3

:: مقدمة ديوان "منصَّة" ::

   
 

التاريخ : 30/05/2007

الكاتب : هنري زغيب   عدد القراءات : 2242

 


  

مقدمة ديوان"مِنَصَّـة" *

   

-1-

 

هل قدَرُ القصيدة المنبرية أن تنطوي مع انتهاء إلقائها على المنبر؟

      وهل كلُّ مناسبةٍ منبرية يذوي حضورُها مع انصراف الحضور من أمام المنصة؟

      قد يصحُّ هذا الكلام في موضعين:

1)                      حين المناسبةُ عاديةٌ عابرة لا سنَدَ لها كافياً يجعلُها تظلُّ في البال أو في المحفوظات. والمناسبة العادية (عائلية، شخصية، إخوانية، محلية، ...) لا تستحقُّ التبسُّط بها. وحدها عاديَّتُها تلغيها من النقاش، وتُسْقِط معها القصيدة الملقاة حتى لو نشرها شاعرها لاحقاً. وستبقى لا تعني إلاّ هو وقلةً معه حضروها أو يعرفون ذوي الصلة بالمناسبة. فهي ضيّقة الأفق لا تستحق البحث.

2)                      حين القصيدة المُلقاة في المناسبة نَظْمٌ مسَطَّحٌ ولا قيمةَ شعريةً لها تَجعلُها تظلُّ في البال أو في محفوظات الشاعر طريقاً الى نشرها ذات يوم في كتاب. وقصيدةٌ دون المستوى الشعري لا شعرَ فيها بل نظم بارد، ولا تستحقُّ هي الأخرى التبسُّط بها. وحدَها نظميَّتُها التي لم تبلغ الشِعر، تلغيها من التداول والذاكرة والمحفوظات، ونَشْرُها في مجموعة لصاحبها يَدينُه أكثر مما ينفعه.

      أية قصيدةٍ منبرية إذاً؟ وأية مناسبة؟

 

-2-

 

من بداهة الأمور أن يَصعُبَ الشاعر في اختيار المناسبة التي يرضى الاشتراك في الوقوف على منبرها، فلا يقبل بأية مناسبةٍ ويكتب فيها قصيدة جديدةً خاصة. ما كلّ مناسبة جديرة بشرف أن تقال فيها قصيدة (أستثني من هذا المعيار شعر الزجل الذي، في أساسه، مبنيٌّ على المناسبات من دون انتقائية). معيار هذه الانتقائية أن ترتفع المناسبة الى مستوى الشعر، لا أن يندرج الشعر في سياق المناسبة أياً تكن وأنى تكُن. بـ"المناسبة" أعني الشخص المكرَّم (راحلاً كان أم رافلاً بالحضور) أو الذكرى المحتفى بها (وطنيةً كانت أم أدبية أم سواهما). وبـ"رفع المناسبة الى مستوى الشعر"، لا أعني التقليل من أهمية المناسبة (لشخصٍ كانت أم لذكرى أم لتكريم)، بل أعني أن يجعل الشاعر نفسُه المناسبة أهلاً لتدخل في حُرمَة القصيدة وفي تاريخه الشعري. فرُبَّ مناسبةٍ لتكريم عظيم أو ذكرى غالية، يكون الشاعر دونها فيستغلّها لبروزه لا لإبرازها، وتأتي قصيدته تمجيداً مجانياً مدحياً دون مستوى الشعر الذي من شأنه، حين هو من شاعرٍ شاعر، أن يُخلّد المناسبة وتالياً صاحبَها أو ظرفَها. رُبّ مناسبةٍ دون شرف الشعر، ورُبّ قصيدةٍ دون مستوى المناسبة.

      أهمية قصيدة المنبر: تضمينها ما يضوّئُ مناسبتها، وإنما أيضاً ما يعتنقه الشاعر ليقول آراءَ له أو نظرةً أو وِقفةً وجدانية.

      إذاً رفعُ المناسبة الى مستوى الشعر هو من شأن الشاعر لا المناسبة نفسها. هنا مهمّة الشاعر: أن تكون قصيدته مبنيّة لا على "ماذا" في المناسبة، بل على "كيف" يقارب هذه المناسبة لكي يضمن بقاء قصيدته. فالشعر، أياً تكن ظروف وضعه، ليس الـ"ماذا" بل الـ"كيف": لا "ماذا يقول الشاعر" بل "كيف يقول ماذا"؟

 

-3-

 

قصيدة المنبر، إذاً، ما عناصر بقائها بعد المناسبة؟

      في جوهر الشعر، لا فرق في النسيج الشعري بين قصيدة منبرية لمناسبةٍ، يكتبها الشاعر ليُلقيها على منصَّة فيسمعها منه المتلقّي، أو قصيدةٍ يكتبها الشاعر كي ينشرها ليقرأها عنه المتلقّي.

      لكنّ في الأمر فخّاً (للشاعر والمتلقِّي معاً) يجب التنبُّه له.

"فخُّ" القصيدة المنبرية أنّ الشاعر غالباً ما يكتبها بصوته ويقرأها لوحده بسمعه، أكثر مما يكتبها بنبضه ويقرأُها بِحِرصه. يكتبُها بصوته الجهوري الخطابي المنبري متوقِّعاً ردّة فعل المتلقي، فيعمَد (غالباً) الى أمرين بَديهيَّين:

في الإلقاء: الإكثار من التطريب وهو يلقيها، خصوصاً عند نهايات بعض الأبيات، طمعاً بتصفيق الجمهور لنبرته (ولو لم يكن البيت عالي الشِّعرية).

في النص: الإكثار من صُوَر وتعابير (والأغلب: مبالغات) تُثير لدى الجمهور ردّة فعلٍ ذات صِلة (وغالباً يصفّق للنبرة الإلقائية في نهاية البيت أكثر مما يصفق إعجاباً بالبيت نفسه)، فتستثير أبياتٌ بعينها تصفيقاً من الجمهور يطرب له الشاعر على المنبر ويتوقع تهانئ الجمهور على تلك الأبيات بعينها بعد نزوله عن المنصة (وقد لا تكون تلك الأبيات بالذات من الشِّعر الشِّعر)، وهذا قد يقرّب الشاعر من جمهوره لكنه قد يُبعده عن الشعر: يقرّبه من الآني العابر ويُبعده عن الدائم الخالد.

الخلاص من هذا الفخّ؟ تفكير الشاعر، فيما هو يكتب قصيدته أو تالياً فيما يلقيها، أنّ الأهم ليس تصفيق الجمهور لهذا البيت أو ذاك، لهذا المعنى أو ذاك، بل اشتغالُه على القصيدة بعناصر الشعر المتينة، فتكون عمارةً شعرية قوية، منبراً كان مَآلُها أم نشراً، قصيدةَ مناسبةٍ كانت أم قصيدةَ غَزل.

 

-4-

 

لا يستهينَنَّ الشاعر بالمناسبة (على أنها عابرة وتَمضي) لأن المناسبة تَمضي ولا يذكرها لاحقاً إلاّ بعضُ حضورها وأرشيف الصحف، أما القصيدة فتبقى ويُحاسَب الشاعر عليها في أيّ وقت لاحق. إذا كانت المناسبة عابرة فالشعر ليس عابراً.

غالباً ما يخلّد الشاعر المناسبة فتكون قصيدته مرجعاً إليها ولو بعد حين، وتكون القصيدة خلّدت المناسبة لا العكس. هذه، مثلاً، معظَمُ قصائد المتنبي: خلّدت الممدوحين ومناسبات إلقائها، فعاشوا بفضلها الى اليوم مع أن الشاعر فيها نَحا غالباً الى مدح شخصي مباشر أرضى الممدوح يومذاك على حساب اللمعة الشعرية العالية، لكنها اليوم لم تعُد ترضي الشعر.

وهذه مثلاً قصائد سعيد عقل المنبرية: خلّدت أصحاب المناسبة فأرضت قدْرَهم يومذاك، لكنها كلّ يومٍ تُرضي الشعر لما فيها من مضامين شعرية وحضارية وفكرية طرّزها الشاعر على أعلى مستوى من الشعر، ناحتاً قصيدته عمارةً احتوت المناسبة فلم تَعُد هذه سوى إطار للقصيدة.

 

-5-

 

كانت المنصة واحة الشاعر الواحدة ونافذة شعره الوحيدة. من هنا أن الشعر العربي "ظاهرة صوتية"، بارتكازه على المنبر إلقاءً (منذ عكاظ الجاهلية حتى اليوم) وعلى جمهوره مستمعاً (أكثر منه قارئاً). ولا تزال هذه الظاهرة (ولو بشكل عصري) سائدة حتى اليوم، بدليل إقبال الجمهور على سماع الشاعر يلقي قصائده على المنبر، أكثر من إقبالهم على اقتناء مجموعاته الشعرية وقراءتها. وغالباً ما تصل قصائد الشاعر الى متلقّيها (إن هو كان ذا موهبةٍ لافتة في إلقاء الشعر) أعمق مما تصلهم لدى قراءتهم إياها بين دفتي الكتاب.

وربما هذا ما يجعل المناسبات (بشكل عامّ) تطرب للشعر أكثر منها للخطب النثرية، مع أن خطبةً نثريةً تكون أحياناً (وربما غالباً) أبلغ من القصيدة. لكن إلقاء القصيدة، بتطريب وزنها ورنّة قوافيها، يشد إليها الجمهور أكثر من النثر المنبري.

وهنا الفخّ الذي يقع فيه الجمهور وأحياناً يوقع معه الشاعر:

1) معظم الشعراء (النظّامين) يكتفون بأن يستقيم لهم الوزن ببحوره وجوازاته وتفعيلاته، وتنساق لهم القوافي بِرَويّها وحروفها (وهذا نظم أجوف لا شعر فيه) فيضمِّنون إلقاءها تطريباً يثير إعجابَ الجمهور فتصفيقَه.

2) معظم الجمهور لا يأبه للنسيج الشعري العالي في القصيدة، فيكتفي منها بالصورة والفكرة (وأحياناً تكون فيها مبالغات تُرضي الجمهور ولا تُرضي الشعر)، ويكتفي برنّة التطريب في الإلقاء ونبرة الحماسة في نهايات الأبيات، ليُبدي بالقصيدة إعجاباً غالباً ما يضلل الشاعر بعيداً عن معيار الشعر الشعر.

أقصى ما يمكن السماح به في قصيدة المناسبة أن تقتصر أبياتٌ منها على المناسبة وحسب (صاحبها أو مكانها أو ذكراها)، وأن يكون في تلك الأبيات جمالٌ شِعريٌّ، وصفاً أو مدحاً أو ابتكارَ صورة تَخُص صاحب المناسبة (وهذا ما يضيف الـ"كيف" الى الـ"ماذا" في الشعر). لكنّ تلك الأبيات بالذات لا تشكِّل وحدها مادةً لِخُلود القصيدة بعد مرور المناسبة.

 

-6-

 

بين يديك، في هذه المجموعة، قصائدُ هي بعضُ ما ألقيتُهُ في مناسبات مختلفة على منصات مختلفة. فأنا أُدعى في حياتي الأدبية الى مناسبات منبرية كثيرة، لبّيتُ معظَمها، لكنّ الضئيل منها حظِيَ بقصيدةٍ مني، لِحرصي ألاّ أكتب في مناسبةٍ قصيدةً إلاّ حين المناسبةُ على مستوى أن تدخل في الشعر. لذلك، في غالبية المناسبات المنبرية التي أدعى إليها، أكتب خطبةً نثريةً أشتغلها تَماماً بِحِرَفيّة كتابتي القصيدة، لأنني أرى أن النثر يتّسع على المنبر لِمساحاتٍ تليق به من دون حرَج، ولا تليق بأن تدخل الشعر.

واشتغالي على النثر في خطبة منبرية، يعادله تماماً إلقائِيها كما أُلقي القصيدة، بالنبض نفسه والنبرة نفسها، احتراماً للنثر الذي، كتابةً وإلقاءً، لا يقلّ حرمةً عندي عن الشعر.

وإذ يحصل لي أحياناً أن أرتجل خطبةً على المنبر، حين المنصة تتيح (وحتى نَصِّيَ المرتَجَل أَتعمَّده أنيقاً كَنَصِّيَ المكتوب)، لا أسمح لي مطلقاً بأن أرتجل بيتَ شعر واحداً على المنبر. فللشعر حرمته وقدسيّته وهَيبَته وطقوسه، ما يتساهل به النثر ولا يتساهل به مطلقاً السيّدُ الشعر، وأنا ضنين بالشعر، كتابةً وإلقاءً، فلا أتهاون أبداً بالتعامل معه تعامُلي مع صديقي النثر.

في هذه الـ"مِنَصَّة" بين يديك باقة قصائدَ ألقَيتُها على المنابر مؤمناً بمناسبتِها التي وجدتُ الشعر يليق بها فرفعتُها إليه وحاولتُ أن أجعله على مستواها: ذكرى كبار (جبران، كرم ملحم كرم، أمين تقي الدين، رياض المعلوف)، وفاءً لِمَدينة (زحلة مدينة الشعراء، جونيه مدينتي)، ولاءً لعلَم (جيش لبنان)، وقفةً وجدانية (مغارة "عريقة")، وِقفةً وطنية (قانا، فلسطين في لبنان)، مُخاطبة الإنسان في كل مكان (القصائد الثلاث الْمغنّاة)، مُخاطبة الشاعر ومَجد الشعر والشعراء.

هذا في المضمون.

أمّا في الشكل (والقصائد جميعُها كلاسيكية=عمودية أو تفعيلية) فنَشْرُها في هذا الكتاب (كما في سائر كتُبي الشِّعرية) لا يتّبع الطريقة العروضية التقليدية في التقطيع (صدْر/عجُز) بل فنتَزيةً منسرحَةً تقطيعُها يُراعي المعنى أو نَفَس العبارة عوض تصنيمها وَقْفاً أو قطعاً بنهاية الصدر أو بالروي/القافية عند نهاية البيت. هذا لأقول إن تشكيل القصيدة على المساحة البيضاء لا يجعلُها، بشكلها، شِعراً إن هي ليست في الشِعر (بل نظمٌ مسطَّح)، ولا يَنْزع عنها الشِعرية حين هي كلاسيكيةٌ منتثرةٌ بالشكل "الحديث" المحسوب علينا "حديثاً" لتمرير نصوصٍ تلبسه على أنها "حديثة" وهي ليست سوى نثر منتثِر بهذا الشكل "الحديث" الذي لا يجعلُها، لوحده، شعراً، بل يُبقيها نثراً غير مكتوبٍ أفقياً (كالشكل التقليدي للنثر) بل عمودياً متقطّعَ العبارات فنتزياً وفْقَما اقترحه كاتبه ليَسِمَه "شعراً" لكنها باقيةٌ نثراً أياً تكن طريقة (أو شكلُ) كتابتها، بينما القصيدة (كلاسيكيةً كانت أم قصيدة تفعيلة) تبقى شعراً أياً تكن طريقةُ (أو شكلُ) كتابتها.

 

-7-

 

 

في الخلاصة: النثر مطواعُ الشكل الكتابي، والشعر مطواع الشكل الكتابي. النثر يبقى نثراً كيفما كُتِب، والشعر الكلاسيكي يبقى شِعراً كيفما كُتِب. الشكل ثوب، والثوب لا يعطي الهوية. والكلاسيكية (ذات الأوزان المكرّسة) - بكتابتها العَروضيةِ القديمةِ التقطيع منذ الجاهلية، أو بكتابتها الحديثة النيوكلاسيكية الفنتزية كما في هذا الكتاب - تبقى هي هي الهوية التي تسِمُ الشعر. وهنا صُعوبتُها وتَمَيُّزُها عن النظم المحسوب علينا شِعراً وهو ليس في الشعر، تماماً كالنثر العمودي المحسوب علينا شعراً وهو ليس في الشعر.

 

-8-

 

حسبي، في هذه المجموعة، أن أقول إنّ قصيدة المناسبة - حين هي في الشعر الشعر - لا تنطوي مع انتهاء إلقائها على المنبر وانقضاء المناسبة بل يؤلّقُها الشعر معه الى الآتي في الزمان. وهنا عبقرية الشعر.

أَستغفر الشعر إن كنتُ، على مِنصَّةٍ، أَسأْتُ إليه بـ"استدراجه" الى حيثما لا يليق به.

الْمجدُ للشِعر،

الْمجدُ للشعراء،

والْمجدُ دائِماً للبنانَ الشاعر.

     

 

 

صدر عن "ديناميك غرافيك للطباعة والنشر"

بيروت - 2006

 

                                             

 

صرخة في هيكل الشّعر

مقدمة ديوان "إيقاعات"

 

 

 

دفاعاً عن النَّثر في كتاب شعر

مقدمة ديوان "تقاسيمُ على إيقاع وجهك"

 

 

 

مقدمة ديوان "أنتِ ولْتَنْتَهِ الدّنيا"

 

 

مقدمة ديوان "حميميَّات"

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 2

.

01/06/2007

issam000@emirates.net.ae

عصام يوسف

سرعة الصوت بتسبق الإحساس .. لمّا الوقت بيصير متل الناس .. بيغيّر حدودو , بيلوّن خدودو .. شي بتجرحو نظره , شي بتمّها بينباس.. مين قال .. هيك الشاعر بينقاس ... في عبقري .. متلك بلا مقياس .. بيعَيّّش الإحساس , بيعِيش بالإحساس.. ما بسألو .. كيف الخبز .. كيف الخمر.. بيصيُّّرن.. قدّاس ؟؟!!


.

30/05/2007

ايادق

هنري زغيب , لم يلد من روح الموهبة فحسب , بل وترعرع في حضن عذراء الشعر , وهاهو يلقي بتطويباته من على جبل التحليل الأدبي.. ولكن قلة تدخل من الباب الضيق مرحى بهذه الموهبة العملاقة (المبردغة) بورق التحصيل الأكاديمي .. وشكرا لجماليا لفلشها نور الجمال أمامنا ..


 

   
 

.