3

:: طريق النحل الى رحاب الأخوين رحباني ::

   
 

التاريخ : 12/03/2015

الكاتب : جورج سكاف   عدد القراءات : 4192

 


 

في إطلالته الأُولى على العالم الرحباني اختار هنري زغيب طريق النحل. 

لأنه عنوان قصيدة رحبانية: "طريق النحل الطاير من فوق القصور، أعلى من القصور، أعلى من قبب العالي عميكتب سطور..."

ولأنه عنوان المسيرة الرحبانية "بدأْب النحل على الجودة والتأنّي والدِقّة والصبر والمُثابرة في صُنع قرص عسل".   

طريقة اتَّبعها الشاعر هنري زغيب كذلك بدأب النحل على الجودة والمثابرة في أحاديث شهرزادية مع منصور الرحباني ليقطف من كلماته جنى عمل الأخوَين في بناء وطن الأَحلام، بمَسرحة حكايا القرى واستنهاض أمجاد التاريخ، قصوراً من الفن تُعطي الوطن هوية حقيقية مجيدة.  

سيرة الأخوين رحباني مسيرة نهضة فنية في لبنان والشرق رواها منصور الرحباني بتفاصيل ولا أدقّ، يوميات ضَنى وشقاوة وكَدّ وجُهد عاشها الصغيران عاصي ومنصور حتى بلوغهما خشبة مسرحٍ مُرتجَل في مقهى فوار انطلياس، يقدمان عليه ألاعيب وتمثيليات شعبية يكتبها عاصي في صحيفته "الحرشاية" ويدوزنها منصور في صحيفته "الأغاني" وتنتهي بهما غالباً هاربين في بساتين انطلياس. ومع ذلك تابعا طريقَ النحل في الـمُثابرة ليبلغا هياكلَ إلهة الشمس بمسرحيات أيقظت أعمدة بعلبك على غُزاة جُدُد يحيون عظمَتها بمفاخر شعب راقٍ يزيدها فخراً.

 

في إطلالته اليوم - بمزيد من خوابي ذكريات عتقت فطابت ومزيد من الصور تُحيي الذاكرة  وبإخراج طباعي أغنى وأرحب - يجتاز هنري زغيب "طريق النحل" إلى رحاب الأخوين رحباني وقد صار منها في الصميم، يطلُّ بها من هنا، من مسرح الأخوين رحباني، عند فوار الفن الرحباني في أنطلياس التي صارت عاصمة لحركة ثقافية ومنطلقاً للإبداع سنةً بعد سنة، فيوجّه تحيةً خاصة الى منصور بعد غيابه، مُضافة إلى تحيات إِكبار لفن رحباني يستمر متجدداً بألق عاصي ومهابة منصور، ثنائياً ثلاثياً بسحر صوت فيروز ويتسع رباعياً بغنى تنوُّع الياس، وأكثر فاكثر بتعدُّدِ العواسل الرحبانية، وفي كل قفير منها مليكُ نحلٍ يُعطي عسلاً ملكياً.

 

طريق النحل أوصلت هنري زغيب إلى قطف قرص العسل الرحباني، وتابعها الى عواسل شتى بالدأب والمثابرة وبحنكة وجدية. استكشف عمق روحانية جبران من شواهد الناس والأمكنة فاصطفاها قِيَماً جبرانية تُحاكي روحانية مصطفى نبي جبران. ومن مُجالسته سعيد عقل ساعات طويلة في أحاديث صحافية ومقابلات تلفزيونية استنطقه سرَّ الكلمة الرشيقة فبانَت ذات قوام واستعاد معه تقصيب كلّ قصيدة عمارةً منحوتةً في الصخر كأعمدة بعلبك. في كل بيت لعبة مُبتكرة وجمالية تحكي قصة حُبّ أو نبضة مجد عظيم جمعها في كتاب "سعيد عقل إن حكى" فجاء في بهاء "لبنان إن حكى" وأكثر شموخاً: إن لم يكن أعلى قمة بين الجبال فأعلى قمة في الحضارة وفي الألوهة إذ مسح قانا القرية اللبنانية الوادعة بهالة قُدسية يوم  دخلها المسيح مع أمه إنساناً عادياً لحضور عرس وخرج منها إلهاً بأَول أُعجوبة حوّلت المياه إلى خمر فآمن به تلامذته.

طريق النحل ميزت منصور الروائي الشيّق في سرد مسيرة الأَخوين رحباني، ولربما أيقظت فيه ميزةَ النحل أيضاً بأن يطير أعلى فأعلى من القصور والقبب العالية ليستكشف في أعماقه زهراً أنضر وعطراً أغنى.  تابع طريق الأخوين رحباني بهمةٍ أكبر وعزيمة أشدّ، فقطع الجبال الدهرية والقرى الـمُعلّقة والوديان العميقة ليصل إلى "القصور المائية"، وعاد منها يروي ماضي الذكريات العفوية بتَبصُّرٍ وتعمُّق في عبارات توراتية رؤيوية تُذَكّر بلحَظاتٍ سعيدة من الماضي وقد زاده الكِبَرُ صِدقاً مع نفسه وقُدرةً على العيش في عالم الآخرين .

أعاد منصور كتابةَ ومَسرَحة سيرة الأخوين رحباني شعراً كما مَسرحَ شِعر أبي الطيب المتنبي من مَدّاحٍ في بلاط سيف الدولة إلى ملك على دولة الشعر، ومسرَحَ فِكرَ الأخوين رحباني بفلسفةٍ أعمق مما مسرح "آخر أيام سقراط". طرحَ تساؤلات عاصي القلقة وهواجسَه حيال الما بعد: "بدنا نعرف معنى الأشيا سرّ الاشيا، بدنا نعرف، نحن جينا تَ نعرف". وبلغة المزامير رأى هذا الجبرانُ الآخر أن "الشاعرَ نبيّ يتلمَّسُ آلام شعبه، ينشد افتداءه وخلاصه. وكرسولٍ يعيشُ الأزمنةَ في الحاضر وآلام الحاضر بما تخطاها من قبل ومن بعد". 

ذكريات "طريق النحل" طبعت حياة منصور مع عاصي فتجسَّدت في أعمالهما، ويعودُ إليها منصور عودة المصطفى إلى النبي من سَفرة بحرية، بفلسفةٍ روحانية يرويها في "القصور المائية": "كِلما شِفت راعي سايق عنزاتو، أو صَبي حامل عَ ضهرو سَلّ عنب، أو خادم بمطعم، كلما مَرَقت عَ شرطي عَميُحرس الطرقات تحت شمس الصيف الحارقة، بتذكر حالي وبترجعلي كل المَراحِل اللي مرَقْتْ فيها حتى صِرت هالإنسان اللي إسمو منصور الرحباني". ويتابع: "كلما فكّرت بهاك البِنت اللي كان إسما نهاد حداد وصارت فيروز العظيمة، أو تذكرت عاصي ومنصور اللي صارو الأخوين رحباني وغَيّرو موسيقى الشرق، وهنّي ولاد الفقر الطالعين من البيوت الواطية، من الفَرشات الممَزَّقة وعَشا الخِبز الناشف، بعرف قدّيش صارَعْنا تَ وصلنا لفوق، وقدّيش عنّا حقيقَه ت صارلنا حوالى خمسين سنة وبعدنا فوق".  

أين هذا الفوق؟ إنه في وطنٍ صنعه الفنُّ الرحباني كما يرويه "طريق النحل" من بطولات "فخر الدين"، وانتفاضة "جبال الصوان" يفتديها مقاومون استشهدوا على بوابة الوطن ليُنقذوه من فاتك المتسلط، و"ناطورة المفاتيح" لشعب هاجر بأكمله تاركاً الحاكم يضيقُ بوحدته بين بيوت مهجورة فيستغيثه العودة راضخاً لمشيئته، وهتافات أغانٍ شعبية بصوت فيروز على أدراج بعلبك "حتى صار لنا أغنيات شعبية نعتقد أننا قادرون على غنائها والتغني بها". وعلى جسر القمر جَمعَ بين حبيبين من ضيعتين متخاصمتين فصارت "كل ضيعَه بينها وبين الدني جسر القمر، وطالما فيها قلب بيشِدّ قلب، مهما تعرَّض للخطر ما بينهدم جسر القمر".

 كبُر الأَخَوان في واحد ونأَت أدراج بعلبك فتخطّى منصور وحيداً طريق النحل ليُصبحَ "الغريب الآخر" ساكنَ "القصور البحرية"، "المسافر وحده ملكاً". أطلَّ على الألف الثالث ناقماً على بُغضٍ لا يزال يتحكم بالناس، ومن تلّة أنطلياس رأى بيروت تُقصف، تمطِرُها الأساطيلُ بالقنابل، "تقصف عمق الليل الرّحب، وجميعُ قنابلها تسقطُ في قلبي". ورأى "شمسَ المَشرق وحطامَ النبوءات تقع في آن حين يتعاظم فيها المال وتعلو بالإسمنت مُشرَّعةً على فوضى الحرية يدخل إليها ويخرج منها كل من هَبَّ ودب". فاختار أن يَصلبَ نفسَه عن بيروت: "سأُصلبُ في الحمراء ليكونَ للبنان رجاءٌ وحياةٌ للشهداء".

وطن منصور كان وطن أحلامِ الأخوين رحباني من بطولات وأهازيج فصار وطناً بحاجةٍ أن يُفتدى لأنه "الوطن" و"الوطن يصير بانتسابك إليه، بدونك هو أرض، لا يكون حقيقةً إلاّ حين تنعكسُ أنتَ فيه وينعكسُ فيك: أنتَ شمسُه وهو قمرُك". لأجله ثار منصور على "ملوك الطوائف" يقتتلون باسم طوائفهم فيقتلون الوطن. ومن المياه، من أعماق الوجود حيث تنبثق الأضدادُ بعضها من بعض، كانبثاق النور من الديجور، أعاد "الفينيق" في انبعاثٍ لعهدٍ رحباني جديد موقوفٍ للحرية "للمدن الممنوحة للبحر، للثلج الأول، للأقمار الأولى والنِعَم الشمسية".

بقي فيه من "طريق النحل" سعادة قطفِ الجنى من خلف ستارة المسرح، يَفرحُ به من فرح الناس، ويعود الى بيته يجلس في زاوية غرفته عند شباك الضوء، يكتب ويكتب: "تَهِبُني كلَّ لحظةٍ حُلماً، لا ينتهي واحدٌ حتى يبدأ آخر، وهكذا أجتاز أيامي... من دون تعاسة".

ظل منصور حتى آخر أيامه في حالة عطاء، يُعطي بفرحٍ وسَخاء، ويترك للزمن الطويل أن يُظهر كم هو خيّر ومُبدع. يحتفظ بسرّ ألقه في المنظومة الرحبانية العظيمة، في عبقريّة حِسّ بشري إنساني، وعبقرية حب وطني، وعبقرية إبداع، يُثير اهتمامَنا بدهشةٍ عارمة وهو أكثر اهتماماً مِنّا بنا. إنه من عالمنا حيث ندوس في الوحل لكنه مختلف في أنه "يتطلع الى فوق، إلى النجوم فوق رؤوسنا"، يدخل إلى أعماقنا حيث الحُبّ في قلوبنا. ويعرف أن يَفيدَ من حِكمةِ الحُكماء أكثرَ من حُكمِ الحُكّام، من فَهمِ الماضي يبني المستقبل، ويظل في كل لحظةٍ يحلمُ حلماً لا ينتهي.

سافر وحده ملكاً كمليك النحل: "لا سلطان لوعي أو عقل، بل لما في قلب الحُبّ. عندما يكون الحُبُّ لا يبقى للزمن حساب". ويبقى في لبنان الحلم لأن الحلم كان عنده واقعاً آخر عاشه وحده، وصل فيه الى غاية قد لا تكون حِسّيةً بمعنى الواقع لكنها حقيقة بمعنى الصيرورة. ظل يعمل من أجل حياة تستحق أن تُحيا، من أجل أن يبقى للربيع شهقتُه، وللسماء زرقتُها، وللأزاهير عبيرُها. من أجل وطن دائم الشباب والفرح".

وحده الزمان الطويل، بنظر منصور، يُظهر حجمَ وقيمة الانسان الخيرّ، يجعله أسطورة: "كل أَلف سنة يجيءُ مرّة، يبحثُ في أقواله القديمة، يبحثُ عن وجوهِه في الماء، ثم يعود في ألف سنة جديدة، لأجل ان تكتمل القصيدة". 

هنيئاً للصديق الشاعر هنري زغيب، رفيق الألق الرحباني، في كل إطلالةٍ يحقّق جديداً أجمل وأغنى، ويُظهر كم مرّة اعلولى في طريق النحل فوق القبب العالية ليبلغ الرحاب الرحبانية، وكم مرّة أبحر في أحلام الرحباني إلى مِحراب ملكوته، ليجدَ أنه، في هناءة يقظة مُشرقة، أصدقُ وأسعدُ منه في بهاء أحلامه. 

 

*) كلمته في الندوة حول كتاب الشاعر هنري زغيب "في رحاب الأخوين رحباني"، بدعوة من الحركة الثقافية - أنطلياس، أدارها الدكتور أنطوان سيف (الأمين العام لــ"الحركة") وشارك فيها كذلك الصحافي رفيق خوري، وقرأَ خلالها هنري زغيب قصائد من الشعر الرحباني.

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.