3

:: الجسر الذي شيّدته فاليريا كيربتشنكو ::

   
 

التاريخ : 12/06/2015

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1231

 


 


 

عام 1969 كانت مصر تخوض حرب الاستنزاف لمحو آثار العدوان الإسرائيلي، وكان في دهشور ثكنة عسكرية من الضباط الروس، توفي أحدهم خلال غارة إسرائيلية، ووجد رفاقه صعوبة في وضعه في النعش لأن ذراعه تجمدت على الحالة التي كانت عليها، مفرودة نحو السماء، وأصبعه تشير إلى الطائرات الاسرائيلية وهو يعطي أمرا بفتح النيران عليها وردّها. ثمة إصبع أخرى كانت تخلي السماء لفهم صحيح لحضارتنا، وتردّ غارات الثشويه الثقافي عن اللغة والأدب العربيين ورحلت صاحبته عن عالمنا في الثاني من يونيو الحالي. هي العالمة المستشرقة الروسية الجميلة المقاتلة د. فاليريا كيربتشنكو التي عاشت بنصف قلب يتكلم العربية ونصف قلب يتكلم الروسية. ودعت دنيانا مساء الثلاثاء وهي في الخامسة والثمانين من عمرها، وداعا يوجز مغزى حياتها الحافلة بالعطاء، فقد انكفأت على منضدة الكمبيوتر وحدها في صالة بيتها بموسكو وغابت إلى الأبد.. لكن بعد أن طرقت إصبعها الكلمة الأخيرة في ترجمة "الساق على الساق" لأحمد فارس الشدياق أحد كبار رواد التنوير في القرن 19!  


في الخامسة والثمانين من عمرها تختتم كيربتشنكو حياتها المثمرة التي بذلتها في ترميم واستكمال وتجديد جسر التفاهم الثقافي بين مصر وروسيا الذي تم وضع الأساس له منذ ألف عام مع رحلة  ابن فضلان إلي روسيا عام 922 ميلادي مع قافلة ضمت آلاف البشر والجمال، ثم قويتْ دعائم ذلك الجسر مع أول بعثة مصرية يرسلها محمد على باشا إلى روسيا وتألفت من طالبين اثنين اتجها إلى سيبيريا لدراسة علم التعدين عام 1845. وقد قامت كيربتشنكو بدور خاص للغاية في مد ذلك الجسر أبعد فأبعد إلى أعماق الثقافة العربية، وقدمت نحو ثلاثين عملا ما بين الدراسات والترجمة إلى الروسية، وبفضلها ظهرت روايات نجيب محفوظ وبهاء طاهر وغيرهما باللغة الروسية.

وقد بدأت كيربتشنكو رحلتها إلى الثقافة العربية حين جاءت إلى مصر عام 1955 وهي شابة في الثامنة عشرة من عمرها مرافقة لزوجها فاديم كيربتشنكو الدبلوماسي بالسفارة السوفيتية، والذي قام في حينه بدور مهم في ترتيب أول لقاء بين جمال عبد الناصر والقادة السوفييت. خلال وجودها في القاهرة أتقنت فاليريا اللغة العربية والتقت بالعديد من الأدباء وقرأت أعمالهم وكتبت عنهم لاحقا، خاصة يوسف إدريس الذي كان محطَّ إعجابها الخاص حتى أصبح في عام 1970 موضوع رسالتها لنيل الدكتوراه بعنوان "الطريق الإبداعي ليوسف إدريس"، وقد نشرتها فيما بعد كتابا مستقلا. وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 تم ترحيل أسر العاملين في السفارة السوفيتية بالقاهرة إلى الخرطوم ومنها إلى موسكو حفاظا على حياتهم. عادت كيربتشنكو إلى بلادها لكن قلبها ظلّ معلقا بالقاهرة وبالثقافة العربية، فالتحقت في موسكو بمعهد الإستشراق قسم اللغة العربية وأنهت دراستها به عام 1962. ثم عملت في المعهد وخلال عملها أشرفت على العديد من الرسائل العلمية التي قدمها الطلاب العرب حول تاريخ الثقافة العربية وأدبائها ومفكريها، وكانت عونا للكثيرين منهم، وعكفت في الوقت ذاته على ترجمة أعمال نجيب محفوظ وبهاء طاهر ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم، وكتبت العديد من الدراسات المهمة المتعلقة بالأدب المصري تحديدا.

في عام 2004 أنهت كيربتشنكو كتابها الكبير "تاريخ الأدب المصري في القرن التاسع عشر – والقرن العشرين" الذي ينقسم إلى جزأين ويقع في نحو سبعمائة صفحة باللغة الروسية. وفيه تناولت بدايات الأدب المصري منذ زمن المماليك، ثم دور الحملة الفرنسية في إيقاظ الوعي المصري، والنهضة عهد محمد علي ودور رفاعه رافع الطهطاوي وكتابه "تخليص الإبريز"، وأضافت في هذا المجال كتاب وصْف روسيا الذي كتبه الشيخ محمد الطنطاوي (1810-1861) الذي هاجر إلى روسيا وتوفي هناك أستاذا للأدب العربي، كما رصدت دور الترجمة وأن أول ترجمة للأدب الروسي إلى العربية كانت عام 1913، وتوقفت عند مقامات المويلحي حتى تبلور الأدب المصري بمعناه الحديث في الربع الأول من القرن العشرين وأشكاله المختلفة في الرواية والمسرح والشعر، واهتمت بإبداع محمد تيمور في فصل خاص، ثم محمود طاهر لاشين، ويحيي حقي، مرورا بهيكل، وطه حسين، وجماعة الديوان، إلى أن تصل إلى الأدب المصري إلى ثورة يوليو فتفرد فصلا خاصا ليوسف إدريس، وآخر للشاعرين صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وصلاح جاهين وصولا إلى أمل دنقل. وتستعرض كيربتشنكو في القصة والرواية أعمال نجيب محفوظ ومحمد أبو المعاطي أبو النجا وأبناء جيله كما أفردت مساحة لإدوار الخراط أديبا وناقدا، إلى أن تبلغ جيل الستينات فتتحدث عن محمد حافظ رجب، وضياء الشرقاوي، وبهاء طاهر، ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، والمبدع محمد المخزنجي الذي تقول عنه قصصه إنها: "دائما ما تنقل الدفء الإنساني إلى القارئ". في كتابها هذا قدمت كيربتشنكو للقاريء الروسي بانوراما ضخمة لتطور الثقافة المصرية في تقاطعها مع عوامل التأثير والتأثر، وقدمت مرجعا يجسِّد إبداع الرؤية النقدية وليس مجرد "تجميع معلومات" أو نقل. وقد قمت شخصيا بترجمة فصول من كتابها المذكور خاصة ما يتعلق بروايات نجيب محفوظ التي أعقبت الثلاثية، وأيضا ما يتعلق بيحيي الطاهر عبدالله.

عام 2010 أنهت كيربتشنكو وهي في الثمانين من عمرها ترجمة كتاب ثقيل ومنهك لا يُقْدِمُ على ترجمته إلا مثقف مقاتل وهو كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي! وتمكّنت من نشره - في ظروف أصبح من الصعب فيها للغاية إصدار كتاب كهذا في روسيا. وأضافت د. كيربتشنكو للكتاب ملحقا في نحو سبعين صفحة تعرض فيه أهمية دور الطهطاوي وتقول فيه إن كتابه "تخليص الإبريز" كان بكل المعايير: "الخطوة المصرية الأولى لانفتاح مصر على أوروبا". في أثناء ترجمة الكتاب كانت بيني وبين د. فاليريا مراسلات بالإيميل فأرسلتُ إليها صورة من عقد زواج الطهطاوي الذي خطه بيده وختمه بختمه عام 1839 وجاء فيه: "التزم كاتب هذه الأحرف رفاعه بدوي رافع لبنت خاله المصونة الحاجة نعيمة.. أنه يدخل بها  وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية.. فإذا تزوج بزوجة أيا ما كانت صارت بنت خاله طالقا بالثلاثة وكذلك إذا تمتع بجارية"! وأدهش العقد د. فاليريا فضمّت صورته إلى الكتاب توثيقا لمدى استنارة الطهطاوي! وبعد ذلك شرعت في ترجمة "الساق على الساق" لأحمد فارس الشدياق! وللقارئ أن يتخيل حجم الصعوبات اللغوية التي تواجه مترجماً يعكف على عملين من القرن 19 حافلَين بكلمات وصياغات بعضها أمسى مهجورا وبعضها لم يعد مفهوما!

في زيارتي الأخيرة لروسيا سبتمبر 2013 استضافتني الأستاذة الكبيرة والصديقة العزيزة في منزلها وكنت برفقة الصديق أوليج بافيكين والمستشرقة المعروفة أولجا فلاسوفا. جلسنا طويلا وسألتها، ربما لشعوري أننا قد لا نلتقي ثانية "ما هي القاهرة بالنسبة لك؟" قالت: "روسيا وطني، والقاهرة عشقي، كانت أول بلد أسافر إليه، وفيها أحببت اللغة والثقافة العربية، وبفضلها عدت وقد قررت أن أدرس هذه اللغة وأدباءها".

في ذكرياتها عن حياتها مع زوجها تقول كيربتشنكو: "لقد عشنا معا خمسين عاما حياة عامرة بكل القيم الطيبة، وكنا نعي دائما أهمية دورنا، وكان كل منا يفهم الآخر من نصف كلمة، ونضحك من الأمور ذاتها. كان من الممتع أن نتعرف معا إلى بلدان جديدة، وأناس جدد، وأن نقتنع كل مرة أن البشر حيثما كانوا بشر مثلنا".

لم تكن مصادفة أن تنتهي حياة كيربتشنكو وإصبعها تطرق الكلمة الأخيرة في كتاب تردُّ به غارات تشويه ثقافتنا في أوروبا. ودعتنا بعد أن مدّت - بنصف قرن من العمل المنهك - جسر التفاهم مساحة أبعد. نظلُّ نذكرها كلما عبرنا على الجسر ذهابا وإيابا، ونظل نراها في كل تفاعل إنساني مثمر.

أحمد الخميسي – كاتب مصري

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.