3

:: بين الذّاكرة الإبداعيّة، والذّاكرة التّأريخيّة في الشِّعر العربيّ المعاصر - إلياس أبو شبكة نموذجًا (1/3) ::

   
 

التاريخ : 22/01/2016

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1414

 


 

 

 

مقدّمة عامّة

غالبًا ما كنت أطرح أسئلة كثيرة على نفسي، ومنها سؤالٌ يتكرّر، كأنّه الّلازمةُ للموشَّح، والّتي لا بُدَّ منها، وإلّا فهو أقرع.. أو كالعنوان للكتاب، وإلّا فهو بدون هُويّة. هذا السّؤال العفَويُّ البسيطُ هو: ما الّذي يفرقُ بين شاعرٍ جيّدٍ، وآخر متوسِّطِ الجودة؟ ما الّذي يميِّز شاعرًا من شاعر؟ لماذا أقول هذا شاعرُ إبداعٍ، وذاك شاعرُ ذاكرة؟ هو السّؤالُ نفسُه عَبْرَ صِيَغٍ عديدة.

بقدر ما يبدو السّؤالُ بسيطًا، يبدو صعبًا في الآن ذاتِه.

يسهل عليك، وأنت تقرأ قصيدةً، أن تقول: هذه قصيدة جميلة. وعن ثانية، ولو للشّاعر نفسِه: هذه قصيدة عاديّة. وعن ثالثة له بذاته، إنّها "من عيون الشِّعر"، أو هي حسنة، أو غير ذلك. ولكن، أن تحدِّدَ عناصرَ الجمالِ، أو مَكامِنَ الجودةِ، أو مَلامِحَ تجعلها عاديّةً، أو جيِّدةً، أو غيرَ ذلك، فأمرٌ صعبٌ. أأنتَ تعتمدُ المعنى، أم الفكرة، أم الصّورة، أم العاطفة، أم الإيقاع، أم التّركيب؟.. إلى ما هنالك. فما ينال إعجابَك، أو رِضاك، قد لا يَرضى عنه آخَر؛ وبالعكس. فهل من جامع يُرضي الجميعَ، أو يَتّفق عليه الجميعُ، وبصورةٍ كلّيّة!؟ وإن وُجِد ذلك، فأين الخُصوصيّةُ، عند ذاك، وأين ثقافة الفرد الّتي تجعلُه مميَّزًا لا يُشبِه أحدًا؟

أسارع إلى المُصارحة: لا قواعد "عِلْميّة" محَدَّدة، ثابتة، يتّفقُ عليها الجميع. لكلٍّ قواعِدُه. قد يتّفق بعضُها مع بعضِ ما عند سواه. قد يكثر هذا، أو قد يقلّ. ليست هنا المسألة. ألمسألة في كون هذه "القواعدٍ" ليست نفسها. تظلّ مختلفة باختلاف الثّقافة والغاية والأهمّيّة والرّؤيا والذّوق والمِزاج، وأمور أخرى تميّز الأفراد، مثقَّفين كانوا، أم "عاديّين".

لكنّ هذا لا يعني عدم التّوافق التّامّ، والمطلَق، والثّابت. إنّنا نجد "ثوابتَ" بعينِها عند الجميع، مع اختلاف في ترتيب درجة الأهمّيّة. من هذه الثّوابت، مثلًا، عناصر الأدب الآتية: ألفكرة، العاطفة، الخيال، الأسلوب. إنّما نحن لا نجد ترتيبًا موحَّدًا لهذه العناصر. لمَ يحدث ذلك؟ إضافةً إلى ما سبق ذكرُه، نجد أسبابًا أخرى، منها: المَيلُ والهوى والطّبع، ومن هذه النّقطة وُجِدتِ المذاهبُ، أو المدارس، أو الاتّجاهات الأدبيّة، بين كلاسيكيّة وعقلانيّتها وفصاحتِها، ورومنطيقيّة وعاطفيّتها وحرّيّتها وصدقِها، ورمزيّة وإيجازها وصورها وإيقاعِها، و"ﭘرناسيّة" وأسلوبيّتها، وواقعيّة وتَشاؤميّتها، وطبيعيّة وآليّتها، و"سورّياليّة" وغرائبيّتها، وسواها.

ومهما كان مذهب الشُّعراءِ، فهناك جوامع بينهم جميعًا، هي الاتّكاءُ: إمّا على الذّاكرة الإبداعيّة، وإمّا على الذّاكرة التّأريخيّة. فما الفارق؟

قد ينطلق كلا الشّاعرَين، من موقع واحد: ألتُّراث. ما يُشير إلى الانطلاق من أرض ثابتة، هي "الذّاكرة". لكنّ الانطلاق من هذه الذّاكرة يتنوّع، أو يختلف، أو يتلوّن، بحسب المقدرة الشّخصيّة على "الإنتاج" الأدبيّ، شعرِه والنّثر. فـ"المنتِج"ُ إمّا هو قادرٌ على إحراق الذّاكرة، أو اختراقها وتَخَطّيها قدر ما يستطيع، وإمّا هو غيرُ قادرٍ، أو غيرُ راغب، في ذلك. يكون الأوّلُ شُجاعًا، واثقًا، لذلك هو يريد فيُقدِم. ويكون الثّاني ارتداديًّا، قلِقا، لذلك هو يخاف فيتقوقع. ألأوّل مُثَقَّفٌ، متنوِّر، متحرِّر، مُجدِّد، والثّاني حافظٌ، ظلاميّ، مُكَبَّل، مُقلِّد. ألأوّل مغامِرٌ، فرِحٌ، راجٍ، واثق؛ والثّاني جبانٌ، كئيبٌ، يائس، مُتأرجِح. يؤمِنُ الأوّل بالقدرة التّغييريّة اللّازمة، الواجبة، لحتميّة التّجديد والتّطويرِ والاغتناء حضاريًّا، وتاليًا الارتقاء بالإنسان. ويخاف الثّاني التّغيير، فقد "اعتاد" وضْعًا محَدَّدًا، هو مقتنعٌ به، غيرُ راغب في تبديله، والأرجح غيرُ قادر. فالأوّلُ صاحب رؤًى تتخطّى الحاضر نحو غدٍ أكثر إشراقًا، والثّاني صاحب رؤيةٍ ارتداديّة، وتاليًا، رغبةٍ في البقاء في الماضي، والنَّسْج على منوالِه. يعتبر الأوّل أنّ الماضي جامد، وتاليًا، مَن يَوَدّ البقاء فيه جامدٌ مثلُه، وأنّ الحياةَ حركة نحو الأمام. ويعتبر الثّاني أنّ التّغيير ليس تجديدًا، بل هو انقلابٌ على تاريخ الأمّة، وخيانةٌ لهذا التّاريخ.

مِثْلُ هذا الواقع، يفرز نظريّتَين لا تتلاقيان. وأنت، كشاعرٍ، أن تختار موقعَك. قلتُ تختار، لقد أخطأتُ. أو أنقصْتُ. لتختارَ، عليك أن تكونَ حرًّا، منفتِحًا، فهل أنت؟ أم أنت تُقيِّد نفسَك بسلاسل الماضي و"تقدِّسُه"؟

ويبقى تَفاهمٌ غيرُ مباشرٍ، بين هذين. تَفاهم!؟ تفاهمٌ غريبٌ غيرُ مقصود، قلْه تَناقضًا حادًّا. كلاهما "مكرِّسٌ". ألأوّل مُكَرِّسٌ للحرّيّة والثّقة وحَتميّة التّغيير والتّجديد، إغناء للتُّراث والحضارة. ويكرِّسُ الثّاني الماضي فيدعو إليه، لتقليده، حفاظًا على التّراث لأنّه غنيٌّ بذاته.

واضحٌ أنّ الأوّل "يحيا" للزّمن الآتي، بينما "يعيش" الثّاني للماضي، ولتكريسه. ألأوّل "يحفظ" ليحلّل ويفهم وينطلق مُغايِرًا، واثقًا، حُرًّا، رائيًا؛ أمّا الثّاني، فـ"يحفظ" ليتّخذ مِثالًا له، يتفانى في تقليده، والكتابة على منواله، ناسِخًا، مُقَيَّدًا، سجينَ الذّاكرة، وبلا رؤيا.

 

ألسّبت 5/7/2014

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.