3

:: سأفتح الباب وأراك يوما.. - قصة قصيرة ::

   
 

التاريخ : 20/02/2015

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1771

 


 

 

-1-

سأفتح الباب وأراكِ يوما. حتى لو لم تكوني أنت سأراك. حتى إذا لم تظهري أبدا سأراك. سأراك مضطربة في فتحة الباب. تتطلعين إليّ وأنت تتفادين الماضي. ينفطر قلبي على وجودك الهش كجناح فراشة تحت ذرات الضوء. سأراك لأني لم أفقد الأمل. عندما تهامسوا بأنك لن تعودي لم أفقد الأمل. عندما قالوا انقضت سنوات وانتهى كل شيء لم أفقد الأمل. كنت أتجه إلى الباب أفتحه وأنتظرك. أقف طويلا، وصوت عميق في قرارة روحي ينبئني أنك قادمة، وأنني سأفتح الباب يوما وأراك. نظراتك وأنفاسك وأصابع يديك من محبتي. عنقك وكتفاك من انتظاري. تقودك قدماك نحوي مغمضة العينين، كأنما تمشين في النوم، فأفتح الباب وأراك. أضع يديك بين يدي. تفتحين عينيك، وتكون التجاعيد قد حفرت جبيني، وصبري على العشق قد حفر قلبي. ترفعين في وجهي عينيك الواسعتين المنهكتين من الرجاء. تتفادين أن تنزلقي بروحك إلى هوة السنوات الطويلة التي عذبتنا. تندفعين إليّ ملهوفة. يرقد وجهك يمامة في صدري. تسحبين رأسك من بين كتفي. تتنهدين فأستنشق عطر أنفاسك الذي يدور منه قلبي. تملئين عينيك من طول تحملي ومن الغرام الذي في روحي. تقولين لنفسك إنه حين مزّق البرق وجه السماء، حين كان الليل بمفرده سيد الكون، عندما لم يعد ثمت أمل، حين أغلق الجميع أبوابهم، وحده لم يفقد الأمل، وحده كان ينتظرني، أكبر من اليأس، وأشد حنانا من مرارة العتاب. شعرك مبتلٌّ وكتفاك ترتجفان من طول الفراق. تضحكين بألوان الزهور. تهمسين لي "هل كبرنا؟". أقول لك إن ماجاء وردةً يرحل وردة. تتطلعين إليّ بعمق. ينفطر قلبي على الوجود الهش الذي منحنى كل تلك القوة لكي لا أفقد الأمل، لكي أفتح الباب وأتطلع طيلة العمر إلى الطريق وأمني نفسي بأنني سأراك، عندما تكونين ندى على وردة، نورا من نجمة بعيدة، أو دفءَ قلبٍ مقدس. حتى عندما لا تكونين، سأظل أفتح الباب، أقف في الرعد والعتمة إلى أن تكوني، إلى أن تطوقي عنقي بذراعيك، فأهمس لك، إني لم أفقد الأمل، يوما بعد يوم، عاما بعد عام، لم أفقد الأمل. تغمغمين في أذني بصوت خافت، لكنني لا أسمع ما تقولين من انفعالي الذي يزلزل كياني، ترفعين صوتك قليلا وبالكاد أسمعك تقولين "أنت". ولا يكتمل الكلام.

 

-2-

 يطير قلبي إليك في كل وقت. وأنا نائم يطير قلبي نحوك. وأنا أسير. وأنا أصحو. يطير قلبي إليك. أراه بعيني يحلّق في الهواء ويحترق في الطريق إليك. أراه ولا أستطيع أن أمد يدي لأطفئ اللهب. يطير قلبي إليك. لا يتوب. لا يتعلم أبدا أن التحليق نحوك سيحرق جناحيه وعظامه إلى أن يغدو رماد نجم أبيض. لا يتعلم قلبي. لا يفهم. يفلت دوما من صدري إليك. أناشده أن يتمهل. أن يعقل، لكنه يندفع كأنه ما وجد إلا من أجل أن يطير نحوك. السماء للمطر، والنهر للخضرة، وقلبي لك. أوبخه. يبتسم كالطفل ويرجوني "لأجل خاطري دعني أطير مرة أخرى، مرة أخيرة". ألعنه. أمسك به في قبضتي. يتطلع إلي من بين أصابعي يسألني "أتعاقبني لأني عاشق؟". أطلقه. يتأملني بعينين تطلبان المغفرة، يستدير مثل طفل أذنب ويطير إليك. أراه يحترق بشوقه. أسأل الله أن يخلصني من قلب يسكن المسافات التي تفصلني عنك. أقول "يارب لاتجعل حياتي مشاهدة لقلب يحترق. اجعله ثابتا بين ضلوعي. دعه راسخا في صدري". ينظر إلي الرب قائلا "هذا قلبك لأنه يحب، قلبك لأنه يعرف ما لا تعرفه أنت. قلبك فاطلب له السماح ولا تنكره". أقول له "يا رب إنني أراه يشتعل في اللهب ألف مرة. أرى عينيه تذوبان من نار العشق". يبسم الرب برحمة متمتما: "لم يبق إلا القليل. فاصبر وعش هذا الحريق، تحمله، إنه مفتاح الفردوس". أحني رأسي. أضم قبضتي متوسلا "يارب نجِّني من فردوس صوتها وجنة عينيها وامنحني الجحيم لأستريح". يصمت الرب متفكرا متألما لأجلي ولا يقول شيئا.

 

-3-

ذاب قلبي كله تحت عينيك فجرا بعد فجر. ذابت عظامي وأنت تدورين حولي بكتفيك الصغيرتين تضحكين. تنظرين إلي بفضول وسرور الأطفال. ضاع وجودي كله. والآن تخلت القوة عن بدني. تخلت الشجاعة عن روحي. اضطرب عقلي ولم أعد أصلح لشيء سوى محبتك. لم يبق من عمري غير الكلمات. لا أرض ولا سماء. لا نور ولا ظلمة. إلى من أكتب رسائلي هذه الآن؟ من الذي يكتبها؟. أيكون قلبي قد جن من كثرة ما أحبك دمي؟!

 

-4-

أنت مثل شجرة فتية واحدة في هذا العالم. جالس مستند بظهري وذكرياتي وقلبي إلى جذعك. أتطلع إلى أعلى حيث فاكهتك. حيث عيناك الجميلتان. أحدق بهما. باتساعهما الرحيم، لعلني إذا رأيتك أراني. جالس يغمرني زمانك. هذا الفجر منك. هذا المساء منك. يغمرني مكانك. هذه البيوت أنت. هذه الغابات أنت. أستند إليك، وحين تمطر السماء على كتفى وعنقي أعرف أن هذا المطر أنت. كل الأزمنة وكل الأمكنة تتقطّر من رأسك وشعرك المرسل ووجهك، تنزلق من كتفيك وتغرقني. هذه المجرات التي تدور في الفضاء أنت. الجبال والسفوح أنت. مستند بظهري وعمري إليك، ولست أدري من أكون. أحدّق بعينيك العميقتين الشاردتين. أطوّق عودك الأخضر بذراعي لعلّني أعرف نفسي أو أتذكر من أكون. وحين تسألين "من أنت؟". أقول "أنت".

 

-5-

كل هذه السهوب المترامية قلبي. السماء الكبيرة التي تُظِلِّكِ في سيرك. المساحات التي تمشين فيه قدر ما تشائين. الزهور المتمايلة بين الفجوات الصخرية قلبي. التلال والوديان المبتلة. الريح التي تهب عليك. الجبال الشاهقة والطير الذي يرتجف بينها قلبي. تمدّين كفك إلى نور السماء وتسحبينها من قلبي. البطاح في الفجر قلبي، والحصى الصغير، تعبثين وترمين بعضه إلى النهر. دوامات الماء المنداحة قلبي. الزهور الزرقاء التي لم توجد أبدا. الأسماك التي تتواثب في برك المياه قلبي. هذا الجسر الخشبي الذي يهتز تحت قدميك قلبي. سيصادفك بعد قليل حجر أبيض تجلسين عليه، تستريحين ريثما تسوّين خصلة من شعرك. هذا الحجر الأبيض قلبي. الغزال الذي فرّ الآن بعيدا بين الأشجار قلبي. الفجر الذي سيحلُّ والليل الذي حلّ. الصخر الذي يندى بأنفاسك. مياه الشلالات. قلبي كله كوكب يحيا من حرارة اندلاعك، من انطفائك الحلو مرتخية كأوراق الزهرة على راحة يدي. كوكب يعذبه الدوران في الكون بلا معنى من دون الزفير الرقيق الذي يحرق الروح. كوكب قلبي لوقع قدميك وأنت تثبين من ضفة لأخرى، ولا تذكريني بتنهيدة واحدة.

 

-6-

كل ما تقولينه يُسعد. كل ما تفعلينه يُفرح. كل ما تنامينه يصبح حلما. كل ما تستيقظينه يصبح ربيعا. كل ما تلتفين إليه يتجمد من جمالك! كل أرض تجلسين فيها تصبح حديقة. كل ما تمرّين عليه يصبح نهرا. كل ما تندى عليه أنفاسك يصبح وردا. وكل ما تفارقينه يصبح جرحا!

 

-7-

حياتي خبزك تأكلين منها سنة بعد سنة حتى تشبعي وتنصرفين. دمي نهر تضربين فيه بذراعيك ثم تخرجين إلى الشط وروحي تقطر على شعرك. تبتعدين. لست مقسومة لي في هذا العالم. لست مقسومة لي في أي عالم آخر. فلماذا حين أرى دمي على كتفيك أشعر أنك لي؟ أنك كنت لي؟ أنك ستكونين لي؟ أنك معي؟ أنك كنت معي؟ أنك ستكونين معي؟. تقولين عن دماي "سأغتسل منها". وتنصرفين. أتغتسل الزهرة من لونها؟. لست مقسومة لي، فلماذا يكون وجهك آخر ما أغمض عليه عيني؟ وصوتك آخر ما يطرق سمعي؟ أم أنك مقسومة لي على هذا النحو المؤلم وأنك بالفراق والعذاب تغمرينني بمحبتك؟.

 

-8-

يمكنك أن تنزعي ذراعيك من حول عنقي. يمكنك ألا تلتقي بي. لكن المؤمن يظلُّ مؤمنا حتى عندما ينزعون كتابه المقدس من بين يديه لأنه يؤمن بالمعبود وليس بالكتاب. هكذا أحببتك أنت، بالدماء التي جرت في كل عروق البشر، بأرواحهم كلها مجتمعة، بكل الجحيم الذي مروا به، بكل الجنات التي تطلعوا إليها. انزعي ذراعيك. لكنني أظلّ أنصت من بعيد لأنفاسك وهي تتردّد في صدري، وأعلم أنني حين أغادر الدنيا أواصل طريقي نحوك. هناك، في مكان ما، تقفين وتتأرجحين بلون اللهب. تغمغمين "نعم. أنت من أحبني. لك وحدك كل ما هو لطيف في روحي وبدني، نعومة خصري ورقة كلامي، إندلاعي واندياح عشقي في نظرتي، لك وحدك أضبط أنفاسي على إيقاع أنفاسك، نمشي وصوتي كله لأذنيك، ضحكاتي كلها لقلبك، وأنت مسحور بحبي. ها نحن معا، فكيف داخلك الشك في الفردوس؟".

 

-9-

كل ما يفصلني عنك يغرقني. كل ما يصلني بك يغرقني. واقف أتطلّع إليك. لا الزهور ولا الشموس الحارقة، لا غبار الخريف ولا البرد القارس يجعلني أحيد ببصري عنك. أتطلّع إليك حتى لم أعد أرى. أراك حتى لم أعد بحاجة إلى أن أتطلع إليك. سنوات لا أبارح مكاني، ولم أعد أدري إن كنت هناك حيثما أرسل بصري أم أنك غادرت من زمن؟

 

-10-

أتقبل فراقك كما ينبغي للمرء أن يتقبل الموت وحده، في صمت، كحقيقة يواجهها بشجاعة المرة الأخيرة للشجاعة. أذعن لفراقك، من دون أن أستطيع شيئا. أودع الدنيا وأسير نحو الفراق، ويبدو لي حتى الفراق مكانا للقياك!

 

-11-

أتعافى من حبك. أشفى من غرامي بك، كما يشفى الإنسان من الحياة. أشفى منك وأموت. فلماذا إذن تقودني خطواتي إلى الباب؟ ولماذا أفتحه وأقول لنفسي إنني سأراك يوما؟ حتى لو لم تكوني أنت، وحتى إذا لم تظهري أبدا سأراك. سأراك. وتكون التجاعيد قد حفرت جبيني، وصبري على العشق قد حفر قلبي. سأفتح الباب يوما وأستنشق العطر الذي يفوح من حديقتي وأشجاري، وتغمغمين في أذني، ويهزّ الانفعال كياني، أقول لك وأنا مرهقٌ ومخمورٌ إنني أحببتك بالدماء التي جرت في كل عروق البشر، وحينما مزّق البرق وجه السماء وعمّت الظلمة ظللتُ أفتح الباب أقف وحدي، أنصت في الريح إلى أنفاسك. أنصت في النهر إلى دموعك، أنصت في السماء إلى نورك، أنصت في الفراق إلى لقياك. وأقول لنفسي سأراك.. يوما ما.. سأفتح الباب وأراك.

 

-12-

ها أنت مقبلة. ها أنت!

***

أحمد الخميسي. كاتب مصري

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.