه الاغاني لم تراع او لم تماش ما كانت تتطلبه، يومها، اذواق الناس (في التسعينيات!) بقدر ما راحت تراعي وقائع المسرحيات وحالات ابطالها والمعاني الدرامية التي يعانون، وكان الى جانب منصور تلحينا وتوزيعا موسيقيا ابناؤه مروان وغدي واسامة، تماما كما كان الياس الرحباني حاضرا من قبل في مسرحيات الاخوين ثم في مسرحيات منصور، الا نادرا.

الاستحقاق الثالث... هو استكمال "النقلة" الهادئة والصاخبة معا، في حياة منصور الرحباني الفنية، باستضافة طاقات جديدة في البطولة المسرحية لا في الادوار الثانوية. ففي "آخر ايام سقراط" اضيف الى صوت هدى، صوت المغنية الشابة كارول سماحة، واسم الممثل المسرحي رفيق علي احمد كبطلين لهذا العمل الجديد: كارول بأدائها ذي المستويات الدرامية المتميزة، وبصوتها الجديد على الأذن، ورفيق علي أحمد بأدائه المسرحي الآسر الذي كان الرحباني انجذب اليه بقوة بعد مسرحية "الجرس" التي كتبها علي أحمد، ومثّلها وحيداً على الخشبة اوائل التسعينات مُحْدثاً عاصفة من الاعجاب لدى الجمهور اللبناني والنقاد والوسط المسرحي ككل، وكانت اخراج روجيه عساف. ومع ان الممثل الأقوى في نظر "العادة" الرحبانية في هذه الحالات (حالة "سقراط") هو انطوان كرباج، بطل اغلب المسرحيات الرحبانية على الاطلاق، فإن منصور اختار رفيق علي أحمد لمؤهلات ادائية مدهشة فيه أولاً، اما ثانياً فلكي "يقطع" مع الذاكرة الرحبانية حتى في التمثيل فيشاهد الجمهور نوعاً مسرحياً جديداً، وابطالاً جدداً، وموسيقى جديدة. ومن الضروري القول ان احداً من النقاد او متابعي المسرح في لبنان لم يتأخر عن الانتباه الى ان منصور الرحباني في "سقراط" غادر مرحلة وطار من عالم، ليحط في مرحلة وعالم آخرين.

الاستحقاق الرابع... هو البناء المسرحي، اي هيكل المسرحية، واللغة الشعرية، فقد أطلق منصور أفكاراً كانت حبيسة صدره وعقله حول العدالة والحرية والثورة والديموقراطية والحياة والموت واسئلة الكون بما يحاكي او يتجاوز ما قاله مسرح الاخوين في الماضي، وقد سمح له عالم سقراط الفلسفي بأن يحلّق في طرح رؤاه الشخصية من خلال رؤى سقراط المدوّنة في كتب التاريخ، ورسمَ معالم اضافية في شخصية سقراط من خلال ما استنتجه من سيرة حياة ذلك الفيلسوف، وقامت الحداثة "البصرية" بنقل خيال الرحباني الى الخشبة (اخراج مروان الرحباني) عبر تقنيات ترجمت الايحاء في النص وجسّدته. وكان في التقطيع المسرحي، وتركيب المَشَاهد والسياق الدرامي وبعض العناصر الاخرى الجديدة كالسينوغرافيا الغنية، على مسرح منصور الرحباني، ما شكّل ارضاً خصبة شرّعت لمنصور الرحباني مساحات لاختراع شخصيات في حياة سقراط او في محيطه اغنت العمل ككل، فضلاً عن ان بناء شخصية سقراط وشخصية زوجته كزانتيبي وشخصية تيودورا (ابنة الملهى) كان مزيجاً من الواقعية والسوريالية، وخليطاً مما يمكن ان يكون قد حدث بالفعل في ذلك الزمن فيصدّقه المُشاهد، ومما هو من بنات افكار منصور فيتقبّله المُشاهد على انه اضافات ليست مسموحة فقط، بل مطلوبة لتأتي اللغة الانسانية متواصلة من الماضي الى الحاضر. لعل اللغة التي قامت عليها "آخر ايام سقراط"، سواء في الحوارات او في نصوص الاغاني، تحركت فيها خصائص منصور متحررة، ففي الحوارات تشابيه واستعارات و"ثقافة" من الحياة ومن التأمل معاً بصياغات مختلفة و"منصورية" الطابع، وفي نصوص الاغاني تفلّت من الاوزان التقليدية والمعايير السائدة، وانجذاب الى الشعر الصافي او ما يقترب منه، ولكن من دون ان يتجاهل منصور في مسرحه، كلياً، وجود الاغنية "الشعبية" الفولكلورية الطابع التي كانت ترقص على انغامها فِرَق استعراضية، وغالباً كان يتم ذلك بتواطؤ مع بعض "المواقف" المسرحية لتسلية العين والأذن. وهذا النوع من التسلية هو تقليد رحباني قديم له مبرراته الاستعراضية.

 

بهذه الاستحقاقات الأربعة عَبَرَ منصور الرحباني الى مسرحه الخاص في اعمال مسرحية عشرة امتدت على ثلاثة وعشرين عاماً... وامتدت فيها ايضاً أزمة المقارنة بين ماضي عاصي ومنصور، وحاضر منصور، فهناك من قَبِلَ التحول باعتباره مسألة طبيعية وضرورية ليخرج منصور من الثوب القديم الى ثوب جديد يرتأيه لنفسه وتجربته (كم من الاثواب بدّل الاخوان رحباني سابقاً كي يبقيا جديدين؟)... وهناك من تمسّك بذاكرته الرحبانية وراح في نوستالجيا دفاعية يكيل الاتهامات لمنصور ومسرحه. وفي حالات تَحَرُّر كهذه، تتفوّق الذاكرة والنوستالجيا مرحلياً، والنقاش، بعد ذلك يصبح رصيناً معتمداً الدراسة والدقة والمنطق آخذاً في الاعتبار كل الظروف الموضوعية والابداعية التي تحتّم على كل فنان حقيقي ان يغادر ذاته السابقة اذا استطاع الى ذات أخرى في سياق إعطاء جرعات حياة وروح وعصب و"أنا" لاسمه ولصنيعه الفني استجابة لنداء التجدد الذي لا يكف صوته عن الدويّ في وجدان الفنان المبدع ووجوده.

***

 

نصل الى السؤال: هل ما فعله منصور الرباني في "آخر ايام سقراط" من ولوج "زمن" آخر في العلاقة مع المسرح، وكَسْر الصورة التقليدية، وتطوير الاسلوب الفني، انسحب على كل مسرحياته اللاحقة وهي: "القداس الماروني الالهيّ" 2000، "وقام في اليوم الثالث" 2000، "ابو الطيب المتنبي" 2001، "ملوك الطوائف" 2003، "آخر يوم" 2004، "حكم الرعيان" 2004، "جبران والنبي" 2005، "زنوبيا" 2007، "عودة الفينيق" 2008؟!... مع الاشارة الى ان "آخر يوم" و"وقام في اليوم الثالث" كانتا من تأليف منصور، اما الموسيقى والرؤية المسرحية فلإبنه اسامة الرحباني.

***

تجيب عن هذا السؤال تلك الغرفة الشرقية من البيت "اللي شبابيكو حمر" على ما تقول الاغنية، بيت منصور في انطلياس، وتلك الطاولة في ذلك الركن المحروس من الغرفة ويبدو كموقع محصّن، وتلك الاقلام الكثيرة التي يختصرها قلم، وتلك الكتب التي فوق بعضها البعض على المكتب، وتلك الاوراق التي يسجّل عليها النوتات، وذلك الخط الأنيق الذي يميّز اغلب ابناء ذلك الجيل، وذلك البيانو، وتلك الانحناءة التي اصبحت في اواخر الايام جزءاً من جسم منصور... كل هذا يملك الجواب عن السؤال اكثر مما يستطيع احد آخر. لقد كان منصور الرحباني خلال ربع القرن الأخير من حياته رجلاً من.. كتابة شعر ومسرح وموسيقى، ومن اعجاب اهل الانتاج الفني (التمويل) بصناعته المسرحية. كأنما هناك من استفاق على قيمة منصور الرحباني في لبنان والعالم العربي فجأة، او بمثل الفجأة، فانهمر عليه العمل واحداً بعد آخر، واحياناً عملاً فوق عمل (تحديداً ما بين عمر الثالثة والسبعين والثالثة والثمانين)، حتى كاد يصيح بالطالبين منه مسرحاً: أريحوني قليلاً! ولم يرتح منصور الرحباني. كان يعمل لدنياه الفنية كأنه يعيش ابداً، وكانت الأوراق البيضاء التي تمتلئ بحبره تتراكم على تلك الطاولة الصامتة المتكلمة بصمت لا يفقهه الا هو. وكلما اجتمع جمعٌ من الورق تشكلت مسرحية، وراح يلحنها (مع ابنائه) ويدفعها الى الخشبة واعداً نفسه بأخذ نَفَس بعدها، لكن هيهات! فالرجل الذي كان يأكل ويشرب ويكتب كل يوم 24 ساعة على مدار 24 ساعة (هل كان يكتب هو وعاصي أقل!؟) ما خلا ساعات قليلة للنوم يستفيق بعدها او خلالها فيكتب ما دَهَمَهُ من صُوَر في وقت الراحة.. ذلك الرجل كان يمارس ما يمارسه بحب وشغف مقيمين، وإصرار على ان ما لم يَقُله في مسرحية سوف يقوله في المسرحية التالية، وما لم يقله في التالية سوف يقوله في التي بعدها، وهكذا... الى ان اصبح عدد المسرحيات عشراً متلاحقات، وحتى عند وفاته كانت ترتسم في المفكرة ثلاث على الاقل، واحدة بملامح سريعة، وواحدة بخطوط عريضة، وواحدة بهيكل عظمي ينقصه ملء الفراغ بالكلمات المناسبة...
في هذه الامواج المتلاطمة من العمل والعمل والعمل، حَدَث في بعض مسرحيات منصور الرحباني تشابه في رسم بعض الشخصيات، وبالتفاصيل احياناً، وَحَدث تماثل في بعض الاجواء الموسيقية والالحان والمدّات والقفلات، وحدث تقارب في بعض المقطوعات الغنائية الدرامية و"الايقاعية" معاً... وهو تشابه وتماثل وتقارب طبيعي في مناخ طاقة بشرية (ولو رحبانية!) تصرف حرارتها حتى الثمالة، ولا تكاد تخرج من التاريخ القديم حتى تدخل في التاريخ الوسيط حتى تلج التاريخ المعاصر ثم تعيد الكرة مرة اخرى ذهاباً اياباً، وتطل الشخصيات من الكتب ومن الذاكرة ومن الغناء والموسيقى ومن الخيال "العلمي" معاً... (هل التشابه في هذه الحال معصية؟ وهل يدري احد مثلاً لا حصراً ان مطلع لحن اغنية "عروستنا الحلوة" في مسرحية "جبال الصوان" استخدمه عاصي ومنصور مرتين في المسرحية ذاتها، مرة بكلام "عروستنا الحلوة" ومرة اخرى بكلام "تفاحة منعرفها" ولم ينتبه احد... حتى الآن ربما!).

نعم... تسلّلت الى مسرحيات منصور الرحباني "أوضاع" متكررة جعلت بعض النصوص والموسيقى والابطال المسرحيين وكأنهم قادمون من ذاكرة قريبة او بعيدة في مسرح الاخوين او مسرح منصور، كما تسلل "مونوتون" الى بعض التعبيرات عن الثورة والتغيير، وبعض الحِكَم الانسانية، وبعض العناوين الفكرية... واقول كلمة "بعض" وأكررها لأنها "بعض" لا اكثر. واذا كان بعض النقاد استشهدوا بذلك لذمّ منصور وكأنه ارتكب الكبائر، فهؤلاء في الاغلب الأعم (ولا اعني الجميع لأن بينهم اهل معرفة) لم يكلفوا انفسهم دراسة إنتاج اي شاعر او موسيقي او روائي او مسرحي في العالم كله او حتى اي مفكر في شؤون الحياة والانسان، تحديداً وتخصيصاً الكبار منهم، بدقة وموضوعية، ليقعوا على الكثير بل اكثر من الكثير من المحاكاة في ذلك الإنتاج، وليقبضوا بـ"الجرم المشهود" على افكار متقاربة وآراء مستعادة للشخص نفسه وإن بطرق مختلفة احياناً، ولا يسلم من هذا الواقع اي مبدع في الكون، بدءاً من الكتب السموية وهي فوق النقد، الى كل ما تحت النقد من كتب الأولين من الحكماء والشعراء والفلاسفة في التاريخ، ومن كتب التجارب الفنية والادبية والمسرحية والشعرية المعاصرة... فكلها كانت لأسماء خلاّقة قالت جديداً لكنها قالت جديداً قديماً ايضاً، وقالت ما قالت من الجديد، والقديم الجديد، وتركت ذلك على جبين الزمن، لتنقّيه شمس الحياة، على مهل.

تُرى، ألا تتشابه سير حياة بعض "الأبطال" الذين استحضرهم منصور الرحباني الى مسرحه في معاناتهم مع مجتمعاتهم من سقراط الى المتنبي الى جبران، مع معاناة منصور مع بعض مجتمعه؟!

الجواب هذه المرة اعلنه منصور الرحباني نفسه في مقابلة تلفزيونية عام 2000 (تلفزيون لبنان) عندما سئل رأيه في ما يُحكى او "يحاك" له بعد غياب عاصي، فقال بمرارة ساخرة: "لو انا متّ وبقي عاصي لفعلوا به ما فعلوا بي!".

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

17-11-2011 04:1

walidrkhalidi@yahoo.com

وليد راغب الخالدي

منصور وعاصي الرحباني، اخترعا الاغنية القصيرة، ربما تأثرا بالطقطوقة المصرية، وفي عز انهماكهما  المحموم بالتأليف، كانت فيروز تطلق الالحان، لكبار الشعراء، لقد كان الرحابنه يمزجون المحلي بالعالمي، تأكيدا لقدرة الشرق على التأثير، فالتأليف رسالة، والمبدع الحقيقي ينتج لنفسه كي يسعد الاخرين


 

   
 

.