3

:: العابثون بالتاريخ! – 11 - مرعى الأسماء والحروف ::

   
 

التاريخ : 08/05/2015

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي   عدد القراءات : 1407

 


 

 

إذا سمع (الدكتور كمال الصليبي) بمكان اسمه (الفَرَحَة)، بالفاء، فَرِحَ بالاسم، واختطفه بسرعة، وظنَّ الفاء قافًا، وأنه قد وجد كنزًا دفينًا، فجاءك ليقول عن المزامير التوراتيَّة المنسوبة إلى (بني قورح): «إن بني قورح هؤلاء كانوا قبيلة من قرية القَرْحَة [كذا!] الحالية في جبل فَيْفا، أو في قرية القرحان في جبل بني مالك...»!(1) 

فإذن، (القَرْحَة) في (فَيْفاء) كانت مستقرّ قبيلة بني قورح الواردة في التوراة، «ولا بُدّ»، كالعادة!

وليس هناك قرية اسمها (القَرْحَة) في فَيْفاء إطلاقًا، بل هناك نحو ثمانية بيوت باسم الفَرَحَة (بالفاء) في جبال مختلفة من فَيْفاء.  لكن هذه أخت (قرية الجعدة) السابق ذكرها، التي جعلت من جبل فَيْفاء (جبل جلعاد) (2) على آخر الزمان، في جملة افتراضات المؤلِّف الواسعة التماسًا لنقل المَواطن التوراتيَّة من (فلسطين) إلى شِبه الجزيرة العربيَّة.

هذا بالإضافة إلى قريةٍ أخرى اكتشفها لنا، سمّاها لنا (الغدر)!  وهي مكان وهمي، لا وجود له إطلاقًا، ولا يعرفه من الثَّقَلَين سوى الصليبي!  فقد قال عن قرية (جَدُور)، الواردة في عبارة (أخبار الأيام الأول، 4: 39): «وسَارُوا إلى مَدْخَلِ جَدُورَ إلى شَرْقِيِّ الوادي لِيُفَتِّشُوا على مَرْعًى لماشيتهم»، قال بكلّ ثِقة: «لا بد أنها اليوم قرية الغدر من جبل فيفا في منطقة جيزان، على وجود عدد من الإمكانات الأخرى!».(3)  ولا أدي كيف جمع بين «لا بُدّ» و«على وجود عددٍ من الإمكانات الأخرى» في صعيدٍ واحد؟!  ويُلحظ هنا تكلُّفه ووقوعه في متوالية من الأخطاء الطريفة حقًّا:

1- لا أعرف أين تقع قرية (الغدر) التي أشار إليها؟  وليس هناك قرية بهذا الاسم في فَيْفاء كلّها، جبلها وسهلها.  لكنّ هناك مكانًا اسمه (غُرَّة)، وهو: بيت كبير، يسمُّون مثله «قرية» اصطلاحًا.  ومكانًا، بل أماكن أخرى، اسمها (الغُرَز): ثلاثة بيوت في أنحاء مختلفة من فَيْفاء.  وهناك بُقعة معروفة اسمها: (العَذَر).  والأرجح أنه قرأ هذا المكان الأخير مصحَّفًا إلى: (الغدر)، فبنى خطأ على خطأ، وصارت العَذَر- بجرَّة قلم- (جَدُورَ) التوراتيَّة!  أ فلا يكفي الراء بين الكلمتين برهانًا؟!

2- كعادته يرجم بالغيب، متوهِّمًا أن اصطلاح «قرية» في فَيْفاء يعني مساحة واسعة من الأرض فيها مجموعة بيوت، وعدد من السكان، كما هو مفهوم القُرَى في العالَـمِين.  والواقع أن اصطلاح «قرية» إنما يطلقونه، حسب تعبيرهم المحلِّي، على مبنى سكنيّ واحد كبير، كما سبق القول.  أي أن القرية، إذ ذُكرت بلهجات فَيْفاء، فإنها لا تعدو منزلًا كبيرًا واحدًا من منازل الناس.  وذلك المنزل إنما بُني بالتأكيد منذ عقود، أو قُل: بضعة قرون، على أقصى تقدير ممكن، واتَّخذَ له أهله اسمًا ما، كعادتهم إلى اليوم.

3- في النص التوراتي أن قرية جَدُورَ تقع إلى شرقيّ وادٍ: «وسَارُوا إلى مَدْخَلِ جَدُورَ إلى شَرْقِيِّ الوادي».  فكيف أصبح الوادي مكانًا في جبل؟!

4- هو يخمِّن هكذا اعتباطًا، ولو لمجرَّد اشتراك الاسمَين في حرفَين، ثمَّ يقول لك: «على وجود عدد من الإمكانات الأخرى!»  وهذه العبارة كعبارة «والله أعلم»، لدى المؤرِّخين التقليديّين!

ولقد استمرّ الصليبي في نهجه القديم في كتابه الآخر «خفايا التوراة».  ذلك أنه يُعمِل جهله بالمواقع لتأويل مجاهل التوراة، وصناعة تاريخٍ من أوهامٍ مركَّبةٍ، متردِّيًا من منزلق إلى آخر.  فكما رأينا بناءَ فرضيَّاته سابقًا على معلوماتٍ هُلاميَّةٍ، مشوَّشةٍ، أو خاطئةٍ، دون أن يكلِّف نفسه بالتحقّق اليسير، أو حتى الاستفسار من أهل المناطق الذين يتحدَّث عن ديارهم- لمعرفة طبيعة الأماكن التي يربط أسماءها بما ورد في التوراة- ظلّ يفعل ما رأيناه في أوَّل كتبه.  في نهجٍ عجيبٍ من الاستخفاف بالمعلومة، وبعقل القارئ، وبالتاريخ في آن.

جاء من ذلك مسعاه لربط اسم (طبحيم)، (سفر التكوين، 39: 1)- وهو حسب زعمه اسم مكان، لا بمعنى «الشُّرَط»- بمكان في جبال فَيْفاء.  ففَتَّش عن (طاء باء حاء) مناسِبة، حتى قرأ أن في فَيْفاء مكانَين يسمَّى كلّ واحد منهما: (بَطْحان)، فقال: «وهناك قريتان في جبال جيزان [كذا!]... تحملان اسم بطحان، وقد يكون هذا الاسم صيغة مثنَّى من بطح، وهي استبدال من طبح.  ولعل المعبد الذي كان يترأسه فوطيفار كان في واحدة من هاتين القريتين.»(4)  و(فوطيفار) هذا هو المسمَّى في القرآن الكريم: «عزيز مِصْر».  إذن عزيز مِصْر كان مركزه في بَطْحان بفَيْفاء، ذلك البيت فوق سوق (النَّفِيْعَة) شرقًا.  وما أشكّ في أن من يعرف حقيقة المكان المشار إليه لن يملك حين يقف على هذا الكلام إلَّا الضحك حتى تبين نواجذه! 

بيت بَطْحان، ذاك المتواضع، كان قصر عزيز (مِصْر)، ومسرح الأحداث حول (يوسف)، و(زليخة)، و(العزيز).. إلخ.!  كلّ ذلك كان في تلك الأرياد والجُوَر!  وعليه فإن لاسم بَطْحان هذا تاريخًا عريقًا يعود إلى نحو أربعة آلاف عام!  وكذلك فإن البيت- غير القرية- لا بُدَّ أنه بناه عزيز مِصْر، لا أهل بَطْحان الفَيْفيُّون!  فيا للعجب!  وطبعًا، لا قريتان ثمَّة، ولا واحدة، بل هما بيتان سكنيَّان صغيران متقاربان جدًّا، لأخوَين من سكَّان المنطقة، يُطِلّان على طريق المشاة قديمًا، وطريق السيّارة حاليًّا، يُدعَى أحدهما: (بَطْحان الأسفل)، والآخر: (بَطْحان الأعلى).  وليس أيّ منهما بقرية، حتى باصطلاح الفَيْفِيِّين، بمعنى: البيت الضخم الواسع، وإنما يتكوَّن كلٌّ منهما من دارتَين ومِشْراح، أي من دورَين دائريَّين، وثالثٍ أعلاهما ذي شُرفة مُطِلَّة على الخارج.  لا يهمّ الرجل أيُّ شيءٍ من هذه التفاصيل، على كلّ حال، فاهتمامه منكفئٌ على وجود الحروف المتقاربة- ولو مقلوبة أو مستبدلة- في اسمٍ ما: مكانًا كان، أو بيتًا، أو قبيلة، أو عشيرة، أو أُسرة، أو شخصًا.

على أننا سنزيده من البَطْحانات بيتًا، وهو دارة- أي طبقة دائريَّة من البناء- اسمها (بَطْحان)، تقع في بُقْعَة (الحَشَى)، في جبل (آل ظُلمة) من فَيْفاء.  غير أن هذه، في الواقع، لا تليق بـ(عزيز مِصْر)!

ثمّ إنه لو كان قد تناهَى إلى الصليبي أن مبنًى، غير بعيد من بَطْحان، يقع فوق النَّفِيْعَة، جُعِل حَبْسًا (سجنًا) في العصر الحديث، فصار يُسمَّى: (امْحَبس)، لسارع إلى القول: لا بل هو حَبْسٌ قديم، وأن عزيز مِصْر، الساكن هناك في بَطْحان، قد حبس (يوسف بن يعقوب) هناك!  ولو عرف أيضًا أن بيتًا، يقع على سَمْت البَطْحانَين المذكورَين شرقًا، اسمه: (مِصْر)، لاكتملت اللعبة التأويليَّة بين يديه، ولما احتاج حتى إلى (مصرمة عسير)، التي لا يُدرَى أين تكون، ولا تاريخ لها يُذكر قبل الصليبي.

وفوق هذه المجازفات العِلميَّة التي يضع الرجل نفسه فيها، لا تستطيع أن تفهم كيف اجتمع في منطقٍ مثل هذا الشتات؛ بأن يزعم أن مِصْر التوراتَّية هي قرية المصرمة بين (أبها) و(الخميس)، في حين أن مركز عزيز مِصْر (أو المصرمة) كان معلَّقًا في بَطْحان في جبال فَيْفاء، على مسافة نحو 400 كيلًا بالسيّارة؟!  لكن هذا ليس بغريب عليه، ما دام يَمُطّ مرعى إخوة يوسف من منطقة (القُنفذة) إلى (الدَّثْنَة) في فَيْفاء، كما سنرى لاحقًا!  والحقّ أن هذا هو مرعى الصليبي نفسه، راكضًا وراء الأسماء والحروف أَنَّى وجدها، لا مرعى إخوة يوسف.

 

(1) (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 292.

(2) ويأتي في كتابه الآخر ((2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)، 197) فيغيِّر رأيه في أن (جلعاد) هي جبال (فَيْفاء)، ذاهبًا مذهبًا آخر، هو أنها «اليوم قرية الجَعَدَة على المنحدرات الجبليَّة لتهامة زهران»!  ثمَّ يقول من الكتاب نفسه، (ص160): إن جلعاد  بلدة في جنوب اليمن اسمها اليوم: (الجعديَّة)!  وهكذا، لم نعد ندري في هذا التخبّط أين جلعاد؟  فحيثما وجد (جيم عين دال) فثَمَّةَ احتمال «جلعاد»، شريطة أن يجد تلك الحروف في شِبه الجزيرة العربيَّة، لا في (البلقاء) الأردنيَّة، شرق (نهر الأردن)، مع أن هذه الأخيرة اسمها «جلعاد»، دونما حاجة إلى تمحّل أو تأوّل.  وبذا فإذا كان منطلقه البحثي أن الأماكن التوراتيَّة ليست معروفة اليوم في (فلسطين)، وهو يريد أن يجد لها أماكن معروفة، فإن الأماكن التوراتيَّة لم تعد معروفة حتى من خلال مؤلَّفات (الصليبي) نفسها؛ لأنه في كلّ كتاب يُدلي بتحديدات جديدة، بل أحيانًا يفعل ذلك في الكتاب الواحد؛ لكثرة البدائل الاسميَّة بين يديه!  لم نعد ندري أين (مِصْر)؟  (أ بين أبها والخميس، أم في بيشة، أم في غامد، أم في الطائف)؟!  وأين (جلعاد)؟  (أ في جبال فَيْفاء، أم في تهامة زهران، أم في اليمن)؟!  وأين (الأردن) من أرياد الجنوب الكثيرة؟  (أ في هَروب، أم في عسير)؟!  وأين (عَمُّون/عَمّان)؟  (أ في فَيْفاء، أم في عسير)؟!  وأين (الفَلَسَة/ فلسطين)؟  (أ في خثعم، أم في بلاد غامد وزهران)؟!  وأين أورشليم؟  (أ هي قرية آل شريم، أم قرية آل سلامة، في النماص)؟!  إنه تِيْهٌ جديدٌ أشدّ من تِيْه (بني إسرائيل) القديم!

(3) التوراة جاءت من جزيرة العرب، 103.

(4) خفايا التوراة، 176- 177.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.