لعلّ من بواعث الاطمئنان إلى ما توصَّلنا إليه من استنتاج في المقالات السابقة، أنْ نطّلع- بعد تقديرنا أن (أمنحُتِب الثاني) هو فرعون الخروج، واجتهادنا في طرح ما نراه من مسوِّغات ذلك- على معلومة قديمة مهمّة تؤيِّد قولنا. وذلك في ما ذكره المؤرِّخ المِصْري (مانيثو، القرن 3ق.م)(1)؛ الذي- على ما يكتنف مدوَّناته التاريخيَّة من غرائب كانت محلّ جدلٍ بين الدارسين(2)- أشار بوضوح إلى روايةٍ متوارثةٍ تذكر أن الفرعون الذي عاصره (موسى، عليه السلام)، ودار بينه وبينه الصراع، اسمه (أمنحُتِب)(3). ومع أن القِصَّة التي ساقها مانيثو يلفّها الغموض، وعلى الرُّغم من زعمه أن لأمنحُتِب هذا ابنًا اسمه (رمسيس)، فإن ما يستوقفنا، بين مزيج الحقائق والخيالات التي سردها، هو أن فرعون الخروج كان اسمه: أمنحُتِب. وقد وافقه على إيراد هذا الاسم المؤرِّخ والفيلسوف السكندري (كرمون Chaeremon، القرن الأوَّل الميلادي).(4) ويبدو أن مانيثو كان يعتقد أن أمنحُتِب الذي أورد قصته هو (أمنحُتِب الرابع/ أخناتون)، ولعلّ هذا ما فهمه عنه (يوسيفُس). غير أنه من المستبعد أن يكون المقصود (أمنحُتِب الرابع)؛ لأنه مَلِكٌ موحِّد، ومُصْلِح دِينيّ، حتى قيل إنه موسويّ الهوى والأثر، ولم يشهد عهده مثل تلك الأحداث المتعلِّقة بالخروج. وهناك من ذهب إلى أن المقصود (أمنحُتِب الثالث).(5) لكنه لا يمكن أن يكون المقصود (أمنحُتِب الثالث، ولا الأوَّل)؛ لما عُرف عهدهما به من استقرارٍ نِسبيٍّ ودَعَةٍ ورخاء. فلم يبق، إذن، إلّا أن ما تناهَى إلى هؤلاء المؤرِّخين هو عن (أمنحُتِب الثاني)، كما استقرأنا، وإنْ اختلطت بعض الحقائق لديهم بالمرويَّات الخياليَّة الشعبيَّة، التي يُصَدِّرونها بعبارة: "ويُقال" أو "ويُحكى".(6) وقد رأينا تاريخ (أمنحُتِب الثاني) دالًّا بالفعل على أنه الأقرب إلى أن يكون هو فرعون الخروج.(7)
ومهما يكن من أمر، فإن ما يعنينا من ذلك كلِّه أن الوثائق تُثبت أن إقامة بني إسرائيل في مِصْر وادي النيل هي حقيقة تاريخيَّة وجغرافيَّة. ومن ثَمَّ فإن من الرعونة في الافتراض، ومن الهزل في التحليل، تجاهل هذا لاختلاق مسارح أخرى للأحداث من نسج الخيال، كالقول إن قِصَّة (بني إسرائيل) مع الفراعنة كانت في (عسير)!
وقد كان من آثار الميثولوجيا المِصْريَّة على بني إسرائيل- التي صاحبتهم عَقِب الخُروج من مِصْر- اتِّخاذهم العِجْل إلاهًا. فما كان العِجل الذي عبدوه سوى (أبيس)، المقدَّس لدى الإمبراطوريَّة الحديثة التي عايشوها في (مِصْر)، وخرجوا عليها. وكان العِجْل أبيس محلّ تقديس الفرعون الذي خرجوا عليه، وهو (أمنحُتِب الثاني) (8)، ومن تلاه من الفراعنة. وقبل أبيس كان لدى المِصْريِّين العِجْل المقدّس باسم (منفيس)، بمدينة (منف)، خلال الدولة المِصْريَّة القديمة، قبل الألف الثاني قبل الميلاد، يتقمَّصه إلاههم (فتاح). وهما- إلى ذلك- معبودان متعلِّقان بالثقافة الفِلاحيَّة، التي كان يشتغل بها العبرانيُّون في مِصْر، كما تقدَّم. وكان المِصْريُّون يمثِّلون أبيس عِجْلًا أسود، منقَّطًا ببياض، في جبهته مثلَّثٌ أبيض، وفي جانبه الأيمن هلال، يغطِّي ظهرَه رداءٌ أحمر عادةً. وقد أَسْطَروا أن أبيس نشأ من قبضةٍ من نور، هبطت من السماء في رحم بقرة، فحملتْ به، ولم تحمل بعده نهائيًّا.(9) بل لقد كانوا يتصوَّرون السماء نفسها بقرةً حلوبًا، تتدلَّى النجوم من أثدائها، ويَمْخَر إلهُ الشمس في زورقه عُباب ظهرها نهارًا!(10) ويظهر في تماثيلهم بين قرنَي أبيس قرصُ الشمس؛ من حيث هو رمزٌ شمسيّ. أمّا اليهود، فقد صنعوه- وهم ما برِحوا (سيناء)، قريبي عهد بالعقائد المِصْريَّة- عِجْلًا ذهبيًّا شمسيًّا خالصًا! هذا على حين كان الثور (شهر) في ميثولوجيا العرب رمزًا قمريًّا، لا شمسيًّا.(11) أي أن عِجْل بني إسرائيل يبدو رمزًا شمسيًّا، أتونيًّا مِصْريًّا، نقيضًا للرمزيَّة الميثولوجيَّة العربيَّة القديمة لمثل هذا الحيوان.(12)
وهكذا تأتي الآثار المِصْرية لتُؤيِّد القول إن بني إسرائيل كانوا في أرض كنعان من بلاد الشام، ثُمَّ في مِصْر، وأن مِصْر التي وقع الصراع بينها وبينهم هي مِصْر المعروفة في وادي النيل، وأن مصرايم Mestraim لدى العبرانيِّين هي مِصْر، كما يؤكِّد ذلك المؤرِّخ المِصْري (مانيثو) (13). وتسقط بذاك المزاعم التلفيقيَّة لهذا التاريخ في مكانٍ آخر.
ولقد كان تصوُّر المِصْريِّين لجغرافيَّة العالم ساذجًا ومحدودًا جِدًّا؛ فكانت مِصْر في تصوّرهم هي العالم بأسره، والسماء ترتكز على الجبال الشامخة التي تكتنف مِصْر.(14) ومن هنا يُمكن أن نفهم العقليَّة التي كمنت وراء قول فرعون: "يَا هَامَانُ، ابْنِ لِي صَرْحًا، لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ، فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا".(15) بل تصوَّروا إله الكون كالجُعل (خفرع) الذي يُدحرِج أمامه بُويضاته في كُرَة من الروث.(16) وهكذا رمزوا إليه في جداريَّاتهم ونقوشهم، وأطلقوا هذا الاسم على الملك (خفرع، 3067- 3011ق.م). ويبدو أن ذلك لتصوُّرهم الإله- في إدارته الكون، ولا سيما الشمس- كالجُعل الذي يُدحرج أمامه كُرة بُويضاته.(17) ولعلّه من أجل هذه التصوّرات المعرفيَّة الضيِّقة، والعقائد الدِّينيَّة المحافظة إلى درجة الانغلاق، والمستمرَّة في أجيال المِصريِّين القدماء، باغت (الهكسوس) المِصْريِّين من حيث لم يحتسبوا، واجتاحوهم واحتلّوا مِصْر، على حين عُزلةٍ وجهل بالعالم المحيط. ثُمَّ اكتشف المِصْريُّون أن هناك لهم جيرانًا في (الشام)، وجيرانَ جيرانٍ في (العراق)، ثُمَّ في (ليبيا)، وقارّة (أوربا)، وهلمّ جرَّا. ومَن كانت تلك حاله المعرفيَّة الدِّينيَّة لا يُتصوَّر أن يؤسِّس مستعمرات عريقة عتيقة في قارات أخرى، كما يدَّعي مؤلِّف "التوراة جاءت من جزيرة العرب".(18)
(1) See: Josephus, (1926), Josephus: Against Apion, with an English translation by: H. St. J. Thackeray (London: William Heinemann- New York: G. P. Putnam's Sons), v1, p.257.
(13) See: Manetho, (1964), MANETHO'S HISTORY OF EGYPT, With an English translation by: W. G. WADDELL, (Aberdeen: The University Press), p.7.
(16) هذه الحشرة تُسمَّى في لهجات (فَيْفاء): "مِقَلْفِع امْـخِرِي". تعيش على الروث، وتقوم بدحرجة كُتَلٍ منه. ذلك أنها تخبئ بويضاتها في كُرَيَّة من الروث، وتظلّ تدحرجها في الشمس حتى تفقس.