3

:: قناة السويس والإنذار الروسي ::

   
 

التاريخ : 16/08/2015

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1132

 


 

 

 

"تطرق الزعيم السوفيتي خروتشوف في حديثه مع القادة الانجليز إلى كافة القضايا مطلِقا دعاباته وضحكاته خلال حديثه. وفجأة استدار خروتشوف إلى  زوجة أنطوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني وسألها مضفيا على ملامحه سذاجة ريفية: "بالمناسبة يا مدام إيدن.. هل تعلمين كم رأساً نوويا يلزم لتدمير جزيرتكم الصغيرة بالكامل؟!". تكهرب الجو فورا من سؤال خروتشوف الغريب والمفاجئ، وساد صمت مطبق وراح القادة البريطانيون يحملقون في وجوه بعضهم البعض بتوتر! وواصل خروتشوف حديثه مع مدام إيدن:" لا تعرفين؟! أنا أعرف". وجال بنظرة ماكرة على الجالسين قائلاً: "خمسة رؤوس نووية تكفي لذلك وهي متوفرة لدينا. وعندنا أيضا الصواريخ القادرة على حملها إليكم إذا اقتضى الأمر! وفرنسا.. أتعلمون كم تحتاج؟ طبعا لا تعلمون؟ أحد عشر رأسا نوويا هي أيضا متوفرة عندنا"!

كانت تلك إشارة ودية مرعبة لبريطانيا وفرنسا اللتين لم يكن لديهما سلاح نووي حينذاك عندما قام خروتشوف عام 1956 بزيارة رسمية لبريطانيا بدعوة من أنطوني إيدن، وجلس مع القادة الانجليز في قصر حكومي بمنطقة تشيكرز يشرب الشاي معهم قرب المدفأة. وكما يروي سيرجي ابن خروتشوف الذي سجل مذكرات والده ونشرها، فإن خروتشوف كان يهوى مفاجأة من حوله، كما فعل فيما بعد عام 1960 حين نزع حذاءه وطرق به منصة الأمم المتحدة عندما رفضت أمريكا الاعتراف بالصين الشعبية، ثم هبط من عند المنصة وقد ترك فردة حذائه على المنبر وعاد إلى مقعده وسط ذهول ودهشة الأمم المتحدة وهو يعرج بفردة حذاء واحدة! وقد عاد خروتشوف فجدد إشارته قرب المدفأة للسلاح النووي عندما أمم جمال عبد الناصر قناة السويس ووقع العدوان الثلاثي. وكان وزير الخارجية ديمتري شيبيلوف قد فضح- في خطابه في 17 أغسطس 1956 بمؤتمر لندن بشأن القناة- مخطط الدول الغربية لمد امتياز القناة حتى عام 2008! وحين هاجمت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا مصر في 29 أكتوبر، وجّه الاتحاد السوفيتي في 5 نوفمبر إنذاره الشهير بإنذار" بولجانين" إلى لندن وباريس وتل أبيب، وجاء فيه بالنص: 

"السير/ أنطوني إيدن رئيس الحكومة البريطانية، المسيو / جي موليه رئيس الحكومة الفرنسية. تجد الحكومة السوفييتية نفسها مضطرة إلى لفت نظركم إلى الحرب العدوانية التي تشنها بريطانيا وفرنسا ضد مصر، والتي لها أوخم العواقب على قضية السلام. ترى كيف كانت بريطانيا تجد نفسها إذا ما هاجمتها دولة أكثر قوة تملك كل أنواع أسلحة التدمير الحديثة؟ هناك دولة الآن لا يلزمها إرسال أسطول أو قوة جوية إلى سواحل بريطانيا بل يمكنها استخدام وسائل أخرى مثل الصواريخ. إننا مصممون على سحق المعتدين، وإعادة السلام إلى نصابه في الشرق الأوسط، عن طريق استخدام القوة. إننا نأمل في هذه اللحظة الحاسمة أن تأخذوا حذركم، وتفكروا في العواقب المترتبة على ذلك.

 السيد/ دافيد بن جوريون. إن الحكومة الإسرائيلية المجرمة التي تفتقر إلى الشعور بالمسئولية تتلاعب الآن بأقدار العالم وبمستقبل شعبها بالذات.

مارشال الاتحاد السوفيتي نيقولاي بولجانين" 

 

قبل أن يسلّم السفير السوفييتي ذلك الإنذار إلى القادة البريطانيين في لندن، طلبه خروتشوف وقال له: "قل لهم وأنت تسلّمهم المذكرة إن خروتشوف يذكركم بحديثه حينذاك بجوار المدفأة في تشيكرز"! فيما بعد سجل خروتشوف في مذكراته أن رئيس الوزراء أنطوني إيدن ما أن علم بخبر الإنذار حتى هبّ من فراشه في لباسه الداخلي ليتصل بالفرنسيين ويحثّهم على وقف الحرب فورا. ويقول سيرجي ابن خروتشوف: "طالما سألت نفسي كيف عرف والدي أن أنطوني إيدن هبّ ليتصل بباريس وهو في لباسه الداخلي؟ ثم تذكرت أنه كان لدي السوفييت حينذاك أشهر جاسوس بريطاني وهو (فيلبي) الذي كان مطلعا على أدق التفاصيل"!

تلقت باريس ولندن وتل أبيب الإنذار في الخامس من نوفمبر، وفي السابع من نوفمبر توقفت العمليات العسكرية وبدأ انسحاب المعتدين. وفي العاشر من نوفمبر لكي تؤكد موسكو على موقفها نشرت وكالة "تاس" بيانها الشهير الذي جاء فيه أن قيادة الاتحاد السوفييتي: "تؤكد أنه في حال عدم سحب فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لقواتها من الأراضي المصرية فإن الهيئات السوفييتية لن تتردّد في السماح بالسفر للمتطوعين من المواطنين الروس للقتال إلى جانب الشعب المصري ودعمه في نضاله من أجل الاستقلال". 

وكانت جموع من المواطنين السوفييت قد تدفقت إلى قلب موسكو تعلن استعدادها للسفر والقتال إلي جانب الشعب المصري في معركته من أجل حريته واستقلاله. ولم تكن تلك المرة الوحيدة أو الأخيرة التي وقفت فيها الاشتراكية مع مصر، فقد تلا هزيمة عدوان 56 بناء السد العالي بمساعدات سوفييتية، ومشروعات الصناعات الثقيلة، وتسليح الجيش المصري، وتعويضه عن كل خسائره في حرب 1967، ودعمه في حرب الاستنزاف. وفي عام 1969، كانت بدهشور ثكنة عسكرية روسية تساهم في محو آثار العدوان، وفي أثناء إحدى الغارات الإسرائيلية رفض أحد الضباط الروس أن يحتمي بالخندق، وفضل البقاء واقفا تحت القصف، ذراعه مفرودة وأصبعه يشير إلى الطائرات المغيرة، مصدرا أوامره بفتح النيران وردّها. وسقط شهيدا فوجد رفاقه صعوبة في إدخال جثمانه إلى النعش بسبب ذراعه التي تجمدت مفرودة لأعلى نحو السماء، فلم تطمرها الأحداث، ولا طواها التاريخ، ولا كسرتها في الذاكرة كل التحولات الكبرى، ذراع الفكرة الاشتراكية، والتضامن مع حرية الشعوب، أراها ترفرف من وراء الغيوم ونحن نحتفل بمولد قناة جديدة، ابنة القناة الأم.

***

أحمد الخميسي . كاتب مصري

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.