3

:: مأزق الثورة السورية، والثورات العربية ::

   
 

التاريخ : 15/07/2014

الكاتب : مازن كم الماز   عدد القراءات : 2232

 



 

 

إننا في ورطة، صحيح أن الثورة كثورة، كما بدأت في آذار 2011 أو حتى كما كانت في بدايات حملها للسلاح، قد توقفت، هذا في أفضل الأحوال، لكن هناك في سوريا صراع سياسي وعسكري أحد طرفيه النظام الذي ثار السوريون في وجهه، صحيح أن الطرف الآخر لم يعد الجماهير السورية التي خرجت مطالبة بحريتها، لكن مع ذلك لا يمكن أبدا السماح بانتصار الديكتاتورية في هذا الصراع. احتمال مثل هذا الانتصار يذكرنا على الفور بإسبانيا فرانكو بعد سحقه للقوات الجمهورية (التي كانت قد سحقت هي نفسها الثورة الإسبانية من قبل، ما يشبه بعض الشيء ما جرى في سوريا أيضا).. ليس فقط أن إسبانيا فرانكو كانت نظاما توليتاريا شموليا، يقوم على الصمت والخوف، بل أنها كانت نظاما سحق للتو مقاومة جيل بأكمله، وربما أجيال قادمة، وأصبح منيعا لفترة طويلة على أي تغيير من خارجه. أيضا لا يمكن السماح بانتصار القوى الأصولية، التي ستخلق هي الأخرى وحشا توليتاريا شموليا، يذكرنا ببدايات النظام الفاشي البعثي.. كيف وصلنا هنا؟ لقد جرت تدريجيا عملية إعادة صياغة للصراع السياسي العسكري في سوريا بحيث استبعدت الجماهير السورية منه وبحيث جرى دمجه مع صراعات عالمية وإقليمية على السلطة والثروة والنفوذ.. وبينما أجبرت الجماهير على دفع ثمن باهظ لوقوفها في وجه الديكتاتور، جرى شراء النخب وإعادة تشكيلها، بفعل قوى خارجية وداخلية أي من داخلها، وفق هرمية خاصة وضعت الأكثر ابتذالا والأكثر عمالة للنظام العالمي الجديد (النظام الرأسمالي النيوليبرالي العالمي والإقليمي) على رأسها.. لا يكفي هنا تجريم واتهام كل من ساهم بهذه العملية على أهمية ذلك، إننا أمام واقع يجب تغييره لا الاكتفاء بنقده.. يجب هنا أن أشير إلى نقاط التشابه الفعلية بين حكم مطلق أصولي وبين استمرار الحكم المطلق لبشار الاسد كنتيجة للدمار الذي لحق بسوريا، والأهم ربما، باستعداد جماهيرها على المقاومة : في كلتا الحالتين سنكون ليس فقط أمام نظام شمولي بل أمام نظام شمولي "مستقر" إلى حد بعيد، دون أية مقاومة جدية ضده من الجماهير، ووسط استسلام (كيلا نقول رضا) شعبي واسع نسبيا لهيمنته.. يذكرني ذلك بتحليل كورنيليوس كاستورياديس عن الاتحاد السوفيتي في أوائل الثمانينيات عندما رأى أن الطبقة الحاكمة هناك لم تعد البيروقراطية الحزبية الدولتية، رأى ذلك الاشتراكي التحرري اليوناني - الفرنسي يومها أن الاتحاد السوفيتي كان قد أصبح ستراتوكراسي (Stratocracy) أي حكومة قادة عسكريين، أن الطبقة الحاكمة يومها في الاتحاد السوفيتي قد أصبحت النخبة العسكرية التوسعية في الخارج، وأنها أيضا ليست ديكتاتورية عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، لأن الديكتاتورية تمارس على الضد من القوانين والدساتير السائدة، أما الحكومة العسكرية فهي تمارس بحماية مباشرة من تلك القوانين والدساتير وفي كثير من الأحيان ب"رضا" شعبي أيضا (في ميانمار تخصص القوانين السائدة ربع مقاعد البرلمان للعسكر والقوانين المرعية في تركيا تحتفظ للمؤسسة العسكرية بدور قيادي فوق بقية مؤسسات الدولة التركية حتى المنتخبة منها).. هنا تندمج الدولة والجيش معا، ويتولى معظم المناصب المدنية العليا ضباط حاليون أو سابقون.. إني أعتقد أن هذا هو أفضل وصف للنظام الاسدي، أو الناصري أو الصدامي، (وربما السوفيتي أيضا على رأي كاستورياديس) وأن هذا هو سر صمود النظام الاسدي في وجه الثورة الشعبية ضده.. لقد جرى التركيز على الصفة العائلية المافيوية للنظام الاسدي، لكن هذه الصفة لم تكن لتفسر صموده كل هذا الوقت أمام ثورة وتضحيات على المستوى الذي قدمه السوريون.. منذ أيام اللجنة العسكرية وصعود صلاح جديد، كان النظام السوري قد تحول بالفعل إلى نظام عسكري، ورغم الفردية المطلقة لحكم الأسد الأب لكنه مع ذلك حرص على استمرار الدمج بين السلطة والجيش، وإلى جانب التمجيد الشخصي للزعيم الخالد في الخطاب الإعلامي للنظام بقي تمجيد الجيش وقيم الحياة العسكرية جزءا اساسيا من هذا الخطاب، الجزء الأكثر نجاعة اليوم ربما.. نفس الشيء وقع أيضا في مصر، رغم استقلال عبد الناصر النسبي بمؤسسة الرئاسة حرص الرجل على المحافظة على العلاقة المحورية بين الجيش والسلطة، حتى بعد صراعه قصير الأمد مع عبد الحكيم عامر حرص على استمرار تلك العلاقة بصيغتها الندية ولم يعمل على إخضاع النخبة العسكرية له بالكامل كما قد يعتقد، ومع صعود السادات ومبارك استمرت هذه العلاقة التي ميزت النظام وحددت القوة الاجتماعية المهيمنة فيه، وكان حكم المجلس العسكري ثم صعود السيسي تكريسا لنفس النهج، لنفس النظام، لا انقلابا عليه.. وقد يصح نفس التحليل على الجزائر واليمن ودول أخرى شبيهة.. وحتى حيث جرى توريث السلطة بنجاح داخل العائلة الحاكمة ككوريا الشمالية بقي ابن الزعيم أو حفيده مجرد رمز أو تجسيد شخصي للسلطة او للطبقة الحاكمة يجب تقديسه أو احترامه، لكن السلطة الفعلية بقيت بيد النخبة العسكرية.. على الطرف المقابل، انتهت أحوال الثورة السورية لتنتج نظاما مشابها تماما لذلك النظام العسكري.. إن العارف بأحوال المعارضة السورية المسلحة، الإسلامية منها خاصة، سيعرف فورا أننا أمام صورة بالكربون، أو بالنيجاتيف، عن تلك السلطة العسكرية، وأيضا أمام خطاب إيديولوجي يعاكس خطاب النظام الاسدي بالاتجاه لكنه يشبهه تماما بكل صفاته إن لم يكن يطابقه.. هذا يضعنا أمام عدة مخارج محتملة اليوم للوضع في سوريا، أغلبها أو كلها مريع : استمرار الوضع القائم، لسنين، الأمر الذي سيترافق بتآكل أكبر في قدرة الجماهير السورية على المقاومة والنضال المستقلين وتركيز أكبر للقوى بيد حفنة من القادة العسكريين، أو انتصار النظام الذي سيعني تأسيس عبودية قد تكون أسوأ من عبودية القرون الوسطى، عبودية ستستمر لجيل أو جيلين على الأقل دون أية مقاومة جدية ربما، أو انتصار المعارضة المسلحة وتشكيلها لنظام عسكري بإيديولوجيا جديدة يعيدنا في الواقع إلى المربع صفر ولن تخرج دولة داعش المفترضة عن شكل حكم النخبة العسكرية الشعبوي هذا، أو حلول وسط مفروضة خارجيا أو بفعل التوازن بين الطرفين ستلعب فيها النخب دورا هامشيا وستبقى القوى العسكرية هي الفاعلة فيها، أو استمرار حالة التقسيم الراهنة بشكل رسمي أو ضمني، مع صراعات في المناطق "المحررة" على السلطة والنفط، حيث سيعاد تقسيمها مرة تلو أخرى، وأيضا تدميرها مرة تلو أخرى.. لا أعتقد أن الجماهير السورية تمتلك الكثير من الإمكانيات اليوم لتفرض حلولها أو لتوسع حصتها من الثروة والسلطة، أرجو من كل قلبي أن أكون مخطئا، لكن الأوهام لا مكان لها في التاريخ، رغم أهميتها لصنع أمجاد شخصية أو لإثبات "علمية" فرضية ما.. أعتقد أن الصراع اليوم، من زاوية الجماهير، سيتركز على معنى وجدوى المقاومة أساسا، وعلى ابتكار أساليب مقاومة أقل عنفا ضد النظام القائم، وبدائله السلطوية، باختصار، على بقاء وتطوير ثقافة المقاومة..

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.