3

:: اسم في الليل - قصة قصيرة ::

   
 

التاريخ : 12/09/2017

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 4487

 


 

 

كان جالسا في مضيفة الطابق الأول من بيته الريفي وقد أراح رأسه على المسند الخلفي بعد أن نام الأولاد وخيم الهدوء. تناهت إليه أصوات غريبة مدغومة كموجة من ظلمة. نهض. خرج بالجلباب إلى الشرفة المفتوحة على الحديقة. كانت السحب تغطي وجه القمر والليل شديد القتامة. مال برقبته يلقى نظرة على أرضه الممتدة خلف الحديقة. لا حركة ولا صوت. قبل أن يستدير عائدا للداخل سمع الأصوات تقترب واضحة. دبيب أقدام مهرولة، ضجيج وصيحات، ثم شقَّ الأجواء صوت يصيح بكلمة "غريب" كأنما تحذير أو استنفار. تنبَّهتْ حواسه كلها. لا معنى لكلمة "غريب" في ليل القرية سوى أن أحد الأشقياء سطا على زرع أو ماشية أو هجم على بيت يسرقه. فجأة تقصف سكون الليل من هزيز الرصاص. دوي متلاحق بومض من لهب برتقالي. انطلق إلى الداخل بسرعة. سحب بندقيته. اختطف تلفيعة صوفية من على مقعد ألقى بها على كتفيه وركض إلى الخارج. توقف عند بوابة البيت. زر عينيه في العتمة ليرى مصدر الصوت. لمح على الطريق الضيق المحاذي للترعة كتلة بشرية تتحرك داخل شبورة. هرول  فوق  الجسر الخشبي وأدرك الرجال هناك. احتشدوا في حلقة بعضهم يحمل البنادق والبعض يمسك بشوم غليظ، يتبادلون المشورة بكلمات مقتضبة وهم يرسلون نظراتهم في كل ناحية بحثا عن الطريق الذي يرجح أن يكون الغريب قد  سلكه. لمح بين المحتشدين محمود ابن عمه حسن. اقترب منه وسأله وهو يلهث: "ماذا جرى؟". أجابه محمود بنبرة قاطعة من دون أن ينظر ناحيته: "غريب". استفسر بقلق: "وماذا فعل؟". قال مهموما: "لا أدري. أبو اسماعيل هو الذي لمحه عند الساقية". سأله: "أي ساقية؟". أجاب متبرما: "لا أعرف". قالها وغاب في قلب التجمهر يشق معه الطريق بين أعواد الزرع بغضب وتوتر. مشوا طويلا، يرفعون فوهات البنادق، يرخونها، يدمدمون، يتلفتون حولهم إلى أن بلغوا أرض السلباوي التي هجرها أبناؤه في نزاع فأمست خربة ثعابين. لعنة الله على الغريب المجهول الذي جرّه في الليل ليستنشق الغبار الصاعد من بين الأقدام برئتيه  المنهكتين من  التدخين. من هو؟ ما الذي فعله؟ وأين هو في تلك الظلمة؟. توقف عبد المولى والريح تهزّ أطراف جلبابه: "كأنه فصّ ملح وذاب"! هتف غنام بغل: "لا يمكن أن يذهب بعيدا". زعق أبو اسماعيل وهو يؤرجح طرف بندقيته عاليا: "ها هو. هناك يارجال". لعلع الرصاص في الاتجاه الذي أشار إليه الرجل ثم ساد صمت. اندفع ثلاثة منهم إلى الأمام يخبطون الأرض بأطراف أقدامهم يتلمّسون جثة مصاب برصاصهم. سمعهم من بعيد يرددون "لا أحد". عادوا من جديد، كتلة واحدة، تجتاح الليل وعيونها تلمع بالشرر. بدأ يشعر بالتعب والانهاك يتسرب إلى قدميه ونغزة في ذراعه اليسرى. تثاقلت خطوته إلى أن تخلف عن الموكب ووجد نفسه بمفرده تماما والريح تعوي حوله. التقط أنفاسه: "لو كنت قد استفسرت عما رآه أبو اسماعيل؟ عما حدث؟ أو أين جرى ماجرى؟". استراح قليلا ومدّ بصره إلى جهة اليسار فرأى مبنى قديما مهجورا يشبه مخزن غلال وأمامه شجرتان. لم يكن مسموعا سوى نقيق الضفادع في ضوء قمر مختنق حين لمح فجأة طرف تلفيعة يرفرف في الهواء ويتوارى خلف إحدى الشجرتين. قال لنفسه: "إنه الغريب. عليك بالحذر". كتم أنفاسه وسار ببطء على مدقّ رفيع نحو المبنى وإصبعه على زناد البندقية. توقف مكانه. خايله ظل التلفيعة كأنما يثب من وراء الشجرة إلى كومة أحجار عالية يتوارى خلفها. وثب عدة وثبات فوق قنوات ماء مهجورة. شقّت أغصان جافّة جلبابه عند كتفه وانخلعت منه فردة من نعله وهو يخوض في الأرض. أحس بسنّ زجاجة ينغرز في باطن قدمه. توقّف لاهثا: " لعنة الله على الغريب المجهول" . قطع عدة خطوات إلى اليمين وهو يعرج في مشيته، ثم حطّ على حجر في الأرض ووضع بندقيته إلى جواره. ضرب الهواء البارد وجهه. تفكر في ما جرى: "للقرية أسرارها، مثل كل القرى، ربما لا يكون لصّا ولا مجرما بل مجرد عاشق يطوف ببيت امرأة ؟". تساءل: "هل أيقظ ضجيج المطاردة أولاده الصغار في البيت؟ أم أنهم ينعمون بنومهم؟". أحس بالدم ينزّ من قدمه. شملته رجفة رعب من الصمت المطبق كحد السكين ومن ضوء القمر الفضي الميت ومن رائحة التراب ومن شعوره أنه وحيد بمفرده تماما. استجمع همته وضرب بيده على فخذه ناهضا:" لابد من الرجوع إلى الجماعة". تحامل على قدمه النازفة وخطا مسترشدا بأصداء الأصوات. أصبح صياح الرجال ودبيب خطوهم مسموعا عن قرب. ملأ صدره بنفس الارتياح العميق. رفع بندقيته لأعلى ولوح لهم هاتفا: "يا جماعة". قبل أن يتم نطق الكلمة وقبل أن يتبين أحد صوته انصب عليه الرصاص بلا توقف، وصرخ أحدهم "وجدناه. من هنا. تعالوا". تجمّد مذهولا. صاح مرتعدا من الغضب والانفعال: "أنا شفيق حمدان". لم يلحق بنطق الحرف الأول من اسمه إلا وكان الرصاص يتطاير ناحيته بقوة وكثافة شديدتين. بدأ يسمع دبيب خطوهم يرج الأرض والغبار يعلو في اتجاهه. أدرك أن أي همس يصدر عنه الآن سيؤدي إلى مصرعه. أحسّ بيأس أسود يغمر روحه كلها. ترجرج في عينيه بريق غريب ثم انطفأ. قال لنفسه: "يطاردونك ويفتحون النار بلا هوادة. لا يمنحونك لحظة تقول فيها من أنت؟ وتدفع ظنونهم؟ أي جنون! لم يعد إلا الفرار طريقا وحيدا أمامك".

جرى إلى الأمام  يعرج تلاحقه غيمة أصوات تتشعب في الجو بتوتر واصرار يئز بينها صياح صارخ: "لاتتركوه. إنه هناك". تقطعت أنفاسه وهو يعدو  بقدمه النازفة إلى أن وجد نفسه قرب قبر مفتوح منبوش، وخيالات الرجال تطول وتتمايل في العتمة كالأشباح. لم يشعر بالرصاص الذي اخترق صدره وكتفه، فقط أحس بنصفه العلوي يميل ويهوي، ثم بوجهه ينكفئ على تراب القبر. لحظة أخيرة من الوعي، ثم طوته غيبوبة الأبد.

وبحلول الصيف بزغ في الأرض الخربة زهر مجهول يتوهج بقسوة، اشتدت أعواده في أكثر من مكان.     

 د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب مصري

 

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.