3

:: مجموعة "رأس الديك الأحمر" للقاص أحمد الخميسي ::

   
 

التاريخ : 10/03/2015

الكاتب : شوقى بدر يوسف   عدد القراءات : 2308

 


 

 

القصة القصيرة فن ماكر ومراوغ وملتبس في بعض الأحيان، لا يمكن الإمساك بقوامه، وهو عصيّ على التعريف لا يوجد له تعريف شافع جامع يحدد ملامحه ومعالم تشكله، وهو يستمد خاصية هذا المكر من ناحية التوجه والتعبير المقنع لقضايا وإشكاليات الواقع؛ مما يؤكد مكانته وتفرّده بين بقية الإبداعات الأخرى. كما يستمد مراوغته من خلال بنية التشكل ومحاولات التجريب القائمة حول معماره والجانب الفنى في تكوينه، وقراءة القصة القصيرة تعني أن النص القصصي قد انتقل من مرحلة الكتابة إلى مرحلة أخرى تتسم بالنسبية؛ حيث المتلقي وذائقته الخاصة ومدى التواصل الحاصل بينه وبين النص، كما أن هناك ثمة حفريات جديدة يلوذ بها النص عند القارئ والمتلقي تختلف في ممكنات تأويله والقطع بدلالته والتي تختلف من قارئ إلى آخر ومن ناقد إلى آخر؛ لهذا السبب تعد دراسة القصة القصيرة من أصعب الأمور لاعتبارات المعرفة والتواصل وآليات النسق الاستعاري القائمة في ذهن وإدراك الناقد والمتلقي لمثل هذا النوع من الإبداع، حيث نسبية التلقي الحكائي الخاصة بالنص القصصي ومراوغته المستمرة دائمًا ما تكون عرضة للتأويل الذاتي؛ ما يدفع البعض إلى طرح دلالات تختلف باختلاف التلقي والذائقة وطبيعة الثقافة ونوعية القراءة، وهو فن الجماعة المهمشة المغمورة كما يشير بذلك فرانك أوكونور. (الصوت المنفرد، ت د. محمود الربيعي، الهيئة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1969 ص 17).

ولعل صدور مجموعة قصصية، وإضافتها إلى عالم مبدعها وكاتبها، وإلى المشهد العام للقصة يعد بمثابة إضافة أيقونة حكائية جديدة، تختلف باختلاف عالم الكاتب ودرجة وعيه وقراءته وثقافته الخاصة ومخزونه المعرفي والدلالي ودرجة تمرسه في الكتابة السردية.

ولعل الطرح الجديد للقص الحديث باجتهاداته، وتجاربه، واستثماره لمراوغة فن القصة من خلال التواصل بهذه الآلية، والظواهر الإنسانية الكامنة في أبعاد نصوصه، والمكر الكامن في تشكله وبنية معماره الفني يعطينا دلالة على أن القصة القصيرة الجديدة تدخل منعطفًا جديدًا يؤسس لحركة سردية لها خصائصها وسماتها الخاصة.

ومجموعة "رأس الديك الأحمر" التي صدرت للكاتب أحمد الخميسي والتي نحن بصددها في هذه القراءة، لاشك أنها إضافة جديدة لإبداعات الكاتب في مجال السرد القصصى، وإضافة جديدة أيضًا للمشهد القصصي المعاصر في مصر، كما إنها تعتبر إضافة جديدة أيضًا للقارئ الذي يرسم لنفسه فرضية الكاتب في شتى توجهه لكونه فاعلا ملموسًا لفعل التعاضد والتكامل بينه وبين الكاتب من خلال النص.

 والإبداع القصصي للكاتب أحمد الخميسي، يمثل حالة خاصة من حالات وهج الكتابة القصصية؛ بسبب ارتباط الكاتب بالمشهد القصصي المصري من ناحية التجربة؛ حيث تتكون تجربته من ثلاث مجموعات قصصية، هي مجموعة "قطعة ليل" 2004، و"كنارى" 2010، و"رأس الديك الأحمر" 2012، بخلاف مجموعة مشتركة صدرت عام 1967، وارتباطه أيضًا بمناطق إبداعية أخرى خاصة المشهد القصصي في الأدب الروسي الذي ترجم عنه العديد من المجموعات القصصية، والكتب النقدية وغيرها من مجالات الإبداع الأخرى؛ وهو ما انعكس بصورة أو بأخرى على منجزه الإبداعي الخاص.

ولعل بواكير كتاباته القصصية، والتي بدأت بالمجموعة المشتركة التي صدرت عام 1967، واشترك فيها مع الكاتبين أحمد هاشم الشريف ومحمود يونس تحت عنوان "الأحلام، والطيور، والكرنفال"، والتي شارك فيها أحمد الخميسي بأربعة قصص هي: "رجل عجوز"، و"لمن نهشوا لحمي"، و"الأشياء العادية"، و"استرجاع الأحلام". وقد أهدى الكتّاب الثلاثة آنئذ هذه المجموعة التي صدرت في سلسلة كتابات جديدة عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، إلى الجيل الجديد من الكتَّاب بتصدير خاص قالوا فيه: "إلى الجيل الجديد الذي يحاول استكمال الحرية في التعبير الفني ملقيًا الضوء على واقع الإنسان الحديث، ومسؤولياته، وآماله في التقدم والسلام" (المجموعة ص3)، وهو ما ينسحب على جيل الكتّاب الثلاثة وعلى أجيال المبدعين الذين قدموا لإبداعاتهم كل تعبير فني متميز من الأجيال اللاحقة لصدور هذه المجموعة، وقد أشار يوسف إدريس إلى قصة (استرجاع الأحلام)؛ وهى القصة الأخيرة المنشورة في هذه المجموعة المشتركة والتي سبق نشرها بمجلة الكاتب القاهرية في عدد ديسمبر 1966 بمقدمة قصيرة يقول فيها: "القصة الجديدة التي نبشّر بها، هي قصة خلفّت وراءها المعانى والأحاسيس والحكم المتعارف عليها، وتنقّب في النفس البشرية، في مناطقها القطبية والمواربة غير المكتشفة عن معانٍ ومفهومات ومضامين قد أحسها وتحسها معي، ولكننا لم نتفق بعد على أسمائها ومدلولاتها المحددة؛ ولهذا لا أجد أمامي إلا هذا المزيج المركب بعد حطام ما خلّفه لنا القدماء من لغة وأسلوب وطرق، وحتى ما سرنا نحن فيه زمنًا، أجد من خلاله وبواسطته جنينًا فكريًا وشعوريًا، وإن كان كامل النمو والصحة إلا إنه بلا اسم ولا بصمات محددة". (مقدمة يوسف أدريس لقصة استرجاع الأحلام. م الكاتب، القاهرة، ع 69،6 ديسمبر1966 ص 83)؛ كانت هذه رؤية يوسف إدريس حول قصة استرجاع الأحلام، وربما تنسحب هذه الرؤية نفسها أيضًا على عالم القصة في ذلك الوقت.

وربما يجرّنا هذا التأويل إلى أول استهلال قصصي كتبه أحمد الخميسي في قصة "الشوق"، التي نشرت قبل ذلك في الإصدار الأول لمجلة القصة الصادر في إبريل 1965، حين قال في هذا الاستهلال الذي ينسحب أيضًا على مضامين بعض النصوص في تجربته القصصية التي جاءت بعد ذلك: "هل تعرفون الحزن؟ الحزن المرهق الذي ينوء به القلب.. هل تعلمون ما هو الألم الكظيم الذي يترك في النفس بقعا كالمرض؟ هل كابدتم الشوق؟ شوق صبيٍّ صغير – لم يتعدَّ التاسعة – لأبيه، لوجه أبيه، لكفه الثقيلة، لرائحة أنفاسه، للحديث معه، هل جربتم الشوق؟ هذا الشوق؟ (الشوق) قصة أحمد الخميسي، مجلة القصة، ع 16، إبريل 1965 ص 40)؛ هذا التساؤل الأليم، وهذا الطرح الأول، وهذه اللمحة الإنسانية المتصدرة لأول استهلال قصصي للكاتب؛ إنما تمثل بعدًا إنسانيًا يؤجّج لطرح العديد من الفرضيات في حكي وقصّ أحمد الخميسي بعد ذلك، ويؤسس لوقائع وبديهيات تتناثر في قصصه القصيرة منذ مجموعته الأولى المشتركة وحتى مجموعته الأخيرة "رأس الديك الأحمر" التي نحن بصددها الآن، وقد انعكس الأدب القصصي الروسي الذي قام بترجمته أحمد الخميسي إلى العربية على عالمه القصصي كثيرًا، ومن أبرز من أثروا في كتاباته كان تشيكوف كما صرح بذلك في أكثر من حوار أجرى معه، وشولوخوف، وإيفان بونين وشوكشين وغيرهم؛ حيث عايش أحمد الخميسي أعمالهم القصصية ونقل إلى العربية الكثير منها بتميز واقتدار.

لعل هذه المقدمة التي أشرنا إليها في قراءتنا المبتسرة لمجموعة "رأس الديك الأحمر" تأخذنا إلى بؤرة المجموعة، ومضامين نصوصها، وإلى المغامرة الإبداعية الكامنة فيها شكلا ومضمونًا، وإلى عنصر المراوغة الذي احتفى به الكاتب في هذا الطرح المتميز من النصوص القصصية؛ من خلال اختياره لموضوعات ومضامين مختلفة لفلسفة حياتية وضع فيها رؤيته الاجتماعية والإنسانية والسياسية، وحقق من خلالها وجهة نظر لما يحدث على مستوى الشخصيات والأحداث.

وقد أهدى الكاتب مجموعته إلى بعض رموز القصة والترجمة المصرية ممن شاركوه عالمه ومسيرته الإبداعية والقصصية وهم: محمد المخزنجي، وعلاء الديب، وأبو بكر يوسف، وشوقي عقل. كما جاءت المقدمة التي كتبها الكاتب إبراهيم حمزة مؤصلة لأبعاد قرائية في نصوص المجموعة، وهو ما لاحظناه في العتبات الأولى للمجموعة.

والقارئ للمجموعة، يجد أن الكاتب يستهل قصصه من قلب الحدث مباشرة، وهي سمة تواجدت في معظم قصص المجموعة، كما أنه يستمد رؤيته من خلال بعد واقعي رامز لأحداث واقعية، وشخصيات تتواجد في المجتمع انتخبها بحسب الحدث المراد التعويل عليه، والإشكالية المراد إبراز حدودها، والشخصيات المحورية الكامنة داخل المجتمع سواء كانت مهمّشة أو شخصيات لها أبعاد خاصة وأبعاد إنسانية مستمدة من الواقع، ومن يتأمل عناوين المجموعة؛ يتبين أن الكاتب انتهج مسلكًا واضح المعالم في وسم نصوصه بحسب رؤيته في مراوغة النص القصصي وباستعراض عناوين المجموعة؛ نجد أنها تتراوح بين المفردة والاثنين والثلاثة بحسب رسوخ تقليد الكاتب في العنونة، والتي راوح فيها أيضًا عنصر المراوغة في التعبير؛ فهى أحيانًا مفردات بسيطة معبرة مثل "قائمة النسيان"، و"جلباب أزرق"، و"الطابق السابع"، وأحيانًا تكون بساطتها وهمية مثل "ومض"، و"غمغمة"، و"صعيدي"، و"شباك"، و"رحمة"، وأحيانًا تكون قناعا من أقنعة الكتابة السردية مثل "تاريخ فقاعة"، و"آخر مرة"، و"أحب ساراماجو"، و"الحب والفولاذ".

ولعل عنصر المراوغة الذي تواجد في نصوص قصص المجموعة، يكمن في هذا التأثر الوافد من تأثر الكاتب بالأدب الروسي خاصة من إبداع تشيكوف في القصة القصيرة عن الشخصية المزيفة التي يقول تشيكوف عنها: "نحن غير ملعونين ليس بسبب ذنوبنا الكبيرة التي قد نتفادى اقترافها، بل بسبب ذنوبنا الصغيرة التي يسهل أن نخفيها عن أنفسنا، وأن نقترفها مائة مرة في اليوم حتى تستعبدنا كالكحول والمخدرات، وبسبب ذلك نخلق لأنفسنا شخصية مزيفة". (الصوت المنفرد.. مقالات في القصة القصيرة، فرانك أوكونور، ت محمود الربيعي، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2009 ص 38).

 ففى قصة "رأس الديك الأحمر" التي حملت المجموعة عنوانها الرئيسي، وهي قصة رامزة تختزل الواقع الآني في مرحلة يمر بها الوطن في سنواته الأخيرة، نشرت في جريدة الدستور المصرية في إبريل 2012 بحسب ما هو وارد في نهاية النص، كما نشرت أيضًا في نفس الفترة بمجلة طنجة الأدبية بالمغرب مع بعض تعديلات طفيفة في نسيجها الفني، ولعل هذه العبارة التي أوردها الكاتب قرب نهاية النص ليدلل بها على الحس الرمزي للمعادل الموضوعي لحدث النص والذي يقول فيه: "فجأة انفلت البدن. رفرف لأعلى. دار في الهواء دورة عجيبة غير متوقعة. خفق جناحاه بين الأرض والسقف. اندفع إلى نافذة مفتوحة وانطلق منها إلى الحرية" (قصة رأس الديك الأحمر ص23)، ربما هي مزيج من الواقعية السحرية، أو السيريالية المبطنة بالواقع المتخيّل؛ جاءت لترمز إلى واقع يعايشه الوطن الرامز إليه بهذا الديك المذبوح في مرحلة مهمة من مراحل حياته، وهى مرحلة الثورة التي سرقت منه بعد الخامس والعشرين من يناير 2011، وهى ما رمز لها بقطع رقبة هذا الديك الأحمر، وانفصال الرأس عن الجسد، الذي استرد حياته ووعيه مرة أخرى بعد أن عبر نافذة الحرية كما تشير القصة. القصة مشبعة بروح التوتر، ومشحونة بالانفعال السريع، والإيهام بها يحيل إلى ترميز الواقع وتسييس المحتوى، وتضمين النص لرؤية اختزلها الكاتب في العبارة الأخيرة التي ترك نهايتها مفتوحة للمتلقي يكملها كيف يشاء إذ يقول فيها: "تطلّع الرأس إلى النافذة بنظرة خابية. لقد نجا؟! كيف لم تخطر النافذة على بالي؟! ينطفئ لون العرف النارى على البلاط الأبيض. يحشد الرأس كل ما تبقى له من ومض. يتسمع جناحيه في الهواء البعيد. إنه أنا من دوني! فكيف حدث ذلك؟" (المجموعة ص 23)؛ يبدو في هذا النص عنصر المراوغة في اختيار التقنية، وطريقة العرض، واستثمار الرمز في تعميق الرؤية، وفرض حالة من التوتر والانتهاء من النص بنهاية مفتوحة؛ مما يعضد رؤية الكاتب ويترك المتلقي مع الإيهام والإيحاء واختيار الفرضية التي يراها مناسبة لاستكمال رؤيته الخاصة بالمضمون والمعادل الموضوعي الذي يراه مناسبًا للنص.

وفى قصة "جئت أنت"، وهذا المشهد الإنساني للابن الذي يحكي لأمه المريضة والمقعدة واقعة مر عليها زمن بعيد ليسّري عنها ويضحكها في هذه الظروف الصحية الصعبة التي تمر بها؛ فيحكي لها حين قبض عليه، وتعلله بالمرض حتى يتم نقله إلى المستشفى وفى محبسه بالمستشفى، ولأن زيارته كانت ممنوعة فقد تعللت الأم عند زيارتها له بأنها قادمة لزيارة زميله في الحجرة، وحين يفطن الشرطي المكلَّف بحراسته بأن المرأة جاءت لزيارة ابنها، يتدخّل لطردها من الحجرة لاعتبارات أمنية، وتحاول الأم المريضة تذكر هذه الواقعة التي حدثت منذ زمن وهى تقول لابنها: "هل حدث هذا حقًا؟. قال: "نعم". قالت: "وأنا جئت إليك والزيارة ممنوعة؟". قال "نعم". أدارت رقبتها إلى الناحية الأخرى وسرحت ببصرها: "وتشاجرت مع الشاويش فعلا؟". ضحك: "نعم"! سألته قبل أن يأخذها النعاس تمامًا: "ألا تختلق هذه الحكايات لتضحكني؟". قال: "لا، أنت جئت.. فعلا جئت". وتنتهي الحكاية بهذا المشهد الإنساني البسيط في مبناه والكبير في معناه. وقد أدار الكاتب أبعاد النص بتلقائية وعفوية منحته بعدًا واقعيًا حدد منه رؤيته الإنسانية النابعة من وفاء الابن تجاه أمه المريضة في لحظة من أجمل اللحظات الإنسانية.

 وفى قصة "قائمة النسيان"، وهى قائمة حددها الكاتب من خلال عنصر مراوغة النص القصصي من مجموعة من الذكريات، يحاول بها صالح أن ينسى حبيبته نجلاء التي يتوهم أنها تبتعد عنه وتهجره؛ فيضع خطة علمية على حد قوله لنسيانها قبل أن تهجره هي حفظًا لكرامته وشخصيته، هو يتوعدها بأنه سوف يهجرها ويقاطعها إن هي لم تتصل به في الحال، ويحاول هو وصديقه ناجي وضع هذه الخطة بأن يتذكر صالح الأمور التي كانت تحدث بينه وبين حبيبته بمساعدة صديقه، وعن طريق تذكره لهذه الأمور سوف ينساها، ويذكره صديقه ناجي العارف ببواطن الأمور بينه وبين حبيبته بأشياء كثيرة ليضعها في القائمة. وفى النهاية عندما تتصل به نجلاء ينسى كل شيء، ويترك صديقه ويهرع إليها، بينما صديقه يهرول وراءه وهو يستند على حافة السلم ورأسه متدلية لأسفل وينادي: يا صالح أعود لبيتي أم أنتظرك؟ القصة يبدو فيها عنصر المراوغة؛ في اختيار الحدث وطريقة ترتيبه عن طريق هذا الشباب الساذج الموتور، الذي يحاول أن يتلمّس طريقه بفرضيات ذاتية غير مألوفة وغير مقنعة، تحكمه ضعف الشخصية، والتربية غير الصحيحة، وأصدقاء السوء.

 وفى قصة "آخر مرة"، الدائرة أحداثها في إحدى عربات (السرفيس)، يعرض الكاتب لنماذج محددة من نوعية ركاب هذه العربات، انتخبهم الكاتب من البشر الذين تمتلئ بهم هذه العربات بممارساتهم وطبيعتهم الخاصة: الصعيدي وركوبه بطريق الخطأ، الفتاة التي ترتدي ملابس محبوكة على جسدها، امرأتان تتشاجران للحصول على مقعد، رجل بلحية؛ شخصيات نمطية تتجمع بطريق الصدفة في هذه المركبة، وما يحدث بينهم من ممارسات خاصة وصراعات وكأن هذه السيارة تعتبر نموذج وماكيت لما يحدث على المستوى العام، كل هذا وسائق السيارة يسير بها بسرعة كبيرة جراء استفزازه من قبل ركاب السيارة حتى كاد أن يصطدم بإحدى السيارات المسرعة. وفى نهاية المطاف ينصرف الجميع كل بهمومه وأوجاعه. القصة تحمل عنصر السخرية في نسيجها وأحداثها وشخوصها، خاصة شخصية الصعيدي الذي رفض السائق أن ينزل من العربة دون أن يدفع أجرتها، ويقف في نهاية القصة ليقول: "أروح شبرامنت بالعافية؟"، كما تقف هذه المرأة لتعبر الطريق وهى تشير لمرافقها: "معلهش ياخويا آخر مرة نيجي مصر". القصة تأخذ من الواقعية سماتها، ويحيل الكاتب النص القصصي إلى معادلة لبنية الواقع، ومراوغة للحدث في صورة من صور الحياة الواقعية داخل عربة الأجرة الرامزة للمجتمع ككل.

 وفى قصة "أحب ساراماجو"، وحدث الفبركة الذي يتم كثيرًا في الصحافة، والشخصيات الزائفة في مجتمعها الخاص من خلال فراش الجريدة (رمضان) الذي يصبح بقدرة قادر أديبًا كبيرًا؛ لمجرد أنه زرع في مؤتمر أدبي بواسطة بعض الصحفيين الذين تكاسلوا عن حضور هذا المؤتمر فحضر بدلا منهم، وسرعان ما فرض نفسه على الساحة، وأصبح له حضور طاغ بسبب هذا الموقف، وانتقل للعمل بالصفحة الأدبية في صحيفة أخرى؛ ما أكسبه مكان جديد ومكانة كان يصبوا إليها، القصة تعري وتكشف ما يجري في الصحافة من خواء، وتكاسل، والبحث عن المال، والمصالح الشخصية على حساب المهنة، وما تفرضه من بحث عن المتاعب وظهور أنصاف الموهوبين في الساحة الأدبية؛ والقصة تنزع إلى تعرية الواقع الصحفي، وتنتهي القصة بهذا المقطع الدال والذي تركه الكاتب في نهايته المفتوحة؛ ليدلل عن رؤية الكاتب إزاء هذا الحدث: "بحلول صيف ذلك العام تركنا رمضان، التحق بإحدى الجرائد صحفيًا تحت التدريب، ولم نره زمنًا طويلا، إلى أن سمعت في إحدى الجلسات أنه صار مسؤولا عن ملحق أدبي في صحيفة رائجة" (قصة أحب ساراماجو ص 76).

وقصة "شباك" أو الشباك، التي حاكتها المرأة جيدًا لتوقع في حبائلها هذا الأديب الكبير صاحب الحظوة والجاه، ومحاولتها مقابلته بحجة وجود مشروع قومي للترجمة تريد مناقشته فيه، وحين تصل إلى أهدافها ويتم الزواج، تسير الحياة في رتابتها المألوفة؛ هي قصة بسيطة استخدم لها الكاتب الفلاش باك لمراوغة الحدث وتشكيل دقائقه: "كان ذلك منذ سبعة أعوام حين تلقى مكالمة على المحمول من صوت أنثوى تماسك فيه دفء وتهذيب: صباح الخير يافندم، أنا هالة فخري، أعتذر إن كنت أتصل بدون سابق معرفة، لدى مشروع قومي للترجمة كنت أود أن أناقشه معك". صادته شباك الصوت وتمنى ألا يخرج منها. قال يداري انجذابه للصوت بنبرة محايدة "بالطبع هذه قضية مهمة". وتنتهي هذه القضية المهمة بالزواج، وتتخذ الحياة مجراها اليومي الاعتيادي. وفي مراوغة للنص ينهي الكاتب قصته بنهاية مفتوحة يترك فيها للقارئ حرية الحركة مع النص المراوغ بهذه العبارة الدالة: "يحاول أن يستغرق في النوم. يتحسس الغطاء الذي غرزت أطرافه كالحدود بينهما وتحوم نظرته نصف نائمة حول الشباك" (قصة شباك ص 92).

 وقصة "الحب والفولاذ"، وهى قصة رامزة يتمحور موضوعها حول القضية الفلسطينية؛ من خلال قصة حب نشأت بين مصري وفلسطينية عن طريق الإنترنت، تحاول حبيبته نجلاء استدعاءه إلى رفح الفلسطينية عن طريق الأنفاق بمعرفة أحد أصدقاء والدها، وحين يوشك شوقي على الوصول إلى فتحة النفق من الجهة الفلسطينية؛ تنقض طائرة إسرائيلية لتهدم هذا الحلم وتموت الفتاة نجلاء في هذا الحادث، ويتغلب الفولاذ على العاطفة، القصة لها بعد إنساني يجسده الراوي الفلسطينى غسان حينما حدثت المأساة التي جسّدها الكاتب في مشهد مراوغ للحدث، ولكنه يعطي دلالة على عمق الرؤية: "فى تلك اللحظة تناهى إلى سمعي أزيز الفولاذ في السماء. في أقل من ثانية صار الأزيز هديرًا قويًا. شلّني الصوت المقترب. تحجرت في مكاني بعيدًا قليلا عن فتحة النفق. تطايرت الصور والأصوات من حولي كالشظايا بسرعة جنونية. قرقعة شريط الدعامات الخشبية في النفق وهى تنهار. يدا شوقي تقبضان على الهواء وهو ينظر للأعلى بذهول. ريم تصيح. اندفاعي لأشدها وأرفعها. الجدران تتهاوى علينا. الوجه القمحي يشهق ويغصّ طلبًا للهواء. العارضة الحديدية تسقط من السقف على ساقي. الدم يتفجر من وجه ريم وفمها. عيناي تغلقان على يديها تمسكان باستماتة بكتفي شوقي". (قصة الحب والفولاذ ص 85)

وفى قصة "جلباب أزرق"، يبدو الحدث المكثف والظاهر من عقلية وتفكير هذا القروى الساذج "خليفة"، الذي اقترض جلبابًا أزرق من "جودة" أحد جيرانه ليستر به أخاه سعد المريض الذاهب إلى مصر للعلاج بعد فشل علاجه بالوحدة الصحية، يصرّ جودة على أن يأخذ خليفة الجلباب الأزرق الخاص به، ويموت سعد في المستشفى ويتركه أخوه ويعود إلى بلدته لإنجاز بعض الأشياء المرتبطة بالجنازة، وفى القطار يتسلل هاربًا من كمسرى القطار لعدم وجود نقود معه، وكل همّه كيف يعيد الجلباب إلى جارهم جودة، ويستعد خليفة للعودة إلى مصر لإنهاء إجراءات الدفن ويرافقه جودة إلى موقف السيارات، وفى المستشفى بصم خليفة على طلب دفن أخيه على نفقة الحكومة، ويسأل خليفة التمرجي والموظف المسؤول حتى يصل إلى مدير المستشفى عن جلباب جودة الأزرق، الذي كان يرتديه أخوه سعد ولكن دون جدوى، وحين سُدَّت أمامه السبل في عودة الجلباب الأزرق، قال خليفة لنفسه في غضب: "يعنى جودة هيعمل فيك إيه؟ ملعون أبوه على جلابيته في ساعة واحدة". (ص100)

 وفى قصة "تاريخ فقاعة"، وهى القصة الثانية التي أورد الكاتب تاريخ نشرها في المجموعة بجريدة العربي الناصري في أكتوبر 2010؛ لارتباطها بدلالة سياسية تطرح نفسها، وهو ما أراده الكاتب في قصدية تذييل ثلاث قصص بمكان وتاريخ نشرها؛ قاصدًا بذلك أن يبرز من تاريخ النشر المدلول الخاص برؤيته حيال نشر هذا النص في هذا الوقت بالذات.

وهى قصة تشير إلى محاولة أنسنة فقاعة في معدة السيد الرئيس، وملاحظة أحد حراسه بما يحدث داخل جسد السيد الرئيس حين لاحظ امتقاع وجهه وهذا العرق الغزير يغمره، وهو ما سوف ينعكس على حالته أثناء ذهابه إلى مجلس الشعب لإلقاء خطابه التاريخي، والدور الرئيس التي لعبته هذه الفقاعة في مسيرة القائد حتى خروجها إلى الفضاء الخارجي مع كلمات خطابه في صورة مغايرة لما يحدث على مستوى الواقع: "لم يبق من بدن الفقاعة بعد الخطاب التاريخي سوى عينين زائغتين في وجه منهك فارقته علامات الحياة. مع ذلك، فإن الفقاعة التي بدّدت نفسها تحت أضواء المجد لم تستشعر الأسف على عمرها الذي أضاعته في لحظة. لقد انتهت بخروجها، هذا صحيح، ولكن من في تاريخ الفقاعات نال ذلك المجد كله؟" (تاريخ فقاعة ص113).

 لا شك أن مراوغة النص عند قراءته والوقوف منه على محتوى ما يقدمه من رؤى وفرضيات، من خلال فعل الرؤية التي وظفها الكاتب في رسم شخصياته المنتخبة من الواقع ووضعها بطبيعة كل منها في مكانها المناسب داخل النص، لتحكى وتسرد وتفعل ما يجعل النص القصصي يجسد ويعبر عن إشكالياته ويبث رؤيته التي عوّل عليها الكاتب في رصده لظواهر اجتماعية وإنسانية محددة، كما كان استخدام الكاتب أيضًا لحساسية فنية بالغة الخصوصية نبعت من مسؤولية اجتماعية، وأخرى سياسية بدت من محاولته فرض وجهات نظر ذاتية داخل نصوصه القصصية، ففى القصص الثلاث التي ذيّلها بتاريخ نشرها خلافًا لبقية القصص الأخرى، والتي لاشك لذلك دلالته الخاصة؛ فتذييل تاريخ نشر النص له تأويل خاص مكمل لهذه النصوص الثلاثة، لاعتبارات سياسية رآها الكاتب تعوّل على طرح تكملة رؤيته النصية؛ ففى قصص "رأس الديك الأحمر"، و"الحب والفولاذ"، و"تاريخ فقاعة"؛ نجد هذا الديك الذي ذُبح بضربة سكين واحدة، وهذا الهاجس الغرائبي في النجاة من هذه الأزمة التي وجد نفسه فيها فجأة على يد غاشمة باترة، ومأساة ريم التي كانت تنتظر حبيبها القادم من الأنفاق، والفقاعة التي انتهت من معدة الرئيس بعد أزمة خانقة انتابته عند إلقائه خطبته بمجلس الشعب، ولا شك أن شخصية الراوي عمّ غسان في قصة "الحب والفولاذ" وتجربة البحث عن الحب بين كل من ريم وشوقي التي انتهت بمأساة ريم، والحارس الذي تم التحقيق معه في نهاية قصة "تاريخ فقاعة" جراء إصابة الرئيس بفقاعة في معدته: "شعرت بتوتر والضابط يسألني عما جرى بالتفصيل في ذلك اليوم. حكيت له ما كان ظاهرًا ومرئيًا للجميع، لكنى أخفيت في أبعد نقطة من أعماقي ما أبصرته وحدي، لأننى أعلم منذ طفولتي أن الناس لا يصدّقون الحقيقة" (تاريخ فقاعة ص113)، والديك الأحمر القاني الذي قبض عليه بقوة بقبضتين قويتين في قصة "رأس الديك الأحمر"، والأم التي نسيت ما حدث في الزمن البعيد في قصة "جئت أنت".

"لا شك أن اللغة الأدبية لا تستعير مكونات الواقع الخارجي؛ إنها تعبّر عن وعي ومعانٍ ومدلولات ونظم فكرية شاملة، وتقوم بتخليق عوالم جديدة من تعالق الدالات اللغوية بعضها ببعض، ويقوم القارئ أو الناقد بكشف تلك العوالم الجديدة حال الانتهاء من قراءة النص". (المتخيل السردى.. مقاربات نقدية في التناصّ والرؤى والدلالة، د.عبد الله إبراهيم، المركز الثقافى العربى، بيروت، 1990 ص8) والقارئ للغة المجموعة، يجد أن الكاتب قد اختار لغة ليس بها من التكلّف شيئًا، لغة بسيطة موحية ومعبّرة عن روح النص تبدو في بعض الأحيان مشاغبة من السهل الممتنع، عارية من الزوائد تفى بالوصف الدقيق والسرد المكثف للوقائع والشخوص، لغة تجترح بلاغتها لتعبّر وتجسّد ما يريد الكاتب أن يجسده ويعبّر عنه في نسيج النص القصصي؛ وهو ما عبَّر عنه الكاتب لغويًا وفنيًا في مجموعته القصصية "رأس الديك الأحمر".

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.