3

:: حافة ذاكرة - قصة ::

   
 

التاريخ : 03/11/2015

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1398

 


 

 

تقدمتُ نحوك هذا الصباح وصافحتك. مجدَّدا ذكّرتكِ بنفسي. ملّيتُ عيني منك بأمل وصمت. رميتني بنظرة استنكار أو استفهام أو تعجب، كأنما أذكرك بشخص ما أو حدث ما وقع في زمن بعيد. تطلّعتِ إلى لحظة ثم رقتْ عيناك بدهشة خفيفة كأنما تعرفتِ إلي. لكنك لم تتذكريني. في المساء مكثتُ واقفا قرب بيتك حتى خرجتِ بمفردك في جولتك المعتادة. تتبعتُ خطاك من على مسافة قصيرة. أراك تقطعين الطريق كأنك صدى يتعذّب لانفصاله عن صوته. مستوحشة غريبة إلى حدِّ الإنهاك والبكاء. تتوقّفين عند كشك الزهور المطلّ على الميدان، تتفحّصين أصص ورد وأنا أراقبك. رفعتِ واحدا إلى مستوى عينيك تشملين أعواد الريحان بنظرة. نقدتِ البائع ثمنه. استدرتِ تواصلين السير في الشارع الذي تحفُّه الأشجار الطويلة من جانبيه. تقدّمتُ إليك. ذكّرتكِ بنفسي. تُاهتِ نظرتك في وجهي ثم هتفتِ: "آه.. بالطبع. بالطبع". لكنك لم تتذكّريني. حملتُ عنك الوعاء الفخاري. مضيتُ بجوارك. كتفي تكاد أن تلامس كتفك. تكاد أنفاسي أن تذوب في أنفاسك. يكاد الماضي أن يصبح حاضرا. وقفتِ عند باب مسكنك تودّعينني بحرارة. شددتِ على يدي. ولم تتذكّري ما مرَّ بروحَينا أرقّ من قطرة مطر.

غدا سأتوارى في ظل كشك السجائر. أنتظر في الظهيرة انصرافك من عملك. تخرجين من باب العمارة الضخمة. تتلفّتين وتعبرين الطريق. تمشين على مهل وأنا أتابع خطوك يلامس الأرض بالندى والنور. أقتربُ منك. أحاذيك. تديرين رأسك ناحيتي. أذكّرك بنفسي. تتطلّعين إليّ بأدب كمن يرى شخصا يلتقي به أول مرة. أصافحك قائلا: "أنا". وأنتظر. تقولين بمودّة: "بالطبع". لكنك لا تتذكّرينني. عشرات المرات، مئات الأيام، عدة أعوام، وآلاف المرات، كل هذا النسيان كان يكفي لكي تتذكّرينني ولو مرة. ظللتُ أقدم إليك نفسي حتى لم يبق منى سوى تنهيدة، ولم يعد أحد يراني وأنا أمضي بجوارك. أمشي خلفك. أمامك. حولك. ولا ترينني حتى وأنا أجلسُ صامتا في مواجهتك، وأنتِ وحدك على الأريكة تخلعين قرطك من أذنيك، تتأهبين للنوم. جالس وأنت لا ترينني. أذكّرك باسمي بصوت خفيض، وأراني خيط دخان بين جفنيك. أتشبّث بحافة ذاكرة تنجرف من بين أصابعي. أتأرجح بين الحياة والنسيان. أهمس باسمي، باسمك، وألمح اختلاجة بسمة سعيدة ماكرة على شفتيك.   

أحمد الخميسي. كاتب وقاص مصري

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.