3

:: كلمة في كاتبٍ وكتاب ::

   
 

التاريخ : 20/09/2015

الكاتب : الشيخ سامي أبي المنى   عدد القراءات : 1363

 


 

 

في الاحتفال التّكريميّ للأديب

إيلي مارون خليل، وطى الجوز

6/9/2015.

 

شرّفني الأستاذ جورج خليل بحضور هذا المقام في قرية وطى الجوز العزيزة، لتكريم ابنها البار، الأديب إيلي مارون خليل، والغوص في أعماق بحاره الأدبيّة والفكريّة، بحثاً عن درر المعاني والمباني، وأنا المعترِفُ بالعجز أمامَ عمالقة الفكر والأدب وجهابذة الّلغة، لكنّ حسبي أنْ مُنحتُ الفرصةَ، فحاولتُ الاستفادةَ منها، فرأيت نفسي سائحاً في رحلةٍ مشوِّقةٍ جميلة، أمتّعُ النّظرَ بحلاوة النّثرِ وعذوبةِ الشّعر، وأتنشّقُ عبيرَ الكلمة الطيّبة والفكرة الرّاقية.

 

       إيلي مارون خليل أستاذٌ مربٍّ، بل أديبٌ أديب، قرأتُه حديثاً في أكثرَ من خمسةَ عشر كتاباً، فوجدته شاعراً وناقداً ومعلّماً، كتب في الرّيف والحبّ والمرأة والمجتمع، شعراً حديثاً هو أقرب إلى الخواطر، ناثراً رماد الجمر والحنين، كلماتٍ متناثرة، أو تناثراً في كلمات، مصوِّباً إلى مرمى القلب قصائدَه المنثورة، أرادها موزونةُ مقفّاةً في المرأة، مسبوكةً محبوكةً بدقّة، وكأنّها منحوتةٌ نحتاً. وصاغ رؤاهُ رواياتٍ، تغافل الذّاكرة، تبحث عن قرار، وتحاول الفرار من "عنكبوت الذّاكرة والزمن"، فتقطع "المسافات الملتبسة"، لتروي "زهرة المدى المكسور"، وتثير التساؤل عن "حياة تنسلُّ" بين عينين. وإذا كانت أم"يّة أديبِنا هي تلك الكتابات السّامقات، فمرحى بالأمّيّة، لكنّ الأمّيّة الحقيقيّة عنده هي أبعدُ من أمّيّة الحرف والكلمة، إنّها أمّيّةُ الفكر والضّمير والفوضى وعدم الالتزام بالنّظام.

       أمّا اختيارُه الياس أبو شبكة ليُجلسَه على كرسيُ اعترافه، فقد برع في استجوابه، وغاص في لُجج شعره وعلاقته بالمرأة، عائداً إلى نماذجَ متقدّمة من مدرسة هذا الشّعر، مع صلاح لبكي والأخطل الصغير وأمين نخلة وسعيد عقل، حتّى بدا ليس كاتباً وحسب، بل شاعرَ حبٍّ وعشق، واستطاع بثلاثيّته، الأدب والشِّعر والحبّ، أن يكتب عن أبي شبكة، من مناخ المعايشة، كما يقول هنري زغيب، ومن دفء الّلحظة، متنقّلاً بين نسائه، كما بين القيثارة" و"غلواء" و"أفاعي الفردوس" و"نداء القلب" و"إلى الأبد"، مقارناً بينه وبين بودلير، متحدّثاً عن رومنطيقيّته وصياغته وقيمة شعره، في دراسةٍ وافيةٍ كافية، يستحقُّها شعر الياس أبو شبكة، وتستحقُّ أن تحمل توقيع إيلي مارون خليل.

       لكنّني، وإن كنتُ لا أدّعي أنّني تعمّقتُ في كلّ ما وصل إلى يديَّ من كتبٍ "خليليّة"، إلّا أنّني أردت التّوقُّفَ أكثر عند "حافة الكلام" و"طقوس الاشتعال"، لأتمتّع بجميل كتاباته الأدبيّة، وأتأمّل بعضَها. و"طقوسُ الاشتعال" عنده نصوصٌ في الثّقافة والأدب، يقدّمُ من خلالها خبزَه المرقوقَ الّلذيذَ أدباً، والأدبُ لديه "يُسعِدُ ويُشقي"، يُتعِبُ صاحبَه في مخاض الولادة، إلّا أنّه يُفرحُه بعدها. الأدبُ هو "الخبزُ الأكثر أهمّيّةً"، بما هو "غذاءٌ للرّوح". وهو "الأبعدُ مدىً"، و"الأصفى رؤىً"، و"الأغنى إشراقاً"، و"الأعمقُ أثراً"، وهو "الأكثر إيحاءً... واشتعالاً... وشُفوفيّةً... وتأويلاً". والكتابةُ عنده، كما القراءةُ، فعلُ حياة". بالكتابة تَملأُ روحَك بما تَسكُبُ منها، و"بقارئيكَ أنت تغتني"، فيغدو الأمرُ، وكأنّه انسجامُ إيقاعاتٍ: "إيقاعُ الحياة"، و"إيقاعُ الكلام"، و"إيقاعُ القلب"، و"إيقاعُ الرّوح". كيف لا؟ وأستاذُ الفلسفة والأدبِ هنا، يُجيدُ "صناعةَ الجمال"، ويكتبُ "بصوتٍ عالٍ"، و"يُعاشرُ الّلغةَ" عاشقاً والهاً، ويحسَبُ الموسيقى "جسداً نورانيّاً"، ويُعرّفُ الشّعرَ، بأنّه "الشّغفُ والنّشوة"، و"يُصدِّقُ" الشّعراء، إذ هم "صوتُ الإنسانيّة... الهادرةِ فكراً، صوَراً، ورؤىً...".  

       أمّا "حافةُ الكلام"، عنده، فمقالاتٌ في القيَم والاجتماع، آسرةٌ ساحرة، بأسلوبها الفريد، وعناوينِها المقتضبة الملفتة، وكلماتِها المنتقاة الجاذبة، وجُملِها القصيرة المعبّرة، وعباراتِها المفعَمة بالإشارات، لكنّها أوسعُ من أن نتناولَها في كلمةٍ أو مداخلة. إلّا أنّ ما يتعلّق منها بمواضيع الحوار، ومعرفة الآخر، والتّواصل معه، والصّدق والصّداقة، والإيمان، وثلاثيّة الجسد والفكر والرّوح، هي أكثرُ ما استوقفني، ولا أقولُ أنّها الأفضل، فكلُّ ما جاء في هذا الكتاب يَصلحُ أن يكون لوحةً أدبيّة تُعلَّق في صفوف المدارس، وعظةً تُتلى في المجتمع، ورسالةً في العمل والحبّ والغفران والتّعامل مع النّفس ومع النّاس، وحتّى رسالةً في السّياسة، الّتي اكتشف أنّها مهمّةُ "تدبُّر أمر القوم وتولّي أمرِهم واستصلاح الخَلق بإرشادهم إلى الطّريق المنجّي"، ليتساءل بعدها: "كيف يَستصلِحُ مَن ليس صالحاً؟ والصّالح هو المتميّز بالحكمة، والحكمة أُولى صفات/فضائل السّياسيّ... وهي العِلمُ المكتنِزُ بالقيم، المحافِظ على حقوق النّاس، المهتمّ بمصائر الشّعوب، المُفضي إلى الحياة الحرّة، الكريمة، الرَّغِدة، السّعيدة، فأين الحكمة في ما نرى، ونسمع، ونَعرف؟"، وأين الحكمةُ، أيُّها الأخوة، في ما آلت إليه السّياسةُ عندنا؟ أهي في تحريض النّاس وقيادتهم إلى التّصادم؟ أم في الشّطارة وإعطاء الوعود الكاذبة؟ أم في التّعطيل والكيديّة والإساءة ورفع الصّوت وتحريك البَنان والتّهديد والوعيد؟ أم في تخدير الرّأي العامّ؟ أم في شراء أصوات النّاس بالمالِ وإثارة الغرائز الفئويّة؟ أم في هذه وتلك من طرق استجلاب المنافع الشّخصيّة على حساب مصلحة الوطن والشّعب؟

       عذراً منكم، أيُّها السادةُ الكرام، فالحديث عن السّياسة يُمكنُ أن يطول، ولا أُريد، لأنّه عندنا تعبيرٌ عن ألمٍ لا ينتهي، وصرخةٌ في واد، لذلك أعودُ إلى الأمل، إلى ما هو منسجمٌ معَ توجُّهي ورسالتي، كملتزمٍ مؤمنٍ موحِّد، أرى في الحكمة ضالّتي، وكمربٍّ عرفانيٍّ، أُساهمُ من خلال التّربية في بناء الإنسان والأوطان، وكمهتمٍّ بالحوار وإفشاء السّلام، أحاولُ أن أكونَ عقلانيّاً، والعقلُ إمامي الأوّلُ والأخير، فأستفيد وأُفيد من عِبَر الحياة والتّاريخ والحروب والتّصادم، لأزرع في مجتمعي وفي بلادي وعالمي قِيَمَ الرّحمة والمحبّة والتّسامح والسّلام، وهذا ما يجمعُني بالعديد من أهل الأدب والفكر والإيمان والوطنيّة، فنتجاوزُ معاً حدودَ المذاهب والطّوائف والمناطق والأحزاب، ونعيشُ سويّاً حالةً من الأُخوّة الحقيقيّة، تتعدّى مظاهرَ المصافحة والمصالحة لتصلَ بنا إلى عمق المصارحة، وهنا تكمن قيمةُ التّواصُلِ الحقيقيِّ "المتجدِّدِ"، "الخلّاق"، الذي يوكّد عليه الأديبُ "الخليل"، وهنا يكمن شرفُ الحوار.

       لقد فهمنا الحوار كما فهمه الأستاذ إيلي، انفتاحاً على الآخر، من خلال الاعتراف به أوّلاً، واحترامه كإنسانٍ شريكٍ ثانياً، والاهتمام به فرداً مفكِّراً، ليصبحَ هذا الانفتاحُ "كينونةً حضاريّة"، كما يقول، معتبراً أنَّ السّعيَ إلى الآخرِ "يُسعِدُك ويُسعِدُه". الحوارُ يقومُ على الإيمان؛ "الإيمان ليس بالله وحدَه"، بل "الإيمان بالإنسان" أيضاً، "وبالمجتمع"، و"الإيمان بالآخر، بضرورة الآخر"، وهو في ذلك يؤكّد قولَ الإمام عليّ: "النّاس صنفان إمّا أخٌ لك في الدّين أو نظيرٌ لك في الخَلق". وهذا ما نشدّد عليه في رسالتِنا الحوارِيّة، بأنّ الاعترافَ بالآخر، فكريّاً وكيانيّاً، ضرورةٌ لمعرفته، ومعرفتُه سبيلٌ لمحبّته، لأنّ الإنسان عدوُّ ما يجهل، كما يُقال. هذا الإنسانُ الشّريكُ يستحقُّ منّي أن أعترفَ به وأن أتعرّفَ إليه وأن أتفاهم معه. والحوارُ هو أداة التّخاطبِ المُثلى، ووسيلةُ التّفاهمِ الأرقى، كما يرى أستاذُنا الكريم، وفي ذلك حذفٌ للمسافات، وإلغاءٌ للجدران، وتجسيرٌ للعلاقات، وفيه سكنٌ متبادَلٌ، أن تُسكِنَ الآخرَ فيك وتَسكُنَ فيه، تأكيداً لقوله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها"، وهذا السّكن أو السّكون المقصودُ به بين الزّوجين، إنّما ينسحبُ على العلاقة الأخويّة القائمة على المحبّة بين النّاس جميعاً، وهو ما قصده الأديبُ الّلبيبُ بقولِه: "السُّكنى طُمأنينةٌ هادئة، وسلامٌ داخليٌّ مُريح"... تكاملٌ يـبني ولا يُلغي... بل هو إثراءٌ متبادَلٌ للوجود. وفي الحوار سكنٌ وإقامةٌ في قلب الآخر، بل فيه "لذّة التّخلّي الصُّوفيّ عمّا في الذّات"، وسفَرٌ أو مسافرةٌ واكتشافٌ وشغَفٌ وارتقاء. ومن هذه الفكرة الرّائعة التي يصفُها الأستاذ إيلي، فكرة التّخلّي الصّوفيّ، يُمكنني الإشارة إلى ما يقول به الصّوفيُّون العارفون، بأنّ حياة العارف تبدأ بالتّخلّي عن كلّ ما يُعيق ويمنع الارتقاء، من لذّةٍ عابرةٍ وشهوةٍ آنيّةٍ وأنانيّةٍ وكراهيّةٍ وعدميّة، ليصلَ إلى مرحلة التّحلّي، والتّحلّي يكون بالقيم والأخلاق وتهذيب الذّات والصّفات، فيرتفع المؤمنُ إلى مستوى التّجلّي، وفي حالة التّجلّي تلك، انعكاسُ نور الألوهيّةِ في القلبِ الصّادق الصّافي، المتخلّي عن الأنائيّة، والمتحلّي بالإنسانيّة. ولعلّ هذا ما يُعبّر عنه كاتبُنا المكرَّم في مقالته: "الصّدق طريق النّعمة"، إذ يرى أنّ "الصّدقَ يُلبسُك النّور"، حين "تغسِلُك القِيمُ"، و"تتخلّى عن لعبة الحواسّ المُغرية"، فتَستغرِقُ، "مطمئناً، في السّكينة الإِشراقيّة...، تستشرفُ الأبعادَ، بوداعة الأنبياء، بزهد النسّاك، بتأمُّل المتصوّفين، وبخشوع المؤمنين، المنخطفين، العاشقين".

       نعم، أيُّها الأحبّة، تتكاملُ الأفكارُ، عند أديبِ وطى الجَوز، في عمق الكلامِ، وإن كنتَ تقرؤُها جليّةً أكثرَ في كتابِه "على حافة الكلام"، وأنت تلمحُ ذلك التّكاملَ في أكثر من مقالة، كما في حديثه المُثير للجدل عن الحرّيّة، باعتبارها "طريقةَ حياة"، بدءاً من آدمَ وحوّاءَ وهابيلَ وقابيلَ وابنتَي لوط، متسائلاً: "أين الشّرُّ في كلّ ذلك؟" ونحن نقولُ معه، إنّ ما جاء في الكتُبِ المُنزَلةِ والسّيَرِ، وما جرى مع الأنبياء، من عِبَرٍ وإساءاتٍ وقتلٍ ومرضٍ وإزعاج، ما هو إلّا دروسٌ للمؤمنينَ، وأمثلةٌ للنّاس لكي يتّعظوا ويقتدوا. وتجدُ ذلك التّكامل أيضاً، في حديثه عن تناغم الرّوح والجسد، في مقالته المعنوَنة: "الجسد نعمة"، وقد رأى فيها أنّه بـ"الجسد الجميل، الشّفّاف، النقيّ، الخَصب..."، "أتمّ اللهُ خَلقَه"، إذ هو "إيقاعُ الرّوح"، وكأنّه يريد أن يقولَ بأسلوبِه الّلطيف الرّاقي، ما نؤمنُ به جميعُنا، بأنّ الإنسانَ هو أشرفُ مخلوقاتِ الله؛ جسَدُه روعةُ المخلوقات وأكملُها، به جسّدَ اللهُ كمالَ عظمتِه، وفيه تجسّد الأنبياءُ، ومنه عبرت الرّوحُ إلى الوجود. ونحن نعتقدُ أنّ هذا التّشريفَ للإنسان ينطلقُ من تمييزه بنعمة العقل، فبالعقلِ يتميّزُ الكائنُ البشريُّ عن سواهُ من المخلوقات، وإن تلاقى معها بغير صفةٍ، كالغريزة والنُّموّ، وبه يُميِّزُ ويتحمّلُ مسؤوليّةَ ذاتِه ومجتمعِه وعالَمِه. ولذا، يَحُقُّ لنا أن نتساءلَ: أين نحن، في عالَمِ اليوم، من احترامِنا للجسد وللإنسان فينا؟ وقد غدا الجسدُ سلعةً للإغراء، وصارت الأنوثةُ الرّقيقةُ الرّاقيةُ مادةً للتّسويق والإغواء، بدلَ أن تكونَ، بروحِها الشّفّافةِ وجسدِها الخصيب وعقلِها الرّاجحِ، عنواناً للأمومةِ وحضناً للطّفولة وموئلاً للفكر والقيَم والأخلاق.

       ألسّيداتُ والسّادةُ الأعزّاء، لو سمحتُ لنفسي أن أسترقَ الجمالات العديدة المتنوّعة في ما كتبَ هذا الكسروانيُّ الّلبنانيُّ الأديب، لَأتعبتُ نفسي وأتعبتُكم، ونحنُ نستمتعُ بشمّ الورودِ وتذوُّقِ شهدِ الكلام، غير أنّ في ذلك ما يُسعِدُ ويُشقي في آن. لذلك أكتفي بما قدّمتُ، معتذراً عن الإطالة، والتّقصير، وعدم الإحاطة التّامّة، راجياً لكم كلَّ خير، ومتمنّياً للأستاذ إيلي دوامَ العافية واستمرارَ العطاءِ والإفادة. والسّلامُ عليكم، عشتُم وعاش الأدبُ وعاش لبنان.

 

الشيخ سامي أبي المنى أمين عام مؤسَّسة العرفان التّوحيديّة

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.