3

:: العظماء لا يتغيّبون ::

   
 

التاريخ : 21/06/2014

الكاتب : د. مفيد مسُّوح   عدد القراءات : 4122

 



 

إعادة نشر في ذكرى يوم رحيل عاصي الرحباني

 

 

 

في رثائه لعاصي قال جورج جرداق: "إن الحديث عن عاصي الذي رحل لا يختلف لديَّ في شيء عن الحديث عن عاصي الذي لم يرحل، لأن الموت لا يفعل فعله في رجلٍ تراه وتسمعه وتحادثه حاضراً أو غائبا". ويضيف: "لا يمكن الحديث عن عاصي منفرداً إلا في حدود الأمور الشخصية الخالصة"، ثم: "في ما أبدعه الأخوان رحباني من أشعار وألحان ومسرحيات ومنوعات أخرى، لا يمكن الحديث إلا عن عاصي ومنصور معاً، لأنهما في الواقع يؤلفان شخصية فنية واحدة اسمها "الأخوان رحباني".

تقول فيروز: "عاصي ومنصور يتشابهان كما تتشابه نقطتا المطر" وتضيف: "منصور هو الوجه الثاني للدينار الرحباني".

كان عاصي ومنصور في أذهاننا، طيلة مراحل سيرتهما، شخصاً واحداً أحسسنا في جميع ما جادا به علينا أنهما كذلك وأدركَ مَن غاصَ في تفاصيل إبداعاتهما أنهما يكمِّلان بعضَهما في تلك الإبداعات شعراً وموسيقا، حواراتٍ ورقصاتٍ ومكوناتٍ متكاملة لمسرح غنائيٍّ لم تعرف الساحة شموليةً بمستواه ورِقَّة ودفئاً وعذوبة وبساطة في التعبير تقابلها قوةٌ في المعنى كالتي عشناها في مسرحهما وفي أغاني السيدة فيروز وأغاني نصري شمس الدين ووديع الصافي وكثيرين غيرهم.

وعلى الرغم من أن سيرة الأخوين رحباني تظهر بجلاء أنهما كانا مؤمنَين بالتطور ووسائله منهجاً للإبقاء على مكانة الإبداع في قلوب وعقول جمهورهما إلا أن تراث هذين العبقريَّين يثبت أن تميُّزهما وقدرتهما العظيمة على احتلال مكانة الصدارة بدأ مع أوائل أعمالهما، فكيف كانت البداية؟

يعيد الكثيرون من دارسي الأدب والمسرح والموسيقا في لبنان استثنائية ظاهرة الأخوين رحباني إلى مولدهما ونشأتهما في بيت والدهما حنَّا الياس الرحباني، قبضاي أنطلياس الذي قارع رجال الدَّرك العثمانيين فلاحقوه لتطبيق حكم بالإعدام الصَّادر بحقه دون أن يتمكنوا منه. كان حنَّا الرحباني محبَّاً للطرب العربي الأصيل وروَّاده المصريين في تلك الأيام، يعزف على آلة البُزُق ويدير الجلسات الممتعة مع أصحابه وزوار مقهاه في "فوَّار أنطلياس" الذين تردَّدوا مع عائلاتهم إلى المقهى فكانوا الجمهور الذي شعر الفتَيان عاصي ومنصور أنهما معنيان يوماً ما بالوصول إليه.

وُلِدَ عاصي في الرابع من شهر مايو _ أيار عام 1923 في أنطلياس وفي السابع عشر من شهر مارس _ آذار عام 1925 وُلِدَ منصور. ترعرع الصبيَّان في حضن جدَّتهما التي وسَّعت حكاياها الجميلةُ الشيِّقةُ المتنوعةُ خيالَهما فازدادا تعلقاً بجلسات الجَدَّة مثلما انشدَّا إلى جلسات الوالد مع زوار المقهى والأصدقاء مما جعلهما قليلَي الاهتمام والالتزام بمواعيد المدرسة وامتحاناتها تحت تشجيع الوالد الذي كان حريصاً على إرضاء زبائنه في موسم الارتياد الربيعي أكثر مما كان مهتماً لدراسة وامتحانات عاصي ومنصور. غير أن المدارس التي تعلَّم فيها عاصي ومنصور كانت على درجة من الجودة والجدِّية أن وفَّرت لهما حدَّاً من المعرفة والإلمام جعلهما قادرَين فيما بعد على تخطِّي سلبيات عدم انتظام الدراسة واللَّحاق بزملائهما معتمدَين على شغفهما بالقراءة والمطالعة والكتابة، بل إن منصور حاول كتابة الشعر وهو في الثامنة من عمره .. فيما بعد، وعندما أصبح الأخ الأكبر في سنِّ الرابعة عشر أسَّس مجلة متواضعة تهتم بالأدب وسَمَّاها (الحرشاية) قلَّده بعد سنتين منصور الذي أسَّس مجلة (الأغاني) فكانت الانطلاقة المتواضعة تحيط بها ظروفُ اقتصادية سيئة وأحوالٌ غير مستقرة للأسرة الكبيرة اضطرَّت الأخوين إلى العمل في قطاف الحمضيات وفي تسيير أعمال مطعم الوالد في أنطلياس وإلى التنقُّل من منطقة إلى أخرى.

وإذ استقرَّت العائلة في أنطلياس مع بداية الأربعينيات توفَّرت للأخوين فرصة اللقاء بالأب (بولس الأشقر) الذي بدأ بتعليم عاصي دروساً في الموسيقا والعزف، في كنيسة مار الياس في أنطلياس، مالبث الأخوان أن انطلقا بعدها إلى تعلُّم الهارموني والعزف على عِدَّة آلات إلى جانب اهتمامهما الكبير بالثقافة والشعر والمسرح واشتراكهما في التمثيل تحت رعاية الكاتب المسرحي (يوسف لويس) مما شجَّعهما على تأسيس "(نادي أنطلياس الثقافي) الذي كان ملتقىً للشبيبة من المناطق القريبة من البلدة. في هذا المكان ظهر أول عمل مسرحي غنائي لعاصي ومنصور بقالب أوبرالي حمل اسم "وفاء العرب".

كانت نشاطات الأخوين حتى ذلك الحين لا تتعدَّى ممارسة الهواية الشبابية، فالحالة المعيشية الصعبة في البيت كانت قد اضطرَّتهما الالتحاقَ بسلك الشرطة والأمن العام وكان الالتزام الصارم بتوقيت العمل يغيظهما فيهربان إلى النادي أو إلى الحفلات. ولم تدم تلك المرحلة طويلاً، إذ إن كفاءتهما ومعهما أختهما سلوى الرحباني أوصلتهم إلى الإذاعة عبر تمثيليات ومسرحيات بسيطة وتسجيلات أغانِ. وازداد مساحة نشاط الأخوين واتسعت رقعة معارفهما وكثُر المعجبون بأسلوبهما وخاصة بالأغاني القصيرة الجديدة في قوالبها ومفرداتها وقيمها الفنية العالية. وتابع الأخوان اهتمامهما بالموسيقا الشرقية والغربي فتوفَّرت لهم فرص الالتقاء بأشخاص لهم في الفن والموسيقا حضورٌ ملموسٌ مثل زكي ناصيف وتوفيق الباشا وحليم الرومي وفيلمون وهبة وتعرَّفا فيما بعد على مدير إذاعة وتلفزيون دمشق أحمد عسِّة.

عمد الأخوان عاصي ومنصور منذ البداية إلى تقصير زمن الأغنية عما كان سائداً. فأغاني السيدة أم كلثوم منذ الأريعينات كانت طويلة الزمن ومثلها أغاني محمد عبد الوهاب وأدوار سادة الأغنية المصرية. وقد مرَّ زمنٌ قبل أن يعتاد الناس على قبول أغاني الأخوين رحباني مع اختهما سلوى (واسْمُها الفني نجوى) وحنان وفيروز وقصائدهم القصيرة العذبة الكلام والجميلة اللحن. ومن أجمل القصائد التي تعود إلى تلك الفترة (سمراء مها) و (هل ترى يولا الجميلة) وقد حصدت نجاحاً كبيراً ازداد بسببه عدد المعجبين بالأغنية الرحبانية القصيرة وجاء على رأسهم المخرج صبري الشريف وزميله محمد الغصيني اللذين كانا يديران (إذاعة الشرق الأدنى) من قبرص والتي انتقلت بعدها إلى بيروت، حيث تعرف عاصي على الفتاة نهاد حدَّاد عن طريق الفنان حليم الرومي، الذي كان شديد الإعجاب بها فأطلق عليها اسمَها الفني (فيروز) وقد كانت نهاد عضوة في فرقة للأناشيد الدينية تقدم أعمالها في الكنيسة فقط.

أعجب عاصي بنهاد وراح يؤلف لها وتغني وتنجح وتزداد تألقاً مع كلِّ جديد مالبث الأخوان بعدها أن انطلقا في رحلة عظيمة عادا في تمهيدها إلى الفولوكلور اللبناني والسوري يستقيان منه ما تناقلته الأجيال بحبٍّ ويهذِّبانه كلماتٍ وألحاناً وأسلوبَ عرضٍ ويمزجانه مع تطور مرونة صوت فيروز وثقافتها ومع التطور الكبير في تكنولوجيا الصَّوتيات حتى وصلا بهذا الفولكلور إلى درجة الإحياء التام فانتشر مسجَّلاً ببراءة للأخوين عاصي ومنصور الرحباني. قال منصور في أحد لقاءاته: "نحن منذ البداية قصَدنا التَّغيير". وكان قبول هذا التغيير لدى الناس على درجة من الإيجابية جعلتهم جمهوراً متميِّزاً للأخوين رحباني وغالياً عليهما في ذات الوقت.

لم تكن في لبنان حتى ذلك التاريخ موسيقا لبنانية واضحة الهوية والمعالم، على الرّغم من وجود عدد كبير من المهتمين والفنانين، كانت الساحة المصرية تشدُّ الكثيرين إليها فتتألق الأسماء بعيداً عن لبنان. أما عاصي ومنصور فقد كان على رأس همومهم خلقُ مدرسة موسيقية لبنانيةَ الطابع والروح، وقد تحقق ذلك بفضل جهودهما الكبيرة وكمية العمل الاستثنائية التي قدَّماها في نفس الوقت الذي كانا يدرسان فيه ويطوِّران نفسيهما ويزيدان من حجم المعرفة وسِعَة الإلمام بكل ما يرتبط بإبداعاتهما في اللغة والبلاغة وفي التبحُّر بالتاريخ والفلسفة وفنون الشعوب وحياتها وطقوسها وفي علوم الموسيقا وتاريخها وفي تكنولوجيا الصوتيات وفي المسرح والسينما وغيرها وغيرها.

يعترف منصور بنبل ووفاءٍ بتفوق عاصي عليه في الذكاء والحكمة. قال منصور: "كنت سورياليَّ التفكير في طفولتي وغير منطقي، وكنت حالماً باستمرار ورافضاً كلَّ واقع" ويعترف لفيروز بحضورها الاستثنائي وتميزها: "كانت فيروز هي المنتظرة لاكتمال المسيرة الرحبانية". وتوحي بعض التلميحات التي تأتي في سياق أحاديث منصور عن تاريخ هذه المسيرة إضافة إلى التغيُّر الذي شهدناه في موسيقا أعمال منصور المسرحية بعد غياب عاصي إلى أن الراحل كان أكثر ميلاً إلى الموسيقا الشرقية وآلاتها ومقاماتها بينما كان منصور أكثر ميلاً إلى الموسيقا الغربية وألحانها الراقصة (التانغو والفالس والبوليرو) أوالكلاسيكية.

كانت آلة عاصي المفضَّلة (البزق) التي تعلَّق بها منذ كان في حضانة أبيه قبل أن تظهر براعته في العزف على الكمان. ويلاحظ من يدقِّق في أغاني مسرحيات الأخوين قبل مرض عاصي ورحيله دورَه في الأغاني الشرقية الطابع مقارنة مع الأغاني الغربية الطابع أو الألحان التصويرية التي وضعها منصور على الأرجح.

من ناحية ثانية، كان عاصي ميَّالاً لاستخدام الشعر العربي القديم وأحبَّ الموشَّحات وتلويناتها وعمل على تطويرها وإخراجها من الصالونات المغلقة إلى خشبة المسرح. ولقد تطلَّب ذلك غوصاً في تاريخ الشعر وبيئاته الثقافية والسياسية.. لم يكن ذلك سهلاً، ولكن عاصي كان عاشقاً للصعوبات والتحديات. قالت فيروز عنه: "عاصي في الفن لا يتنازل عن أن يكون ديكتاتوراً، على نفسه قبل غيره" وأضافت: "عاصي يحبُّ الصَّعب" و "هناك أشخاص يقتربون إلى النَّهر، لكنَّ عاصي أقرب إلى النَّبع نفسه".

وفي حين كان عاصي يتلذّذ الغوص في التراث والفولكلور يستقي منهما ما يبني عليه بقوالب جديدة وبكلماته أغانٍ وحوارات اسمتع بها الجمهور، كان منصور أكثر التفاتاً إلى التراث الكلاسيكي عربياً كان أم فينيقياً وكنعانياً وغربياً، دون أن يعني هذا أبداً أنه من السهل علينا فصل وتوزيع إبداعات الأخوين رحباني.

لقد سجَّل تاريخ الموسيقا المعاصر لعاصي الرحباني ابتكاره الذي استطاع معه أن "يدخل الهارموني على ربع الصَّوت في اللحن العربي" كما قال الأستاذ الراحل (نجاة قصَّاب حسن) مضيفاً: "فنغمة البَيَات في موشَّح (اذكريني) عولجت بالعزف الهارموني ...".

أما المشاهد الكوميدية فقد عكست في غالبيتها روح الدعابة والمرح التي لم تلغها جدِّية عاصي وصلابته. غالباً ما كانت المشاهد الكوميدية التي نفَّذها سبع ونصري ومخُّول مجتمعين أو منفردين من ألحان عاصي وربما كلماته.

وإن كان عاصي قد قدَّر مكانة أساطين الموسيقا العربية محمد عثمان وأبو العلا محمد وسيِّد درويش ومحمد عبد الوهاب وغيرهم في الساحة الفنية العربية فقد كان في نفس الوقت رافضاً للبقاء في قوقعة القوالب ذاتها والاستمرار في فنون الغناء والموسيقا ضمن قيود المدارس السائدة في الساحة العربية آن ذاك. وعلى الرّغم من صعوبة الطريق التي شقَّها الأخوان في الساحة اللبنانية إلا أنهما كانا موفورَي الحظ مع انطلاق مهرجانات بعلبك في العام 1959، التي بدأ فيها التألق الرحباني المتميز وذلك بعد عدد من الاسكيتشات والبرامج الإذاعية والمهرجانات ومجموعة "راجعون" التي ضمَّت "أحترف الحزن والانتظار" و"جسر العودة" و"يا جسراً خشبياً" و"مريت بالشوارع" وغيرها ومجموعة (يسعد صباحك) وبعد عرض (أيام الحصاد) في عام 1957 و (عرس في القرية) 1959. في عام 1961 تألقت الفرقة الرحبانية في المغناة (رحيل الآلهة) أو (البعلبكية) في مهرجان بعلبك الثالث والتي قُدِّمت فيما بعد في البرازيل والأرجنتين وكذلك في العاصمة البريطانية لندن. وفي نفس العام عُرضت المسرحية الرحبانية (عودة العسكر) في بيروت.

كان عاصي وفيروز قد أسَّسا منذ 1955 أسرتهما التي أنجبت أول أبنائها زياد في عام 1956 ولم يمنع العمل المتواصل والمتعاقب فيروز وعاصي من إنجاب هلي في عام 1958 و ليال 1960 و ريما في عام 1965.

في عام 1960 بدأ مشوارُ الأخوين رحباني المسرحي الغنائي الواضح مع مسرحية (موسم العزّ) التي قامت فيها بدور البطولة السيدة صباح ومثَّل فيها عاصي دوراً صغيراً (تاجر الحرير أبو حمزة) وتتالى بعدها الحضور الرحباني في مهرجانات معرض دمشق الدولي إضافة إلى مهرجانات الأرز وبعلبك وعروض البيكاديللي وكذلك السفر إلى البلدان العربية والبلدان الأخرى، وغيرها.

ولم تمرّ سنوات التوتُّر الأهلي على الساحة اللبنانية دون أن تتحرَّك لها ولسلبياتها أقلام ونوتات وأوتار الأخوين عاصي ومنصور .. وقد تتوَّج الحزن الرحباني بمسرحية (جسر القمر)عُرضت في عام 1962 على خشبة معبد جوبيتر في مهرجانات بعلبك.

في الأعوام اللاحقة قدَّم الأخوان رحباني مسرحياتهما الغنائية مع السيدة فيروز (عدا مسرحية "دواليب الهوا– 1965) التي لعبت دور البطولة فيها السيدة صباح، فكان مجموع المسرحيات الغنائية 17 بالإضافة إلى المسرحيتين الغنائيتين (المؤامرة مستمرة _ 1980) و (الربيع السابع _ 1982) واللتين غابت عنهما السيدة فيروز. وإضافة إلى تلك المسرحيات قدمت المؤسسة الرحبانية التمثيلية التيليفزيونية (حكاية الإسوارة _ 1961) (سهرة الحب _ 1969) و مغنَّاة (زنوبيا _ 1972) و (قصيدة حب _ 1973) وبرامج وسهرات وقاما بالسفر إلى العديد من البلدان والعواصم واشتركا في المهرجانات العربية والعالمية.

في جميع مكونات الإبداع الرحباني كان الأخوان عاصي ومنصور إلى جانب أحدهما الآخر ولم يكن أيٌّ منهما يُسِرُّ لأحدٍ عن تفاصيل توزيع العمل بينهما، ولم يكن من السَّهل التكهُّن .. لذا فقد قبل الجمهور الرحباني طيلة فترة الخمسينيات إلى أواسط السبعينيات أن يعتبر كلاًّ منهما شاعر وكاتب القصائد والأغاني والحوارات في نفس الوقت الذي نظر فيه إليهما أنهما مؤلِّفَا ألحان هذه الأعمال فالتصق اسم منصور باسم عاصي وكانت استثنائية القيم الجمالية والإبداعية في العطاء أهمُّ لدى الجمهور من معرفة مَن كتب هذا ومَن لحَّن ذاك.

غير أن حضورَ عاصي بعصاه السحرية قائداً للأوركسترا الرحبانية في العروض المسرحية والفنية جعلنا نخمِّن أنه الموسيقار الرئيس كما أن حضورَ منصور في الساحة الشعرية جعلنا نعتقد أنه الكاتب والشاعر الرئيس لكمية كبيرة من القصائد والنصوص والحوارات.

من ناحية ثانية، عرفنا عن عاصي شغفه في الغوص في ماهية الكون وقوانينه وارتباط المظاهر الكونية بالفكر، وعرفنا أنه، على الرغم من مشاغله الكثيرة ومن الإنتاج الفني المتكامل الملفت للانتباه كماً ونوعاً، وكما كان دائم التفكير كان دائم القراءة. كان عاصي يؤلف ألحاناً وهو يكتب ويكتب نصوصاً وهو يلحِّن ويفعل الشَّيئين وهو يتحدَّث. لم يكن من العبث الربط بين شدَّة إجهاده لنفسه والتدهور المفاجيء في حالته الصحية في عام 1972.

كان العام (1972) حافلاً بالعطاء ولكنه كان مُجْهـِدَاً أتعب الجميع وبخاصة عاصي الذي ما توقف دماغه لحظة عن التفكير. والحقيقة أن الأخوين رحباني والسيدة فيروز وفرقتهم كاملة أو مجتزأة لم تعرف السـَّكِينة منذ ثبَتت انطلاقتـُهم بعد زواج عاصي وفيروز في مطلع العام 1955 وعلى مدى ربع قرن ملأ الحضور الرحباني خلالها دنيا العرب أينما حلـُّوا. ولم يكن العام 1971 أقلَّ إجهاداً بكثير، ففيه جابت الفرقة الرحبانية أكبر مدن الولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى تقديم مسرحية "صح النوم" في بيروت ودمشق وتسجيل أغان في الاستوديو والقيام بجولات في عواصم عربية. ولكن العام 1972 بالتحديد، من شتائه وحتى بداية خريفه، شـَغل الأخوين رحباني في التأليف والتلحين والتدريب والإدارة والتسجيل وفي القيام بالجولات وتوطيد العلاقات. فقد شاهد الجمهور في مهرجانات ذلك العام في لبنان وسوريا عملين مسرحيَّين هما "ناس من ورق" و "ناطورة المفاتيح" وكان الأخوان عاصي ومنصور يعملان بعد مهرجان بعلبك على المسلسل التلفزيوني "من يوم ليوم".

في يوم 26 أيلول/ سبتمبر طلب الراحل عاصي نقله إلى المستشفى بعد أن شعر بضعف قدرته على التركيز ومتابعة العمل وكان في مكتبه وقتئذٍ فسُجـَّلت هذه اللحظة في حياة فناننا الكبير نقطة انعطاف في سيرة الأسرة الرحبانية. لم يكن الحادث الصحي عرضياً بل جديـَّاً لدرجة استدعت التدخـُّل الجراحي لإنقاذ عاصي الإنسان قبل التفكير بعاصي العبقري.

يعلم المقرَّبون من عاصي الرحباني العمق الذي كان يغوص إليه في تفكيره بقضايا الفلسفة الكونية وعلاقة الإنسان بالكون. لم يكن عاصي ميتافيزيكياً، بل كان دياليكتيكيَّ الرؤية والتفكير وفيزيكيَّ الحجج والبراهين، ولكنه كان يطير بتفكيره خارج حدود المادة أو في لانهائيتها، عندما تتحول إلى مفهوم رياضي. ونحن نرى هذا في عبارات ومواقف امتلأت بها الحوارات المسرحية. وعلى سبيل المثال لا الحصر نتذكر عبارة من حوار الشحاد والملك في مسرحية "هالة والملك" (آخ يا شحـَّاد ما أكبر الـْ مـا شي !!).

ماالذي نتوقـَّعه لشخص عاش طفولة وشبابَ عاصي وحياته المكافحة ومغامرات البداية وتحديات التألق والالتزام التام بإرضاء أوسع القواعد الجماهيرية بعد تشذيب الأذواق وتطوير الثقافات، دون أن يغيب عن باله أنه للوطن الحصة الأكبر وأن الإنسان فوق أي اعتبار إلخ ... ما الذي ينتظر عبقرياً شموليَّاً كونيَّـاً استخدم ثواني حياته في العمل الجادِّ ليس لإرضاء الذات بل لتلبية مايريده النـَّاس منه؟! لقد أرهق عاصي نفسه فداءً لعلاقته بهم. قال الجراح الفرنسي الكبير الذي أجرى لعاصي جراحة في دماغه (مرضه ناتج عن نبوغه وإجهاده لنفسه وهذا بسبب تبنيه الكامل لعمله وتواصله فيه دون راحة).

وإننا إذ نقول هذا لا نستثني حضور منصور وفيروز الدائم إلى جانب عاصي طيلة فترة الازدهار ودورهما الكبير في التراث الرحباني، ونتمنى باسم الملايين من عشاق هذا الأدب الإنساني الخالد العمر المديد لفيروز ومنصور. ونحن الآن مازلنا نستمتع بالعطاء الرحباني المتميز في مسرح منصور الرحباني، ابن الثمانين عاماً.

محبـُّو عاصي في مختلف البلدان وعلى رأسها بلاد الشام أصيبوا بشيء من الإحباط طيلة فترة مرضه. وعلى الصعيدين الشعبي والرسمي استنْفرت العقولُ الأفئدة والضمائرَ مشكلة جيشاً من الجاهزين لمقاتلة المرض الذي، للأسف، لا يرهبه عدد المقاتلين ولا بسالتهم. يعجز الطبُّ أمام عناد المرض. لم يكفِ تكاتف عشرات الأطباء مدعومين من رئيسي سوريا ولبنان ومن أمواج من العواطف الشعبية النبيلة الصادقة لإعادة عاصي تماماً إلى وضعه السليم. نال المرض من سلامة الجملة العصبية فأثـَر على الذاكرة وضاعت من يد عاصي القدرة على الكتابة ومن لسانه القدرة على التوجيه ومن عقله القدرة على التركيز ولكن لم يضع من قلبه حب الحياة وحب الناس وحب العمل. عندما تعافى نسبياً عادت إلى وجهه ابتسامة طفل فقال "أنا مثل طائر الفينيق، مُتُّ ثم عدت لأكمل الكتابة والتلحين".

سافر عاصي بعد شهرين من خروجه من المستشفى في بيروت للعلاج في باريس وبقي قلبه مشدوداً إلى لبنان وذهنه مشغولاً بمسرحية "المحطـَّة" التي كانت فكرتها بحاجة إلى العمل وكذلك نصـُّها وألحانها، وفي سفره شمالاً لحـَّن "ليالي الشـّمال الحزينة".

بعد عودته كان أمل محبيه أكبر من الواقع. المتفائلون تمنـّوا أن يعيش عاصي معهم كما عاش بيتهوفن بعد أن أصابه الصَّمم وأعطى أربعاً من أجمل السيمفونيات وكمية كبيرة من السوناتات والكونشرتات والأغاني، فلماذا لا يكون عاصي كذلك!

في محبة جمهورِ عبقريٍّ معطاء بوزن عاصي الرحباني جانبٌ من الأنانية التي لا خجل بها. ففي حين تمنـَّت أسرة عاصي أن يبقى بينهم ولو جسداً كانت أمنيات جمهور المسرح الرحباني أن يعود البطل إلى قوته فيمتعهم بعطاءات جديدة.. قال (سهيل ابراهيم) في عاصي: "كنـَّا نسأل عن متعتنا في عينيه الباكيتين.. دائماً نفعل هكذا، نمشي وراء الأغنية ونقتل المغني!"

في فترة نقاهته تعرض عاصي لحالات اكتئاب لأنه كان يريد أن يعود بسرعة كبيرة إلى العمل ولم يكن بمقدوره أن يفعل. وكان الدور الأكبر في تهدئته لأخيه وشريكه في المجد منصور الذي عمل بدأب ودون راحة سعياً لإبقاء الصرح الرحباني في عليائه وإرضاء لعاصي وهو يقول له (إنـْت كـْبيرْنا ياعاصي.. إنـْت البطل اللـِّي عم يرتاح) وإذ يبدي قلقه بشأن فيروز يطمئنه (ما تـْخاف في مسرحيات كتير كتبناها لفيروز).

وبالرغم من أن العام 1973 كان عام نقاهة لعاصي فإن منصور والياس وزياد وفيلمون وهبي والآخرين عملوا بجدِّية ومثابرة على إنجاح عملهم "المحطة" والذي أثار عواطف الناس اطمئناناً منذ بدايته وحنيناً مع الأغنية التي كتب كلماتها منصور ولحـَّنها زياد على مقامه المفضَّل (بيات دوكاه) وغنتها فيروز للغالي عاصي:

فيروز: سألوني النـَّاس عـَنـَّك يا حبيبي كَتَبوا المـَكاتيـْب وْ أخَدْها الهوا

بِيْعـِزِّ عْلـَيِّي غـَنـِّي يا حَبيْبي وْلأوَّل مـَرَّة ما مِنـْكون سـَوا

لم يكن مرض عاصي بسيطاً أو عابراً. فجلطة الدِّماغ الحادة تركت أثرها البالغ الذي حرمه طلاقة اللسان وسلامة الرُّؤية والقدرة على التحكُّم بيده فتوقف عن الكتابة والقراءة ولم تفلح محاولات المعالجين الفيزيائيين إبَّان مكوثه في المستشفى. حزن عاصي على نفسه، قال: "بدِّي إشتغِل، بَدِّي إكْتُب، بَدِّي إشْرَب سيكارَة .. بسّ مشْ قادرْ .. بسّ مشْ قادرْ!!".

ولكن عاصي، الذي لم يكن قد أكمل عقده الخامس، لم يتوقَّف بشكل كامل عن العمل بعد مرضه. ومع أنه كان شديد الحزن على نفسه (يا منصور .. ليش صار هيك؟ .. ما بعرف شو بني!!) إلا أنه بقي متفائلاً وشارك مع فيروز ومع منصور والياس وزياد ومع أغلب أعضاء الفرقة الرحبانية فظهرت مسرحيات الأخوين رحباني مع السيدة فيروز المحطة (1973) ولولو (1974) وميس الريم (1975) وبترا (1977) وكذلك المؤامرة مستمرة (1980) والربيع السابع (1982) اللتين أخرجهما عاصي وقاد عاصي الأوركسترا أيضاً في حفلات ومهرجانات عديدة في عواصم عربية وعالمية.

إلا أن الوضع الصحي لعاصي بدأ بالتدهور اعتباراً من ربيع 1984 دون أن يتنازل عن رغبته في العزف على البزق ولقاءاته بالأصدقاء يعرب لهم عن أسفه على لبنان وعلى نفسه ويرجوهم أن يكملوا المشوار.

في ظهيرة الحادي والعشرين من حزيران 1986 أعلِن عن وفاة عاصي الرحباني في ظروف موضوعية سيئة في لبنان وكان منصور وعائلته حينها في دمشق وزياد في باريس بينما كانت السيدة فيروز في لندن لإحياء حفلة لها. بقي جثمان عاصي في مستشفى الجامعة الأمريكية ثلاثة أيام إلى أن اجتمعت العائلة وتمَّت ترتيبات الجنَّاز الرسمي والشعبي .. عاش لبنان أيامها حداداً فعلياً ومعه عاشت جماهير المسرح الرحباني في البلدان العربية والعالم. وتخليداً لعاصي فإن بلدته أنطلياس مازالت حتى اليوم تعتبر يوم دفن ابنها عاصي (24 حزيران) يوم حدادٍ.

غاب عاصي تاركاً غصَّة في حلوقنا وحسرةً وحزناً وهو الذي عرف كيف يُدخل الفرح إلى القلوب. وعزاؤنا أنه خالدٌ في عطاءاته الثمينة وإبداعاته التي خلقت حالة من العلاقة الإستثنائية بين الناس والفن وبينهما والوطن والإنسانية.

لم يمت عاصي .. هو بيننا في كل لحظة.

في كتابها (فيروز _ وعلى الأرض السلام) كتبت ريما نجم:

"في (قهوة ع المفرق) مقعدٌ لعاصي، يجلس هناك ويفرش الأسرار. وعلى "جسر اللوزية" له وقع خطوات. وفي "ساحة سيلينا" يُقيم الكرنفالات ...."

وتضيف: "أولسنا مطلَع كلِّ نهار نشرب كلماتِه وألحانَه ورؤيتَه ورؤياه في صوت فيروز .."

...

"عاصي الرحباني .. حاضر" ... و "العظماء لا يتغيَّبون أبداً"

لئن غاب عاصي الجسد فإن عاصي الروح مازال بيننا .. في أحلى أوقاتنا وفي أكثرها جدِّية أيضاً .. في تداعياتنا ونحن نراقب ونعيش أحداثاً ووقائع مؤلمة تشدُّنا في معظمها إلى حالة من الانكسار، وفي معاييرنا ونحن نقارن حجم العبقرية الرحبانية مع ضحالة ما تمتلئ به فضاءاتنا من ركام وضجيج.

ولنا في الجيل الرحباني المعاصر عزاءٌ وأملٌ تؤكد خصوصيته المكانة الرفيعة والنجاح الكبير لحضور أبنائه في الساحات الفنية والمسرحية برعاية الفنانَين الكبيرين منصور وأخيه الياس.

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.