الأمر الثاني أننا اعتدنا على تعريف الثقافة إنطلاقا من شق واحد من الثقافة وهو الإبداع الفكري والروحي وكل ما يتصل بالأدب والموسيقا والرسم والرواية وغير ذلك من تجليات الوعى، أي من "الثقافة الروحية". لكننا لا نضع في اعتبارنا الشق الثاني أي "الثقافة المادية" التي تغير الواقع ومن ثم تغير الفكر. أقول على سبيل المثال إن بناء السد العالي كان عملا ثقافيا ماديا من الطراز الأول، لأنه أزاح الثقافة القدرية المرتبطة لدي الفلاحين بانتظار المطر وأحلّ محلّها ثقافة أخرى مرتبطة بقدرة الإنسان على التحكم في الطبيعة . إقامة المصانع كان أيضا " ثقافة مادية" أدت إلى خلق رؤى جديدة وثيقة الصلة بالآلات والمكننة والحداثة. وإذا كانت معارفنا الثقافية عن الطائرة تنتسب إلى مجال الثقافة الفكرية، فإن الطائرة بحد ذاتها وما تؤدي إليه من تغييرات في الأفكار الخاصة بالزمن والمسافة تنتسب إلى " الثقافة المادية". وكل تغير مادي في الواقع نحو الأفضل هو تغيير ثقافي. إنطلاقا من هذا المفهوم فإن بناء المزيد من المدارس والجامعات ونشر شاشات السينما في الريف ومنصات المسرح وقاعات القراءة هو تغيير ثقافي مطلوب. أما الدوران في دائرة "الثقافة الفكرية" وحدها، وما تحتاجه لتطويرها، فإنه لن يسفر عن شيء كبير. إن التغيير الثقافي الذي نريده من الرئاسة الجديدة هو تغيير الواقع. وإذا عدنا إلى طه حسين وأدركنا قوله "إن التعليم هو مستقر الثقافة" سنجد أن أولى التغييرات الثقافية المطلوبة هي القفز بالتعليم إلى الأمام. فلا حديث عن الثقافة في ظل نظام تعليم متدهور، ومن باب أولى في ظل الأمية. وما يستلزمه تطوير ثقافتنا أكبر بكثير من وقف الرقابة وحبس الكتاب ووضع وزارة الثقافة تحت رقابة المثقفين. الثقافة تبحث عن فلسفة ثورة.