3

:: على ربوة - قصة قصيرة ::

   
 

التاريخ : 21/01/2017

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1755

 


 

فجأة فهمتُ، الآن فهمتُ. نعم . فجأة كأن سيفا باغتني وشقّني ورماني إلى  الذهول. فهمتُ، بعدما انحنيتُ لأفتح باب السيارة. تطلعتُ وأنا واقف في الشارع إلى  جانب وجه ابنتي. كانت تنظر أمامها عبر الزجاج الأمامي ويداها على المقود سارحة بخواطرها. أفتحُ الباب. أجلسُ بجوارها. أتزحزح ناحيتها. أمدُ كفي إلى  ساقي المدلاة على الإسفلت. أرفعها إلى  داخل صالون السيارة ببطء. أستدير إلى ابنتي. ألمح في عينيها ضجرا مكتوما. حينئذ فهمتُ. نعم. فجأة فهمتُ. أدرتُ وجهي وأرسلتُ  بصري عبر الزجاج. ساد الصمت في الصالون إلى أن قلتُ لها:

-هيا بنا. إلى  بيت العائلة.

كانت تعرف إلى أين سنتجه فلم تنتبه لما قلته أو أنها لم تكن تنصت إلي. فهمتُ. كانت تتحمل وجودي. هكذا كنتُ أنا أتحمل وجود أمي وهي في السبعين وأنا شاب متعطش للحياة في الثلاثين. كنتُ أتابع أمي وهي تفتح باب سيارتي بتثاقل، تجلس. تتزحزح ناحيتي. تتنهد أولا ثم ترفع ساقها على مهل وهي تكز على ضروسها. أكان لابد من انقضاء ثلاثين عاما لأفهم أنها بنظرتها كانت تطلب الحنان؟ بشرودها بعد أن تفتح النافذة وترسل بصرها إلى  الأشجار والبيوت؟ بهزة رأسها بشعرها الفضي مع نغمة قديمة؟ بوحشة ورقة استسلامها للتعب؟ بسرحانها بعيدا إلى حيث بدأ كل شيء. تسأل نفسها بحيرة كيف مضى العمر سريعا؟ أين كان ينبغي لها أن تتفادى ضياعا أو آخر؟. في السبعين اكتملتْ مثل قطعة قماش تحت عينيها صورة حياتها. لم يبق زمنٌ لتطرّز عليه وردة، ولم يعد بوسعها أن تبدّل الرسم القديم. حينذاك لم أفهم ، وكنتُ أقابل ذلك بنظرة ضجرة، أما هي فلم تفضي بشيء. احتاج الأمر سنوات طوال لأدرك في لحظة كل ما كانت تشعر به وتكتمه. لماذا لا يأتي الإدراك إلا متأخّرا؟ حينما يصبح القلب منهكا؟ وتكون الشفتان قد فقدتا حرارة التقبيل؟

راحت ابنتي تقطع شوارع المدينة إلى بيت العائلة في صمت. مطر خفيف يتساقط على الزجاج الأمامي والجو مشبع بلون الغروب. تتلفّت ابنتي بعينيها يمينا ويسارا وتمرق من بين السيارات بتهوّر. أشعر بالتوتر والخوف.  

-من فضلِك قودي ببطء شوية.

تردّ متذمرة: هذه سرعة معقولة. لا تخف.

نعم. السرعة معقولة. المشكلة في أعصابي أنا. لم تبثني أمي حينذاك شيئا من تعبها، تفادت حتى الإيماءة ولو بتنهيدة. لعلها كانت تقول لنفسها: "سيحل يوم يفهم فيه كل هذا. لم أتعجّله؟". أنا أيضا لا أفضي بشيء لابنتي. أحدّث نفسي بأن لحظة ما ستحل، وفي لحظة ما ستدرك فجأة رسالة نظرتي بمحبة تنعقد بقوة الدم والضجر والإيلام والحنان.

نقطع ميدان الحلمية. ندخل إلى  الشارع الرئيسي المؤدّي لبيت العائلة القديم حيث نمَونا. لم تطاوعنا نفوسنا بعد وفاة أمي على بيع الشقة. اتفقنا على أن نلتقي فيها آيام الجمعة. نجلس أنا وأختاي الاثنتان في الصالة، نتغدى ونشرب الشاي. تنهض وئام الكبرى تتجول بين الحجرات تتفقد ذكرياتها كأنما تطمئن أنها مازالت دافئة في أماكنها. تتجه نوال إلى الحجرة التي كانت للبنات وتتمطّى على سرير طفولتها. بعد وقت ننصرف إلى بيوتنا، ثم تباعد اللقاء مع تقدمنا في السن وطول المسافات، فأعتمت الشقة وكسا التراب حواف قطع الأثاث وأطراف الستائر فقررنا أن نبيعها، بعد ربع قرن من وفاة أمي. الآن لم يبق سوى أن نلتقي هذه المرة نتقاسم قطع الأثاث والصور والأواني ونجول بأبصارنا نودّع المكان قبل تسليم المفتاح. لم أكن مستريحا لذلك، فقد بدا لي ذلك التقاسم أشبه بتمزيق كائن من الذكريات المتشابكة. قلت لوئام: "لا أريد شيئا"، لكنها أصرت: "وأنا لا أود أن أحصل على كل شيء وحدي. تعالوا نِلْتِقي، منها نِتْذكّر أمِّنا، ومنها نفرِز المَوجود".

 نقترب من الشارع الذي نمَونا تحت أشجاره وبين رصيفيه. هنا أعرف غيبا كل محلّ بقالة وصاحبه الأصلي وأولاده، وتاريخ كل كشك، واسم كل بواب عمارة، وبنات كل أسرة. نتوقف عند البيت. تركُن ابنتي السيارة. تخرج وتمسك بذراعي وأنا أصعد السلالم ببطء. هكذا كنت أقبض على مرفق أمي وهي ترفع قدمها إلى الرصيف وتلهث قائلة: "بالراحة شوية". لكني لم أفهم. بلغنا الطابق الثالث ومن أول الطرقة الممتدة رأيت باب الشقة مفتوحا، وتناهت إليّ من هناك أصوات كلام أختَيّ الاثنتين. دخلنا. كانت وئام الكبيرة جالسة على الأريكة أمام التلفزيون تمسح أنفها بطرف فوطة صغيرة ثم تكورها وتحشرها بجوارها، ونوال بقربها تفتح البخت بأوراق لعب على طرف الأريكة. ما إن جلسنا حتى أشارت وئام بإصبعها إلى شوفينرة ضخمة ضاحكة: "هنا وضعنا أول راديو كبير اشترته أمي وغطيناه من شدة الحرص بقماشة". ضحكت نوال ضحكة يسحبها الماضي. نتبادل النظرات في صمت. نشعر بوجود أمي، بهفهفة طرف جلبابها المنزلي، بخطواتها من دون صوت. نسرح بأبصارنا في الجدران التي تشقق طلاؤها وبهتُ. قالت نوال لابنتي:  "لماذا لا تقومين وتعدّين لعمّاتك ووالدك الغالي قهوة؟". نهضت ابنتي إلى  المطبخ. عادت بعد قليل بفناجين القهوة وجلست تتحدث مع صديقة في المحمول بصوت خافت. قالت نوال: "لقد جمعتُ كل الأطباق والأكواب في صناديق كرتون". نبّهتنا وئام بنبرة استئذان: "إذ لم يعترض أحد فسآخذ غرفة النوم التي كانت تنام فيها أمُّنا". لم أطلب سوى تلك المنضدة التي تنطبق إلى  نصفين وكانت أمنا تجلس إليها كل صباح تحتسي الشاي.

تذكّرتُ حين ذهبتُ مع أمي وأنا صبي لزيارة خالي عبد العزيز المريض بالسل. كان يوما حارا، ونحن نسير على طريق مترب مهجور تقريبا. أسير وأضرب الحصى بطرف حذائي وأمي تتقدّمني بخطوات. فجأة رأيتُ عربة "آيس كريم" صغيرة مرسوم على خشبها قط ملون. تمهّلتُ عندها. شعرتْ أمي بذلك أو سمعتْ كيف تراخت خطواتي. التفتتْ نحوي. لمحتْ في عينَيّ نظرة اشتهاء آيس كريم. لبثتْ لحظة في مكانها فقلت لنفسي النقود قليلة، لكن وجدتُها تهز رأسها وتقصد العربة لتشتري آيس كريم.

بعد نحو أربعين عاما كنتُ مع ابنتي في محلٍّ وُضعتْ على أرفُف منه دُمى خشبية زاهية الملابس. تجمدت ابنتي وكانت في السادسة أمام واحدة منها بانبهار. لبثتُ لحظة مأخوذا بعينيها المفتوحتين إعجابا على آخرهما. تلفتُّ حولي. وجدتُ الممر خاليا من الزبائن فاتجهتُ إلى الدمية خطفتها بسرعة من على الرف وأخفيتها تحت طرف البالطو ثم أسرعتُ الخطوَ للأمام، وابنتي تهرول ورائي وهي تهتف: "إيه يابابا ده؟ عيب كده". وضعتُ طرف أصبعي على شفتي وزعقت فيها "هس. اسكتي". وانطلقت من باب المحل إلى الخارج. مددتُ الخطوَ على الرصيف وابنتي خلفي تصيح بصوت خافت: "عيب كده. أنت لم تدفع فلوسها؟!". عندما صرت بعيدا بما يكفي توقّفت تحت عمود نور، ولحقتْ بي فأخرجتُ الدمية وناولتها إياها. أمسكتها بيديها ثم أنزلتها إلي مستوى ركبتيها لتطوق عنقي بفرح: "لكن جميلة قوي يابابا"! وتلألأت في عينيها دموع سعادة ودهشة.

أنهينا كل شيء، لم آخذ سوى المنضدة الصغيرة التي تطوى نصفين. ألقينا نظرة أخيرة على الشقة وخامَرَنا ونحن نخرج منها شعورٌ بأننا لم نشتّت فقط الذكريات التي جمعتنا بل وبأننا أنفسنا نتفرّق في دروب مختلفة. أغلقت وئام الباب. قالت للحارس إن سيارة نقل ستأتي غدا لنقل الأثاث ورفعت مفتاح الشقة بين أصبعيها لتسلمه إياه، ثم ارتجفت كفُّها مرتدّة للخلف واستدارت تبكي في صدر نوال. ربّتت نوال على كتفها وطوقتها بذراعها. خرجنا من باب العمارة إلى الشارع وخيل إلي أن أمي وحدها الآن في الشقة تطوف بين الحجرات الفارغة تقسم روحها إلى قطع صغيرة تحلها في كل قطعة أثاث ليبقى منها جزءٌ في كل ناحية. سلّمنا وودّعنا بعضنا على الرصيف.

ركبتُ مع ابنتي في سيارتها وانطلقنا على الطريق. كانت الشوارع هذه المرة خالية والمرور سهل. وصلنا إلى مسكني. فتحتُ باب السيارة ببطء. "إلى اللقاء يابابا"، أجبتها: "إلى اللقاء يا حبيبة بابا". أنزلتُ طرف قدمي من السيارة فلامست الإسفلت، لكني لم أشعر بصلابته بل بطراوة تربة ندية. نظرتُ أمامي فرأيت مطلع ربوة عالية، وثلاثتنا، أنا وأمي وابنتي، نرتقي الربوة معا، وكل منا في العشرين من عمره. أنا في العشرين وأمي في العشرين وابنتي في العشرين. أذرعنا متشابكة ندوس أطراف الأعشاب اللينة صاعدين بخفة. بلغنا رأس الربوة فتوقّفنا نلتقط أنفاسنا، ومن هذا العلو الشاهق انحدرنا بأبصارنا إلى  السفح. لمحنا تحتنا بعيدا ألماسة الزمن وقد تكسرت إلى أيام ولحظات كثيرة تتوهّج وتنطفئ من دون ترتيب. تهبط أمي ببصرها إلى ماضيها وأتطلّع أنا إلى  مستقبلي وماضيها وتلتفت ابنتي إلى حاضرها ومستقبلي القادم. نُديم النظر وكل منا في العشرين إلى النقاط الصغيرة التي تقاطعنا فيها والتي سنتقاطع فيها. حين أدركتُ أننا سنبقى هنا فردتُ المنضدة التي كانت تحت إبطي وجلسنا حولها. رحنا نتطلع إلى بعضنا البعض مثل موجات فتية تذوب أوائلها في حوافها بالفرح وترتد بالمسرّة، ونحن نعلم أننا الآن سنبقى دوما في سعادة وغبطة العشرينات، وأننا مثل الهواء والنور، لن نشيخ أبدا. 

 

أحمد الخميسي. كاتب مصري

 

 

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.