3

:: كلمات تنسلّ بين الأدب والفلسفة ::

   
 

التاريخ : 01/04/2014

الكاتب : د. نايلة أبي نادر   عدد القراءات : 3828

 


 

 

"الحبّ قاهر كالموت، وأبديّ كالسّماوات"

هايدغر.

 

 

 

الحياة عطرٌ والعطرُ ينسكب بسخاءٍ غير آبه بمن يتنشّقه.

الحياة مغامرةٌ والمغامرةُ تتوالى فصولُها لتزيدنا شغفاً بما سيأتي.

الحياة زمنٌ ينسلُّ بسرعة العابر بين عينٍ وعين، مسافةٌ تحدّها بدايتان نورانيّتان.

 

 

يطلُّ علينا إيلي خليل متلبّساً بصورة "العاشق الصّادق" الّذي أكرمته الحياة بمزيد من الغوص في بحر الأنوثة والرّقص على وقع أمواجها. إنّه العاشق المتجدّد الّذي يرتكب العشق بالجرم المشهود معلناً منذ الصّفحة الأولى :"نحبّ لنحيا، ولا نحيا لنحبّ". فالحبّ مبرِّرٌ للوجود، ومحفّزٌ للعيش، يعلو على الأنظمة ويخترق جدار القوانين، يتحدّى، يغامر، يفرش الأرض انتظارات وينام...

ما معنى أن نحيا؟ ما معنى أن نحبّ؟

سؤالان حاولت الإجابة عنهما باحثة في أروقة الرّواية الخليليّة متتبِّعة الخيوط الفلسفيّة والإشارات الفكريّة الّتي تفيدنا بالمعنى المطلوب.

بداية، يلفتُ انتباه القارئ حرفَ العين الّذي يتردّد مرّتين، وكأنّ الكاتب يهدف إلى افتعال الّلبس منذ العنوان، وحثّ القارئ على التّأويل حتّى قبل أن يفتح الصّفحة الاولى. أيّ عين تراه يقصد؟

إذا فتحنا قاموس إيلي خليل وتوقّفنا عند باب العين ماذا نقرأ؟

العين: حرف من حروف الأبجديّة العربيّة، طابعه مشرقيّ، مفعم بالموسيقى، يتصدّر الأغاني والمواويل بسبب ما يحمل من نغمٍ تطربُ له الأذن. فنشوة المطرب تفيض حين ينشد "يا عين" ويهيم محلّقًا في سماء الألحان. كما أنّ انخطاف المستمع الى عالم الجمال يجعله يصرخ أيضًا: يا عين تعبيراً عن الدّهشة والإعجاب. وكأنّ العين كلمةُ سرٍّ نتلفّظ بها عن غير وعيٍ في حالات تذوّق الإبداع وسحرِ النّشوة والجمال.

والعين هي بالطّبع نافذةٌ يدخلُ من خلالها النّور إلى الأعماق، وينسابُ منها السّحر إلى مَن هم خارجًا، يفتنهم، ويخاطبهم، يُوقع بهم، ويغمرهم حنانًا وهيامًا.

 

والعين حرفٌ تبدأ به عشرات المفردات العربيّة، لست هنا في وارد ذكرها، لكنّي اخترت منها ثلاث، ولهذا الخيار ما يبرّره في رواية إيلي خليل.

1- حياةٌ تنسلّ بين عطر وعطر: الاول عطر المراهقة الّذي ينسكب من التّجربة الأولى المفعمة بالشّغف والمغامرة، له سحره الخاصّ، نحاول الّلحاق به لنحبسه في قارورة الذّاكرة ونشتمّه في سرّنا كلّما دعت الحاجة. والعطر الثّاني يفوح من عمق الحياة الّتي تعبق بالمفاجآت والّلقاءات الّتي تسمّرنا مندهشين أمام شاشة الواقع.  

2- حياةٌ تنسلّ بين عشق وعشق: الأوّل يمهّد للثّاني، يحضّر له الطّريق، يفرش له الخبرات والتّأتات الأولى رغبة في الذّهاب إلى ما هو أبعد. فالعشق هو الّذي يرسم حدود الحياة، يضع لها إطارًا ملوَّنًا، أنغامه تقود الخطوات وتحدّد المسارات من محطّة إلى محطّة.

3- حياة تنسلّ بين عين وعين، العين الأولى هي رقّة الأمومة الّتي تُشرق فرحًا يوم ولادتنا، وعينٍ أخرى هي إغواء يتمايل على وقع الأنوثة الّتي تفيض حبًّا في الّلحظة الحدث، لحظة الّلقاء بالنّصف الآخر. لكن إيلي خليل قلَب القاعدة في روايته، إذ كانت البداية متوهّجة من خلال إشراقٍ صادرٍ من عين ساريا العشيقة الّتي خطفت العقل والقلب والكيان. وفي نهاية الفصل ما قبل الأخير تلألأت فيها عين الأمّ الّتي غادرت لكنّها باقية في أقوالها ومواقفها. ختم الرّواية عمدًا باستحضار البطلة أمِّه، بذكر أقوالٍ مأثورة لها تنضح حكمة وثورة على التّقاليد.

فبين عطر التّجربة الإنسانية الملوّنة بالانتظار والشّغف والأمل، وعشق الجمال الساعي وراء السّعادة قفزاً فوق الحدود، وعين الرّغبة الملتهبة شوقاً وإغواء، تنساب خيوط الرّواية لتحبك قصّة عاشقَين فضح أمرهما انتباه صبيّة ترصد خطى الحبّ وتترقّب مساره وتُمعن النّظر في ملامحه. صّبيةٌ شرّعت نفسها لتلقّي الموجات الإيجابيّة الّتي تصدر حينما القلبُ يخفق بضرباتٍ ُمفرحة، والعيونُ ترفّ بحركة نورانيّة. أطلّت في الختام لتظهر بصورة العالِم بشؤون الحبّ والحياة، وبأمور النّفس البشريّة إلى درجة أنّها تفوّقت على بطلي الرِّواية في الانتباه إلى أهمّيّة الحبّ والمشاعر الصّادقة، فلم تقترف ما فعلاه من خطأ الارتباط بناء على مصلحة مادّيّة أو اجتماعيّة.

إذا أردنا التّوقّف عند ما في الرّواية من نفحٍ فلسفيّ يعبق أريجه في صفحاتها وفصولها، نجد أنّ الانهمام الأكبر لدى المؤلِّف يكمن في أمرين: تحديد مفهوم السّعادة، والتّعريف بالحبّ الحقيقيّ. هناك طبعاً مسألة الزّمن والحُرّيّة والدّين وحقوق المرأة والقيم، لكنّ ما وجدناه المحرّك الأوّل لفصول الرّواية، يكمن في هاجسٍ مسيطرٍ على المؤلِّف أراد أن يشاركنا به نحن الّذين تلقّينا نصَّه: إنّه الحبّ والحقُّ في السّعادة.

ما الّذي يحُولُ دون اختبار هذا الشّعور الإنسانيّ؟ ما هو تعريفه النّظريّ، وتجلِّياته العمليّة؟ وبالتّالي هل السّعادةُ هدفٌ يجب التّضحيةُ بكلّ ما أُنتج من عادات وقيم وأعراف من أجل الوصول إليه؟ ما علاقة الحبّ بالزّواج وبالسّعادة؟

أسئلةٌ تضعُك الرّوايةُ في مواجهةٍ موجعةٍ معها، تقفز أمامك لتحصر تفكيرك فيها وتنهمَّ باحثاً عن جواب مقنع. أسئلة حاول الكاتب أن يجيب عنها انطلاقاً من نظرةٍ خاصّةٍ بالوجود والعلاقات والقيم. نسج الرّواية على منواله الخاصّ، غير آبه بالمحرّمات، متخلّياً عن التّصنّع والتّزلّف. نطق بما يربض على قلبه، قال كلمته وجلس على منبر الرّواية يترقّب ما الّذي سيلي فعل البوح هذا؟

كيف يحدّد إيلي خليل مفهوم الحبّ على لسان أبطال روايته؟ هذا ما سعيت إلى أن أبيّنه في هذه المداخلة الّتي تنقسم الى نقطتين رئيستين، الأولى في الحبّ، والثّانية في الخيانة.

أوّلاً: في الحبّ

يبدو الكاتب وكأنّه افتعل هذه الرّواية ليحدّد لنا مفهوم الحبّ من خلال حوارات تذكِّرنا بكتاب أفلاطون "الوليمة" حيث يدور الحديث في محاولةٍ لتحديد الحُبّ. كذلك نستحضر هنا الأسلوب الجبرانيّ في كتاب النّبيّ الّذي يُسأل عن الحبّ والزّواج والأولاد. افتعل الرّواية لتكون مناسبة شيّقة يستدرج من خلالها القارئ إلى فلسفة الحبّ، إلى التّأمّل فيه والغوص في متاهاته، والارتقاء إلى قممه، إلى الذّروة حيث تنجلي الكثير من الحقائق حوله. حاولتُ أن أجمع في مقطع واحد ما ورد في سياق الرّواية الممتدّة على 225 صفحة خلاصة ما يراه المؤلِّف في ماهيّة الحبّ. يقول أبطال الرّواية على التّوالي:

"الحبّ شمس العالم"(ص79)

"الحبّ طاقة خلاّقة ترتقي بالإنسان إلى أكثر ممّا يحلم، أو يظنّ، أنّه كان بإمكانه أن يصل! يُدنيه، أقرب ما يمكن من المثال!"(ص158)

"الحبّ، في بعض ما هو، قدرةٌ على تحقيق الأحلام".(ص160)

"الحبّ أقوى من أيّ نسيان... نعمة النِّعَم".(ص180)

"الحبّ عاطفة صادقة تنبع منك، لا تسقط عليك!"(ص186)

"الحبّ انصرافٌ تامٌّ، كاملٌ، كلِّيٌّ، حتّى الذّوبان في الآخر الّذي يصبح أنا أخرى. والحبّ، (حتى على لسان منصور الهارب من القانون) هذا، أليس، في وجه من وجوهه، مُصالحُك مع ذاتك بكلّيّتها؟ أليس عامل ترقية وتسامٍ، بعد أن يكون عامل تثقيفٍ يجيد صقلك، نحتك، إنسانًا حرًّا، نبيلاً، كريمًا، ناضجًا، مسؤولاً، واعيًا، مُحبًّا، بكلمة: مثاليًّا!؟"(189)

"الحبّ يجب أن يُعمّم، ينتشر، يُعلَن... أن تكون الإنسانية، كلّها، في حال عشق صافٍ، عميمٍ، صادق. فأنا أرى الحبّ نعمة، نعمة النِّعم. به يحيا المرء حالة قدسيّة، لأجلها حُلِمَ به، وكُوِّن!"(ص210)

"لا حبّ من دون طغيانٍ يجعل الطّرفين يطغيان كلّ على مُكمِله- شريكه! الحبّ، أحياناً، مشاركةُ الطّغيان".(ص221)

 

نلحظ، من خلال ما تقدّم، وكأنّ السّؤال الملحاح: ما الحبّ؟ هو المحرّك الأساس الّذي ركّب هذه الرّواية ودفع بكاتبها نحو المزيد من التّأمّل والغوص في سبر أغوار هذا الشّعور الإنسانيّ، أو هذه القيمة الإنسانيّة، أو هذه الحالة الإنسانيّة الّتي شغلت وما زالت الأقلام والعقول كما القلوب.

غريب أمر الإنسان، لا ينفكّ يحور ويدور منذ أقدم العصور بحثاً عن الحبّ، عن تحديدٍ كافٍ وشافٍ لموضوعه. كم من المحاولات الجدّيّة والاجتهادات الفكريّة الرّصينة انصبّت من أجل مزيد من الفهم لهذا الموضوع، ولتوضيح أسسه، والكشف عن خفاياه... ويبقى هو هو، السّاحر الأكبر، والمعذّب الأوّل، والجاذب الأقوى. لا نملّ من القراءة حوله، والكتابة فيه، والتّعبير عنه بشتّى الطّرق المباحة وغير المباحة. إنّه، كما يردّد الكاتب مرّتين في الرّواية، "نعمة النِّعَم"، إن صدف وحصلت عليه تكون قد نعِمتَ بكلّ شيء، وبإمكانك، عندذاك، أن تدخُل الأبد مطمئنًّا إلى مسارك وما جنيته من هذه الحياة.

ولكن كيف يمكن لنا أن نقوم بالجزم بأنّ ما نعيشه هو حبّ؟ وأنّ ما نختبره هو الحبّ بذاته لكي نعرّف عنه ونكتب ونناقش؟

       يقول جبران خليل جبران: "الحبُّ شعاع سحريّ، ينبثق من أعماق الذّات الحسّاسة، وينير جنباتها، فترى العالم موكباً سائراً في مروج خضراء، والحياةَ حلماً جميلا بين اليقظة واليقظة". انّ ما ورد في الرّواية لا يخالف ما قاله جبران بل يثبت صحّته. فالحياة بالنّسبة إلى مَن يُحبّ، حلمٌ جميلٌ ينسلّ بين يقظة ويقظة، لتغدو مشواراً يقوده الوهم نحو الحقيقة، يوجّهه الخيال نحو الواقع ليجمّله ويزيّنه ويضفي عليه وشاح المعنى.

       كذلك يقول جبران :"الحياة بغير الحبّ كشجرة بغير أزهار، ولا أثمار، والحبّ بغير الجمال كأزهار بغير عطر، وأثمار بغير بذور. الحياة والحبّ والجمال: ثلاثة أقانيم في ذات واحدة مستقلّة مطلقة، لا تقبل التّغيير ولا الانفصال". هذا ما وجدناه في الرّواية الخليليّة. إنّ حبّ البطل لساريا عشيقته، منغمسٌ بالجمال ومعطَّرٌ بالجاذبيّة والشّوق الملتهب من دون انقطاع. إنّه توق طارق إلى الأبعد إلى الأرقى إلى الأروع. إنّه انعتاق طارق من سجنه من ذاته من ضعفه. إنّه حوار مفتوح مع الذّات، وقفة صدق ومصارحة، لا لبس فيها ولا مواربة.

كثرت مقاطع حوار البطل مع ذاته في هذه الرّواية، وكأنّ الكاتب يريد أن يظهر أهمّيّة التّعرّف إلى الذّات، إلى الأنا الكامن فينا، إلى حقيقة مَن نكون، وما نفكّر فيه، وما نشعر به. إنّه في حال بحث عن ماهيّة المتعة والحبّ والشّهوة، وعلاقة كلّ ذلك بالجسد، بالنّفس، بالرّوح، بالقيم، بالمجتمع، بالمحظور... الحبّ مناسبة تجعلنا نقف أمام الذّات عراة من كلّ تصنّع ورياء.

الحوار مع الذّات يذكّرنا بأهمّيّة المقولة اليونانيّة الشّهيرة الّتي شكّلت ركن الفلسفة السّقراطيّة: إعرف نفسك، كذلك هو اليوم من أهمّ ما تعتمد عليه مدارس علم النّفس من أجل التّعرّف على مواطن الخلل أو القلق أو الفشل وما إلى ذلك من أمور تتمادى في تعذيب الإنسان.

اخترت من الرّواية هذا الحوار للبطل يستحضر فيه المرأة الّتي سحرته، تلك الفاتنة الّتي التقاها صدفة يوم ذهب مُجدّا في البحث عن منصور، عن الشّحّاد، وكلّنا في النّهاية نشحد شيئًا ما ينقصنا، على حدّ تعبير طارق، بطل الرّواية. إنّ تكرار محاولات الّلحاق بالشّحّاذ الفقير، في الشّارع الضّيّق لا يمكن أن نفهمه كمجرّد بحث يقوم به رجل يتحرّى عن الشّخصيّة الّلغز، منصور، إنّما هو أيضًا وبالأصل، سعيٌ لإرواء عطش مزمنٍ في داخله، عطش الجلوس مع أناه القلقة، وسبر أغوارها. فالزّيارات المتكرّرة إلى مكان إقامة منصور ليست سوى تعبير واضح عن الرّغبة الدّفينة الّتي تعتري البطل من أجل التّعرّف على ذاته هو، على سرّ الحياة وما تخفيه من عِبر. نجده وحيداً تائها في الشّارع الضّيّق، برفقة ذاته، يفاجئه صوتٌ ينتشله من حال الضّياع والاختناق، يقول:

أنظر ص 74-75-76-77

كان الحوار مع طيف امرأة جميلة، لا اسم لها، ولا هُويّة. إنّها فاتنة الشُّرفة، وهذا يكفيها. كان الحوار مع الذّات، مع الرّغبة المشتعلة، مع الصّدفة، مع الأنوثة الّتي تخترق المجهول وتحوّله معلوماً. الوحدة تضع البطل في حال بحث عن منفذ للخروج من النّفق، من الألم، من التّيه والعذاب. لا يهمّ إن كان الوهم هو الحلّ، المهمّ النّتيجة الّتي يحصل عليها. هنا يبادر إلى ذهني السّؤال التّالي: كيف لرجل متزوّج، له عشيقة رائعة الجمال، وسكرتيرة تحبّه وتهتمّ لأمره، أن ينقاد لامرأة مجهولة؟ كيف له أن يقع في شباكها؟ لم يقع فعلاً، لكنّه كاد أن يفعل. استحوذت على اهتمامه. أربكته. شغلته. لكنّ طيف ساريا عشيقته أنقذه في الآونة الأخيرة من السّقوط في سرّها. ما تطرحه الرّواية يدعو فعلاً إلى التّأمّل في سعي الإنسان الدّائم نحو منفذٍ يؤدّي به إلى ما يرى فيه طيفَ السّعادة من خلال تعدّد العلاقات، وإعادة النّظر في أسس الارتباط.

  

ثانياً: في الخيانة

 

يقول المؤلّف: "الحبّ عاطفة صادقة تنبع منك، لا تسقط عليك!"(ص186)

هذا التّحديد للحبّ يفجّر مسألة معقَّدة بخصوص العلاقات العاطفيّة بين الرّجل والمرأة، وما تؤول إليه الأمور في ما بعد، من ارتباط وبناء أسرة وواجبات زوجيّة وغير ذلك.

قصّة البطل مع زوجته كانت من هذا الصّنف، أي الحبّ الّذي سقط عليه: هي الّتي دبّرت الأمور، هي ابنة العائلة العريقة الغنيّة كان عليه الاقتران بها لكي ينجو من حال الفقر الّتي تخبّط بها، فابتعد بذلك عن ساريا حبّه الصّادق.

نجد في هذه الرّواية ما يبرّر الخيانة، ما يجمّلها، ما يجعلها منفذاً نحو السّعادة، نحو الحياة. لماذا؟ ألأنّ البطل رجل؟ ألأنّ الارتباط خطأ يُصحَّح بخطأ؟ هل الزّواج هو مصلحة؟ ركيزته عقد واتّفاقُ شراكة لا أكثر؟

جمّل الكاتب الخيانة، وضعها في سياق وجوديّ يبرّرها، ويجعلها حقًّا مكتسبًا لا لبس فيه. الخيانة طريق موصل إلى الحبّ. الزّوجة هنا طيفٌ مغمى عليه، كائنٌ غارقٌ في سباتٍ عميق. على الرّغم ممّا قاله البطل عن زوجته في بداية الرّواية من صفات حسنة، تبقى صورتها باهتة. لم نجد لها اسماً في كلّ الرّواية. لم يزلّ لسان طارق ولو مرّة واحدة ليكشف لنا عن اسمها. لكنّنا، في المقابل، نعرف جيّداً اسم السّكرتيرة الهائمة به من دون جدوى: فدى. كما نعرف اسم عشيقاته السّابقات: دعد ونوال وسعاد ومنى. حتّى كلب الشّحّاد في الرّواية له اسم ينادى به: إنّه ميكي. أمّا الزّوجة فلا...

لفتني هذا الامر، قد يكون مقصوداً من قِبل الكاتب لكي يشير إلى أيّ حدّ تكبر المأساة، وتفرغ الحياة من المعنى عندما يجفّ الحبّ، أو عندما يُفتقد فعلاً. في حين أنّ ساريا، موضوعَ الحبّ، والعشق، والرّغبة، تضجّ بها صفحات الرّواية. حضورها عارم، صوتها يبلبل، وجهها ينسكب في الكلمات والعبارات من أوّل الرّواية حتّى آخرها.

من هنا سؤال طارق: "ما القيم؟ أهي دينيّة فحسب؟ أليست، كذلك، إنسانيّة واجتماعيّة واقتصاديّة و...عاطفيّة؟ ما دخل، ما علاقة السّماويّات بالأرضيّات، الرّوحانيّات بالمادّيّات، النّفسانيّات بالجسديّات؟...حياتي أليست لي!؟ لمَ يتحكّم بها آخرون؟..."(ص186-187) وتنهال الأسئلة معلنةً الحرب على الماوراء، ومن ينطق باسمه. مواجهةٌ شرسة تصدّ التَّوهّم، وما يُظنّ أنّه الحقيقة.

يفتح طارق هنا واسعاً باب النّقاش حول القيم، حول واضعيها، والظّروف الّتي آلت إلى تبلورها عبر التّاريخ. تعترضنا هنا الأسئلة الفلسفيّة الّتي فجّرت النّقاشات عبر الزّمن: ما هو الخير؟ ما هو الشّرّ؟ مَن يحدّد كلاًّ منهما تحديداً يصلح لكلّ زمان ومكان؟ مَن هو المخوّل حقًّا أن يفصل بينهما؟ أين نحن اليوم منهما؟

لسنا هنا في معرض المحاضرة حول فلسفة الأخلاق، إنّنا بكلّ بساطة، نتجوّل في أروقة الرّواية الخليليّة ونسلّط الضّوء على إشكاليّاتها الفلسفيّة لا أكثر.

 

وفي الختام، يبقى الإنسان هذا الكائن التّوّاق إلى السّعادة، يدفع أغلى الأثمان للحصول عليها. يبدع، يخترع، يبدّل، يجدّد، يطوّر، يسافر، يهاجر، يهدم، يبني، يرتبط، يتحرّر،...، لا يوفّر شيئاً عساه يصل إليها.

... وتبقى ضالّته... ويبقى يبحث عنها...

 

إيلي خليل هذا الحامل مشعل البحث عن السّعادة، السّاعي الدّائم للارتقاء نحو الأسمى، نحو تجلّ متجدّد للقيم الإنسانيّة، من خلال ما يقدّمه من إنتاج أدبيّ مفعم بالقلق والأسئلة المحرجة. ها هو يفتح لنا كتاباً مشرَعاً بين عين وعين لنرى ونلمس ونتذوّق طعم الحبّ، طعم السّعادة.

يقول شيلر: "لقد استمتعت بما في العالم من سعادة: لأنّني عشت وأحببت".

هذا ما آمل أن يكون لسان حال كلّ انسان.

 

الفنار في 29 كانون الثاني 2014

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.