3

:: المسيحي الذي قرأ الفاتحة لأجل الوطن ::

   
 

التاريخ : 29/01/2016

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1526

 


 

 

أكتب عن 25 يناير أخرى من عام 1951، حين اجتمع في السادسة فجر يوم جمعة عدة ضباط شرطة مصريين في مبنى المحافظة بمدينة الاسماعيلية، وقرروا أن يواجهوا إلي النهاية قوة من سبعة آلاف جندي انجليزي مسلحة بالدبابات والمصفحات والمدافع. ولم يكن لدي المصريين سوى بنادق عتيقة وقوة لا تزيد عن ثمانمائة عسكري، هذا بعد أن أنذرهم البريجادير أكسهام، قائد القوات البريطانية في المدينة، بتسليم جميع أسلحتهم والجلاء عن منطقة القناة وإلا قام الانجليز بهدم دار المحافظة والثكنات على من فيها! ولم يكن ذلك مستبعدا فقد قام الانجليز قبل ذلك بتدمير كفر أحمد عبده بالسويس ونسفوا هناك 156 منزلا بالكامل وأحرقوها ردا على عمليات الفدائيين. اجتمع الضباط الصغار واتفقوا على ألا يستسلموا وألا يسلّموا سلاحهم للانجليز، وعلى أن يصمدوا حتى الرمق الأخير مهما كانت النتيجة في معركة غير متكافئة. وكان اليوزباشي مصطفى رفعت أكبر ضباط الشرطة رتبة داخل مبنى المحافظة ومعه الملازم أول عبد المسيح مرقص، فاستدعى زملاءه وشاورهم فأقسموا معه على القتال حتى الموت وألا يسلّموا السلاح، وطلب منهم مصطفى رفعت قراءة الفاتحة عهدا على الثبات حتى النهاية. هنا تقدم الملازم عبد المسيح مرقص ووضع يده على أياديهم وقال:" لست مسلما لكني أقرأ معكم الفاتحة"! قرأها لأجل الوطن! وبدأ الانجليز قصف مبنى المحافظة وظلّ الأبطال يردّون على النار بالنار، ومع جريان الدماء طالبهم الانجليز ثانية بالاستسلام فصاح البطل مصطفى رفعت:" لن يستلموا منا إلا جثثا هامدة"! وظلّت مجموعة من الرجال الأبطال تقاوم حتى نفدت آخر طلقة وباركوا أرض الاسماعيلية بدماء خمسين شهيدا مصريا، غير ثمانين من الجرحى، أما من بقى على قيد الحياة فقد أسره الإنجليز.

 

وفي سجل أسماء شهداء 25 يناير 1951 ستُقرأ أسماء المسلمين جنبا إلي جنب مع المسيحيين: عبد الفتاح عبد النبي من مركز رشيد، وإبراهيم مرقس لويس من إيتاى البارود، وغيرهما، ممن سقوا بالدم شجرة الوطن على امتداد معارك التاريخ المصري. في يوليو 1954 أشاد جمال عبد الناصر ببطولة تلك المجموعة الأسطورية قائلا: "كنا نرقب دائما كيف كان يكافح رجال البوليس العُزَّل من السلاح رجال الامبراطورية البريطانية المسلّحين بأقوى الأسلحة وكيف صمدوا ودافعوا عن شرفهم وشرف الوطن". 

25 يناير 1951 كانت حدثا يرصده عبد الرحمن الرافعي في "مقدمات ثورة 23 يوليو". حينذاك كان التصدي للاستعمار هو قضية الشعب المركزية التي تتفرع منها المشاكل الأخرى، وكان الوطن مقدما على كل ماعداه، وكانت الجماهير بعد إلغاء معاهدة 36 في عام 1951 تجوب الشوارع هاتفة: "نريد السلاح للكفاح"، وأجّج الشعور الوطني كل طبقات الشعب وفئاته، فامتنع عمال السكك الحديدية عن نقل الجنود البريطانيين ورفض العاملون في الجمارك بذل التسهيلات الجمركية للانجليز، وأوقف العمال في الموانئ تفريغ شحنات السفن وانسحب أكثر من ستين ألف عامل من المعسكرات البريطانية وكان العمل فيها مصدر رزقهم الوحيد! وأوقف المتعهّدون والمورّدون توريد مواد التموين إلى معسكرات الاحتلال، ونشطت كتائب الفدائيين بقوة، وتطوّع ضباط الجيش بتدريب الفدائيين وإمدادهم بالسلاح في بورسعيد والسويس والاسماعيلية. وجمعت قضية التحرر الوطني مصر كلها تحت رايتها، وكانت بطولة الاسماعيلية في 25 يناير إحدى مقدمات التحرر والاستقلال.

تحية لأبطالنا وشهدائنا وللدماء التي سالت من أجل مصر.

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.