3

:: حــرب أكــتــوبــر.. ذكـــريــات لــلإبــــداع ::

   
 

التاريخ : 18/10/2017

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 5062

 


 

 

تظل حرب أكتوبر 1973 حدثا تاريخيا ضخما بكل المعايير، ومن حق كل طرف أن يستخلص منها ما يشاء، أما الشعب المصري فقد انتزع وصان أهمَّ دروس الحرب ألا وهو أن الانتصار ممكن دائما، وأن تضحيات وبطولات أبناء الشعب المصري لا تعرف حدا، وأن علينا أن نختزن في قلوبنا وذاكرتنا صور الجسارة والبسالة التي أبداها أبناؤنا "على اسم مصر". من تلك الصور مشهد الفلاحة المصرية التي ظلت واقفة خلال الحرب بجوار كوبري بسيط في قرية جنيفة على الطريق بين الاسماعيلية والسويس تتابع ببصرها الطائرات الاسرائيلية في السماء، بينما كان الجنود المصريون ينقلون زملاءهم الجرحى إلي تحت الكوبري في انتظار الاسعاف، وكانت كلما أقبلوا بزميل جريح تمزق قطعة من جلبابها وتضمّد بها جراحه، حتى لم يبق مزقة من جلبابها فمكثت عارية في مكانها تواجه السماء بعينيها وتهتف" الله أكبر". سجّل هذه الصورة أديبٌ شارك في المعركة هو محمد ناجي. هناك أيضا الضابط المصري الذي مازال إلى يومنا هذا يحتفظ بزيّه العسكري الذي حارب به حينذاك، ويحتفظ على الزي بقطرات دمه التي سالت وهو يقتحم موقعا إسرائيليا. جفّت قطرة الدم أما الذكريات فلا تجف دماؤها. أليست كل تلك التفاصيل الصغيرة مادة للأدب، وجزءًا من دفاتر بطولة شعبنا في مواجهة الغزو؟، فهل عجز الأدب المصري أو قصّر في الإحاطة بتلك البطولات؟.

يعتقد الكثيرون أن حرب أكتوبر  لم تستوف حقّها من التعبير الأدبي رغم صدور عدد من الروايات أشهرها "الرصاصة لاتزال في جيبي" لإحسان عبد القدوس، و "نوبة رجوع" لمحمود الورداني، وأيضا روايتي "الرفاعي"، و"حكايات الغريب" لجمال الغيطاني، و"رجال وشظايا" لسمير الفيل، و"يوميات مقاتل قديم "للسيد نجم، و"أنشودة الأيام الآتية" لمحمد عبد الله الهادي، و"الحرب في بر مصر" ليوسف القعيد، ورواية «سرابيوم» لمحمود عرفات الذى شارك فى الحرب، ومسرحية "رأس العش" لسعد الدين وهبة التي ظهرت بعد الحرب بعام واحد. وظهر أيضا العديد من القصائد لكنها لم تشكل تيارا قويا. أما كبار الكتاب حينذاك فاكتفوا بالتعليق والمقالات كما فعل نجيب محفوظ في مقالاته "دروس أكتوبر".

وبالرغم من الأعمال الأدبية المشار إليها يظل الكثيرون يعتقدون أن حرب أكتوبر لم تستوفِ حقّها من التعبير المناسب لحجمها التاريخي. وهناك أسبابٌ وراء تقلُّص مساحة الإبداع أهمُّها أن الحرب استمرت فترة محدودة فلم تتردّد أصداؤها بقوة داخل المجتمع وفي نسيج علاقاته، وأنها اقتصرت على الجيش الوطني من دون مشاركة شعبية خلافا لمواجهة العدوان الثلاثي في 56 التي ساهمت فيها فئات شعبية واسعة، لهذا ظهر خلال العدوان الثلاثي مصطلح "أدب المعركة"، بينما برز مصطلح آخر بعد حرب أكتوبر هو "أدب الحرب".

السبب الثاني وراء تقلص مساحة الابداع أن نتائج الحرب سياسيا لم تكن تتويجا لواقع الانتصار المصري، فاعتبرها البعض حربَ تحريكِ أوضاعٍ راكدة والبعض الآخر حربَ تحرير ولو جزئيا. أخيرا ينبغي القول إن البعض ينتظر من الأدب دائما أن يكون ردا فوريا على الأحداث وهو أمر قد ينجح فيه الشعر لكن لا يستطيعه الأدب الروائي الذي لا يعبّر عن الوقائع بحد ذاتها بل عن أثر تلك الوقائع في النفوس، وهو أثر يحتاج إلي وقت طويل يختمر فيه إلى أن تمسي الحرب جزءا من التكوين الوجداني للشخصيات والبشر وعلاقاتهم.

ويميز تولستوي بين "التأريخ الأدبي" الذي يمكنه أن يلاحق الحدث و"الأدب" قائلاً: "إن المؤرّخ الذي يدرس الدور الذي قام به شخص لتحقيق هدف من الأهداف سيقع على أبطال، أما الفنان الذي يدرس أفعال فردٍ من الأفراد في كل ظروف الحياة فإنه لا يمكنه ولا يجب عليه ان يرى أبطالاً، وإنما هو يرى بشراً"، أي أن الكاتب بحاجة لأن يرى خلاصة الحرب في أرواح بشر محددين، وهي العملية التي تحتاج إلى وقت، لأن دور الأدب ليس تسجيل الوقائع، أوتصويرها من الخارج بل رصد أثر التحولات الكبرى في السلوك وفي الروح الانسانية. وقد قام أدباؤنا، قدْرَ استطاعتهم، بدورهم في هذا المجال، ومن الظلم مقارنة ما قدمه أدبنا المصري بما قدمه الأدب العالمي عن الحرب مثل رواية "في مغيب القمر" لشتاينبك، أو "وداعا للسلاح" لهمنجواى أو رواية "الأمل" لأندريه مارلو، وغير ذلك، هذا لأن كل مقارنة من هذا النوع ستكون غير صحيحة سواء أكان الموضوع هو الحرب أو الحب أو الموت.

وفي اعتقادي أن المهمة الممكنة والضرورية الآن هي جمع شهادات وذكريات الجنود والضباط، والأهالي، والمواطنين البسطاء عن الحرب، لأنها ستشكل مادة حية وثريّة للأدب وستفعل التفاصيل الصغيرة فيها فعل الشرارة التي تشعل حريق الإلهام والابداع للكتابة عن جسارة شعبنا. مازلت أذكر ما حكاه لي أحد الذين شاركوا في الحرب من أن الجنود المصريين كانوا يندفعون لسدّ فوهات المدافع الاسرائيلية بأبدانهم. هذه الواقعة وغيرها تحتاج إلى تعبير، لأنه ما من قصة حب من دون ترنيمة، وما من واقعة بطولة من دون نشيد. الفن توأم الأحداث، يولد معها، ويرتبط بها بقوة ارتباط القمر بالضوء. ومازالت قطرة الدم التي صانها الضابط المصري على ثوبه نحو نصف قرن تسأل المزيد من التعبير والقصص والأهازيج والأغاني.

***

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب مصري

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.