-ياشبـاب.. وْقــَـفو شويّ.. أنا بدي شـِيـْل مع أهل العـريس
دونما ترددٍ يتحرك جميع المتوجـِّسين لينهوا مشهدَ الحزن البالغ الذي خيَّم على الساحة قبل لحظات فتزول علامات الخيبة والوجوم التي اعترت وجوه أبناء وبنات الضيعة ورجالها ونسائها ومعهم الزوار، أهل العريس، الذي، بسبب فشله في (شَـيْل القـَيْمة)، اضطر المختار أن يتوجه إلى العروس (نجـلا) بلهجة غنائية حزينة تكتنفها الحيرة والانكسار (نجـلا !!..نحنـا بدنــا نبقى هـَونْ.. روحـي وحدك !!)
ولم يخفِ الجمعُ تعجباً كبيراً ولـَّدتـْه تلك المبادرة من قبل الشخص القادم، ولم يكن حضورُه متوقعاً، ولكن فرحتهم بالنتيجة السعيدة أبطلت العجب وأرجأت الاستغراب إلى حين، لمناقشاتهم اللاحقة بعد أن تستتِبَّ الأمور.. فالمهم أن يبقى العرسُ عرساً!.
رفـْعُ العريس للـ (قـَيـْمة) باليدين إلى أعلى الرأس استعراضاً لفتوته وقوته أمام الحضور قبيل العرس شرطٌ للاستمرار بطقوسه وفرحه لا يجوز التنازل عنه أو المساومة به.
يعود هذا التقليد إلى مئات السنين وربما الآلاف.. وكون غالبية الناس من أهل المدن أو الجيل الشاب حتى من أبناء القرى لا يعرفونه، لا يعني أنه كان محدوداً فيما مضى.. فقد اعتاد أهل القرى في بلاد الشام في مئات السنين الماضية على ربط أفراح أعراسهم بمواسم جَنـْي المحاصيل التي تأتي غالباً في فصلي الربيع والصيف وعلى تشكيلِ هذه الأفراح بطقوس جميلةٍ ذاتِ دلالات، فامتحان قدرة الفتيان على رفع أثقالٍ، قد تطالبهم الأيامُ والظروفُ بالتعامل معها أو مع أثقلَ منها، يُطمْئِن الأهلَ بأن أولادهم أصحاء أقوياء وهم رجال المستقبل..
مباريات رفع هذه الأثقال لها من الأهمية ما تحظى به المواسم والبيت والتربية بأشكالها من عناية وهي تتطلب اختياراً دقيقاً لأثقال ملائمة من حيث الشكل والوزن.. ومما يزيد من جمالية هذا الطقس أن (القـَيْمة) ليست حجراً عادياً عديمَ الفائدة بل هي إحدى مقتنيات البيت المستخدمة في تحضير الطعام (جرن الكبة أو طاحونة الحبوب - الجاروشة) أو في دكِّ تراب السطح دفعاً لتسرب مياه المطر عبر مساماته (المِدْحَلَة أو المَحِدْلة بالعامية).
كانت أعراس القرى لا تخلو من تنافس شبانها طيلة فترة ما قبل العرس وخلاله.. وتكون مصاحِبةً حلقاتِ الدبكة والتّقاول بالزجل (القول) وأشعار المفاخرة والغزل والوصف والحماس إضافة للولائم العامرة بالمآكل التي تأتي التـَبُّولة وأنواع الكِبَّة في مقدمتها وبالمشروبات الروحية المصنوعة محلياً وعلى رأسها العَرق المنزلي الفاخر الـمُثـلـَّث التقطير (مـْتـَلـَّت).
طقوس أعراس الضيعة ومواسم جني المحاصيل المرتبطة بحياة الناس والمحاطة بهالات الحب والفرح والسلام والتعاون كانت المواد الثرية التي غَرَف من جرارها الأديبان والفنانان الكبيران الأخوان عاصي ومنصور الرحباني منذ أواخر خمسينيات القرن المنصرم ليقدما لنا وللأدب الإنساني الخالد أعمالاً يفخر بها الوطن وتاريخ الفن فجاء هذا الأدب شعبياً واقعياً صادقاً محفزاً على فعل الخير وحب الوطن والإخلاص لمقدساته وصانعاً للفرح والسعادة..
من هنـا جاء العمل الرحباني العظيم (موسم العز) الذي قـُدِّم في مهرجان بعلبك عام 1960 باشتراك صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وفيلمون وهبي وإلهام الرحباني ورامز كـْلِنـْك وغيرهم من رواد المسرح الرحباني ومن إخراج صبري الشريف. يذكر بأن السيدة فيروز وضعت في هذه السنة ابنتها (ليال) التي توفيت في عام 1986.
و"موسم العز" باكورة الأعمال المسرحية الرحبانية بدأ الأخَوان العبقريان بها المنهجية الواقعية في المسرح الغنائي بديلاً عن اسكيتشاتهما الغنائية السابقة فكانت بداية موفقة جعلت جمهورَهما في البلدان العربية وعلى الأخص في بلاد الشام ينتظر جديدَهما كلَّ عام في مهرجانات بعلبك الدولية ومهرجانات الأنوار ومعرض دمشق الدولي أو حفلات كازينو لبنـان أو قصر البيكاديلي في بيروت وغيرها. وقد سبق للرحبانيـَّين أن ظهرا على المسرح الغنائي في أعمال أخرى كان أولها (مهرجان عيد الليمون) الذي أصبح بعده عيداً وطنياً.. لقد سَجلت أعمالُ الرحابنة وتاريخُهم هاجساً وشغفاً كبيرين لخلق أعيادٍ لفرح الوطن والشعب خارج الإطار الديني ومفاهيم العيد التقليدي الانعزالي!
*
محور هذا العمل الرائع والفريد من نوعه هو الحب والعمل في الضيعة اللبنانية النموذجية التي تكونت لدى أهلها عبر التاريخ تقاليدُ العمل الجماعي المنتج المرتبط بالأرض وباحتياجات الناس وبحياتهم ومشاعرهم وفنهم. وفي الحقيقة فإن ما يميز أدب الضيعة اللبناني على وجه الخصوص ارتباطه المتين بالطبيعة ومكوناتها الجميلة المتوفرة بكثرة في القرى الجبلية ذات التضاريس المتنافرة والمتنوعة والملونة والتي تتآلف عناصرها من جبال شاهقة صخرية ومكسوة بغابات الأرز والسنديان أو ببساتين الأشجار المثمرة إلى الوديان الجافة ووديان الأنهار المحاطة بالأشجار المتنوعة والسهول المزروعة والشطآن الصخرية الجميلة وضيوف كل هذه الأماكن من الطيور المتنوعة والحيوانات الأليفة إلى السمـاء الفسيحة وغيومِها تتعانق بحنان مترف معها قممُ الشوامخ من جبال لبنان الأخضر البديع.
في هذه الضيع تعلـَّم الأهالي على مـَرِّ العصور كيف يقاتلون الصخر لتمهيد الأرض وتنظيم الحقول ومواسمها وزرعها بما يفيدهم من نباتات وأشجار وتعلموا كيف يحافظون على صداقتهم الروحية والمادية مع طبيعةٍ انعكس جمالها على مفردات الناس وأدبهم وطقوسهم وعاداتهم وملامح الطـِّيـْبة والودِّ والجمال في وجوههم بأصدق التجلّيات، فكان الإنسان اللبناني الخلاق والمبدع والذي ما أن يلتقي بالجديد ويتقبـَّلـَه ويستوعبَه ويلمَّ بتفاصيله حتى تولدَ من داخله فكرة الإبداع الأجـدِّ والأفضل في أسفارٍ لا تنتهي، مداها الزمن كلـُّه ومحطاتـُها عتباتٌ تتلألأ عزاً وشموخاً وكبرياء في كل صفحات التاريخ الإنساني.
فلقد عرف لبنان في مراحل باكرة جداً صناعة الحرير من شرانق دود القز والتي خرجت أسرارُها بأعجوبة من الصين، بلدِ الحرير الأول في التاريخ والذي تكتـَّم على هذه الأسرار على مدى قرون طويلة قبل أن تتكشَّفَ حقيقة هذا الخيط السحري لشعوب الشرق الأخرى وتصلَ بعدها إلى سوريا القديمة، إذ أظهر نسَّاجوها في ذاك الزمن مهارة فائقة في تربية دود القز وصناعة الحرير وغزلـه وتلوينه، وغطـَّت بساتينَ القرى اللبنانية والسورية أشجارُ التوت بأوراقها الخضراء النـَّضرة، غذاءِ دودة القز، صانعةِ خيط الحرير الرائع.
ومن سوريا وساحلها النشيط انتشرت تربية القزّ وصناعة الحرير لتعمَّ البلدان الأوروبية.
في ظل النظام الإقطاعي المسيطر على الأراضي والصناعات المرتبطة بالمنتوجات الزراعية كانت صناعة الحرير حكراً على كبار الملاك ورجال السياسة الذين تحكـَّموا بالفلاحين ومـُربِّي القز وكرَّسوا هيمنتهم الاقتصادية والاجتماعية واستغلالـَهم للعاملين في هذه الصناعة الذين بقوا تحت رحمة المتحكمين بصناعة خيوط الحرير وتجارتها وتجارة المنسوجات الحريرية. إلا أن هذا الواقع المرير لم يلغِ استمتاع الفلاحين بعملهم وإنتاجهم وما يحيط بـ (قطف الحرير) و (موسم العز) من قدسيةٍ ومن طقوسٍ محبّبة ارتبطت بها حالة الرخاء والبحبوحة ورافقتها مواسم الفرح والأعراس.
كنا في الطفولة نستمتع إلى حد كبير ونحن نراقب نموَّ شرانق الحرير المنثورة على أوراق التوت النضرة فوق أطباق مصنوعة من شرائح القصب اليابس أو قشّ الحنطة أو خليط التبن مع روث البقر، محاطةٍ بأغصان (الشـِّيح) لتأمين الدفء اللازم لتسلق وعمل الشرنقة الذي أثار إعجابنا..
يرقات القز تلتهم ورق التوت بشراهة وتفرز فيه لعابَها السحري الذي يتحول لدى ملامسته الهواء إلى خيط يلتفّ حول اليرقة مشكلاً الشرنقة البيضاء ذات الشكل البلحي. انهماك اليرقة بأكل أوراق التوت وإنتاج الخيط يُرهقـُها، لذا فهي تمر بفترات هدوء واستراحة يسمونها (الصَّوم).. ومن فمها يخرج عند إنتاجها للخيط 2.5 ميليمتراً في الثانية دون توقف إلى أن ينتهي عمرُها القصير، وتعطي الشرنقة خيطاً يصل طوله إلى مئات الأمتار.
كنا، ونحن أطفال، نراقب جمع الشرانق في باحات بيوت الضيعة وتجميعها وتسخينها لقتل الفراشات داخل الشرانق وتحضيرها للبيع لتجار ينقلونها إلى دمشق أو بيروت إعداداً لتصديرها إلى أوروبا. كنا نتصور أن ربح هذه الشرانق (الفيالج) لا بد أن يكون كبيراً بالمقارنة مع ما يتطلبه الحصول عليها من جهد ولكن ظنَّـنا خابَ بعد أن أجابتنا مربِّيات القز بأن سعر البيوض المستوردة غالباً من اليابان وكلفة الشرانق النهائية ليست قليلة وأن الحصول على رطل واحد من الحرير يحتاج إلى ما لا يقل عن عشرين ألفاً منها والرطل بالكاد يكفي لصنع عشرة فساتين فقط أو مائة شال نسائي متوسط الطول.
نساء القرية ورجالها كانوا يعتبرون موسم القز مَلِكَ المواسم ويربطونه بالعز والبحبوحة.. البيوت التي اضطرها العجز المادي للاستدانة أيام فصل الشتاء من أصحاب الدكاكين أو المعماريين أو المرابين كان أربابها يسدُّون ديونـَهم من هذه المواسم فتـُفرَجُ كـُرْبـَتـُهم ويدبُّ الفرح في نفوسهم.. ومَن دفعت به الضائقة إلى تأجيل عرسِ مَن بلغَ سنَّ الزواج مِن أبنائه تحقـَّقَ أملـُه مع موسم القز - موسم العز.
كانت أشجار التوت ذهباً لا تقل قيمته عن القز - الذهب الأبيض - نفسه. بساتين التوت الكثيفة جنائنُ لا تقل جمالاً عن بساتين الكرز والمشمش وبيارات الليمون، سُوِّرتْ للحماية وعُشِّبتْ أرضُها ونـُظـِّفتْ أغصانـُها ومُشِقتْ أوراقـُها الخضراء بعناية لتقدَّم إلى القزّ المدلّل، صاحبِ الفضل على الكثيرين.. من ملوك وسلاطين تفاخروا بأرديتهم إلى التجَّار والصنَّاع وقد ازداد ثراؤهم باحتكار أنواع منسوجاته، حتى الفلاحين والفنانين والنسَّاجين وقد وجدوا فيه مورداً للعيش لا يعلو عليه مورد.. ولا ننسى دلعَ الفتيات والنساء والدُّمقــْـلسُ الفاخرُ يتراقص على إيقاعات أجسادهن الرشيقة ساتراً حيناً وكاشفاً أحياناً مواطنَ الجمال والفتنة فتتراقص قلوبُ الفتيان المرهفة تجاوباً مع عيونهم وقد سَحَرها جمالُ الأجساد البضَّة وزادتـْها سِحْراً ألوان الحرير الباهية.
العمل في المراحل الأولى للموسم الذي يستمر لمدة شهرين فقط، يقتصر غالباً على النساء اللاتي تبدأ مهمتـُهن بنثر البيوض وتأمين الجو المعتدلِ الحرارة الملائمِ للتفقيس وجلبِ أوراق التوت الطرية فقط، فدودُ القزّ، بخلاف الجراد، لا يأكل سوى الأخضرَ الطـَّري، وكذلك باستمرار وحماية الديدان التي سرعان ما يبدأ تكوُّنُها خالقاً مساحات دبيبٍ وحيوية يزداد سحرُها عندما يبدأ نسْج الشرانق البيضاء على خلفيات الورق الأخضر.. فإذا بنا أمام لوحةٍ تزداد الضيعة بها جمالاً ووجوهُ أهلها بهجة وتفاؤلا.
أما في مراحله الأخيرة فيتعاون شُبـَّانُ الضيعة وفتياتها، رجالها ونساؤها في جمع الشرانق وقتل الفراشات داخلها بالتسخين بالماء أو بالهواء الساخن أو تحت أشعة الشمس منعاً لهذه الفراشات من ثـُقـْب الشرنقة وإتلاف الخيط الحريري. ثم يقومون بتكديس الفيالج وتصنيفها وترتيبها وتجهيزها للبيع.. طقوسٌ رائعة في العمل والتعاون وتبادل التمنيات الطيبة ترافِقـُها مظاهرُ الفرح من حلقات الدبكة والغناء والضيافة والمبارزات إلى إشهار علاقات الحب أو إعلان الخطوبة أو تحديد مواعيد الأعراس..
هذه الضيعة بطبيعتها الساحرة وأهلها المتحابِّين عشاقِ العمل والغناء والرقص وطقوس قطف الحرير كانت المسرح الذي ألـْهم الرحابنة لإخراج رائعتهم مزاميرَ للعمل والحب وهم في بداية مرحلة تكوين الشخصية الفنية اللبنانية في الأدب الواقعي فجاءت المسرحية نموذجاً مميزاً لهذه الشخصية سيستمر الرحابنة على منواله طيلة الحقبة اللاحقة.
*
تتكون المسرحية من فصلين، بخلاف الأعمال السابقة المؤلفة غالباً من ثلاثة فصول، وقد جاءت بقالب الدراما التقليدية (بداية استعراضية – عقدة – حل ونهاية إيجابية سعيدة) وظـَّفها الأخوان رحباني بنجاح كبير في محورين متلاصقين: العمل والحب.
فالضيعة هي مجتمع أبنائها وأهاليها وساحة نشاطات أعمالهم وهمومها وملعب الفتوة والفرح واللهو وحلبة مختلف أشكال المنافسة السلمية وهي مدرسة الحب ورواياته وأشعاره وأغانيه وملتقى العشاق ومَصبُّ مشاعرِهم.
وفي هذه الضيعة تتمثـل قيمُ المجتمع اللبناني في الحياة العملية المنتجة وفي صناعة الفرح والسلم وتكريس حب الوطن والإخلاص له والتفاني من أجل عزته وتقدمه.
بطلة المسرحية (نجلا) أحلى فتيات الضيعة الحالمات بالحب في مواسم الفرح.. صاحبة القوام الجميل والوجه الحسن والصوت الرائع الذي طرُبَ به أهلُ القرية في لقاءاتهم وأعيادهم واهتزَّت بسماعه مشاعرُ الشبَّان الذين حلموا بصاحبته حبيبةً وشريكةً في حياتهم. لقد كان اختيار الفنانة (صباح) لدور نجلا موفقاً إلى حد كبير نظراً لما تمتعت به من مهارات في التمثيل والغناء وهي في مجدها الفني المتصاعد ولها من العمل السينمائي والمسرحي في مصر ولبنان رصيدُ أصحاب العروش.
كما أن اختيار وديع الصافي لدور (شاهين) ونصري شمس الدين لدور (المختار) زاد من غنى ونجاح وشمولية هذا العمل المسرحي المتميز والذي حصد نتائجَ باهرة في حينه بالرغم من أن النسيان طواه فيما بعد فغابت المسرحية حواراً واقتصر تداولُ جمهور صباح ووديع ونصري لأغانيها مسلوخةً عنها ولم يتناولـْها أيٌّ من الكتاب أو النقاد بالدراسة والتحليل. لقد ظـُلم هذا العمل الإبداعي الرائع حتى هذا اليوم.. فتعالوا نعشْ جمالـَه وقيمته بعد خمسةٍ وأربعين عاماً من النسيان..
ساحة الضيعة تنتظر بعد ظهيرة كل يوم ربيعي وصيفي فتيانـَها وفتياتِها وزوارَهم من الضيع القريبة يتقاطرون لتبادل الأحاديث والاستفسارات وعبارات المجاملة والاطمئنان عن الأهالي والمواسم ويتسايرون ويتمشون في دروبها المطلة على الوديان الجميلة او المتوجهة إلى الينابيع يستمتعون بالمناظر الخلابة ويستنشقون هواءها العليل. فإذا جلسوا تلونت حلقاتـُهم بمختلف أشكال الفرح والطرب والمفاخرة والتنافس.
تضعُنا المسرحية في مشهدها الأول في ساحة الضيعة التي التقى فيها لإحياء العيد فتيانٌ وفتياتٌ منها مع ضيوفهم من الضيعة المجاورة. لحن الافتتاح تؤديه مجموعة من الآلات الوترية والنفخية والإيقاعية تصاحبها أغنية خفيفة بطريقة الأنشودة تقدم لنا الساحة والعيد وفتيانَ الضيعة وفتياتِها:
بهذه الافتتاحية يصف المشهد الأول الضيعة وجمالها والعيد والصبايا بلفتاتهن التي تحمل من حكايا العشق ما تـَسعد به القلوب وتحلو به السهرات. وقد جاء اللحن بقالب المارش الخفيف الهادىء المتموّج كنسائم الربيع ليتمكن الجمع من الوصول إلى الساحة على نغمته العذبة.
ننتقل بعد نهاية الأغنية التي يشترك الجميع في أدائها إلى صورة انقسام الحضور بمرونة إلى فريقين أحدهما يمثل فتيانَ وفتياتِ الضيعة ومعهم المختار (نصري شمس الدين) وسبْع (فيلمون وهبي) ومخُّول (منصور الرحباني) بينما يمثل الآخر ضيوفـَهم القادمين من الضيعة المجاورة وعلى رأسهم عبدو (وليم حسواني)، وشاهين (وديع الصافي). يبدأ الحوار التنافسي الجميل بين الفريقين المتواجهين أمام (القـَيْمة) تمْتحنُ قـُدُراتِ الفتيان العضلية:
فريق الضيعة:هايدي القــَيْمــةْ
الفريق الضيف:هايدي القــَيْمةْ؟
فريق الضيعة:فـِيـْـكن لـَـيـْـهـا؟
الفريق الضيف:فينا عـْـلـَـيـْـهـــا
فريق الضيعة:ونـِحـْنـا فـينـــــا
الفريق الضيف:قـِـيـْـــــــــمـُـــــوهــــا
فريق الضيعة:مـِنـْـقـِـيـْمـــــــــا
الفريق الضيف:يــــــــــــــــا الله
فريق الضيعة:يا الله... إي مـَخـُّـول هي مخـُّول هي مخـُّول..
يا الله.. هالله هالله هـــــــــــاي!!
الفريق الضيف:قـِــيــمـُــــوهـــا
ينجح مخول فيدعو فريق الضيعة عبدو من الفريق الضيف ليُقيمَها بدوره (قرب يا عبدو قـِيمــــــا، يا الله يا عبدو قـِيمــــــا) ويفاجىء الجميع بتدخله شخصٌ وصل قبل قليل حاملاً بارودة صيد وهو مرْهج القلاعي: (ما فيك تـْـقيما يا عبــدو)فيجيب عبدو بنبرة التـَّحدِّي: (تـْـعا إنتَ قـِيما يا مرْهج) ما يذهل الجميع: (مرْهج القلاعي!.. مرهج القلاعي؟)
يقيم مرهج (القـَـيـْمـَة) مستعرضاً قوته ومتباهياً.. ومتحدياً عبدو الذي يفشل في محاولته (شـُـــو يا عبدو؟) ويبرر ذلك: (تـْقيلـِـةْ وِمْساقـِبْ سَهـْران) مما يثير هزء وتشفـِّي فريق الضيعة في حين يتباهى مخول بانتصاره بينما يعترف الفريق الضيف بالهزيمة (بالقـَيـْمات غـْلـَبـْتــونا.. تـْعَو تـَ نـْجَرِّبْ عَ الـدَّبـْكة)
جماعة المختار:عَ الدَّبكة..
جماعة شاهين:يا الله.. يا الله..
يبدأ فريق الضيعة الدبكة مع أغنية (هـْوَيـْدا هـْوَيـْدا لـَكْ) يؤديها المختار وشاهين.. بينما يراقب الفريقُ الضيف بتعالٍ واستهزاء!
*
الدبكة في القرى السورية واللبنانية فنٌ شعبي تراثي صاحَبَ أفراحَ الناس كلـَّها منذ أقدم مراحل التاريخ فعبَّروا به عن سعادتهم في مناسبات الحصاد وجني المحاصيل ومواسم الحرير وسَلـْقِ الحنطة وعصر العنب لصناعة العرق والنبيذ إضافة إلى مناسباتهم الدينية والوطنية.. أما أعراسهم فلا تكتمل دون استمرار حلقاتها لأيام لا تقلُّ عن الثلاثة وتصل إلى السبعة يتكاتف فيها الصبايا والشباب مُظـْهرين براعةً في الحركات المتواترة على إيقاع الطـَّبل وأنغام الزَّمْر والمِجْوز وبمصاحبة مغنٍ أو مغنية أو فرقة فتتراقص كلمات أغانيهم الجميلة مع (الدبـِّيكة) في انسجام بديع يـُحْيي الفرحَ في القلوب والغِبطة في النفوس ويبثُّ الحيوية في الأجساد.. حركات الدبكة فنية تقوم على التوافق الهارموني وتتطلب مهارة ودقة في التجاوب مع الإيقاع وكذلك مع اختيارات قائد الحلقة الذي يأخذ مكانه في أول السلسلة ويكون طرفها الثاني حراً وتتلون حركاته صعوداً ونزولاً وانحناءً ثم امتداداً بفتح الذراعين تعبيراً عن الرغبة في التحليق والامتداد لنشر الفرح والسعادة إلى أوسع مدىً. وللدبكة وفنونِها مصطلحاتٌ خاصة تميزها عن فنون الرقص الأخرى.
التنافس في القدرة على الدبكة على الأنغام الصعبة والإيقاعات السريعة تقليدٌ اعتادت عليه شِلـَـلُ الشـَّبيبة في القرى وحصل بعضهم بسببها على ألقابٍ مثل (فلان دَبـِّـيك عَ الأول). للرحبانييَّن فضلٌ كبير في إحياء هذا الفن الرائع وتطويره فقد أسّسا الفرقة الشعبية اللبنانية التي كان إحياء التراث مهمتها الرئيسية وقدّما في جميع أعمالهما المسرحية اللاحقة عشرات الدبكات على أغاني فيروز ووديع ونصري وصباح وغيرهم وانتظر جمهور الرحابنة دوماً جديدَهم في هذا المجال وكانت فقرات الدبكة، وهي جزء من مسرحيتهم، محطاتٍ للراحة والتنفس خاصة في أعمالهم الدرامية ذاتِ المواقف الحزينة أو المعقدة دون أن يقلّل ذلك من أهمية اعتماد الدبكة وسيلة تعبيرية استـُخْدمت ببراعة في نقل المعنى الدرامي.
*
يقدم مخول وسبع والمختار وأصدقاؤهم من أهل الضيعة دبكة (هـْوَيـْدا هـْوَيـْدا لـَكْ يا هـْوَيـْدا هـْوَيـْدا لي ناركْ وَلا جـَنـِّـةْ هـَلي) بجدية وبما تتطلبه الدبكة من حيوية.. يؤدي الأغنية شاهين الذي يمثل الطرف المتحدِّي، لذا فقد حرص على أن تكون أغنيتـُه سريعةَ الإيقاع كيما يصعب على فريق المختار التمشي مع جُمَلِها المتلاحقة كتيارات الرياح الغربية فتـقـُلُّ تمايلاتـُهم وتخفُّ دقـَّاتُ أرجلِهم التي تحتاج إلى زمن يسرقه الإيقاع السريع في أبيات شاهين:
يا حـِـلـْـوةِ اللـِّـي عَ الـْجـَبــلْضَـلـِّي ضْحكـي وتـْدلــَّـــلـي
المجموع:هـْوَيـْــدا هـْوَيـْــدا لكْ..
تليها اللازمة السريعة وخاتمة أظهرت ضعفاً في المهارة عند المختار (الكهل) وجماعته.
لم يُعجـَب فريق شاهين وعبدو بدبكة مخول وسبع والمختار والصبايا التي بدت باهتة عـَجـِزَ مؤدوها عن متابعة وتلبية الإيقاع السريع في أغنية شاهين. صرخ عبدو ورفاقه منتقدين بتحدٍ (شو ها الدبكة ؟؟شو ها الدبكة !!.. زِخـُّـو زِخـُّـــــو)ويوافق على هذه الملاحظة مرهج محْرِجاً المختارَ ورفاقه (لازِم بالدَّبـْكـات تـْزِخـُّو) فيستعرض شاهين وعبدو وجماعتهما مهارتهم(نحنا ؟! يا الله يا الله..) في دبكة حماسية على نغمات مجْوزالقصب بدون غناء وبمزيد من الحركة والتمايل والـْ (زَخّ) وخبـْط الأرجل.. فيحيـِّيهم فريق الضيعة معترفاً لهم بالنصر (بالدبكة إنـْتو غـْلـَبـْتـُونـا) فيبتهج شاهين وجماعته (هـــــــــاي...) ويعزُّ على سبع الانكسار والهزيمة
سبع: شوفو يا إخــوان
غـْلبْـنا بالـْقـَيـْمـِة غـْلبْتو بالدبـْكـة
تـْعـَو تـَ نـْجّــرِّبْ بالقــَول
يا إنـْتو بـْتِبـْكـُو.. يا.. هـه هـه.. نحنا مـْنـِبـْكي
الفريق الضيف:مِـنـْجرِّب بالقـــَـــولْ..
الذي سيفتتح القول هنا هو الخاسر في جولة الدبكة.. أي فريق الضيعة الذي يمثـِّـله المختار (نصري شمس الدين).
*
التحاور بالصيغ الشعرية فنٌ قديم رافق أفراح الناس ومناسباتِهم الاحتفالية بمختلف أنواعها فنال حبَّ المستمعين وإصغاءهم إليه وتفاعلهم معه. وقد تطور الشعر الشعبي، الذي بقي حياً في حياة السوريين عبر العصور، بفضل مُحْدثين متبنـِّين للتراث الشعري والأدب الشعبي وكان الرحابنة بعضُ هؤلاء، فقد أدخلوا في أعمالهم الدرامية عناصر هامة وشيِّقة من مخزونات الشعوب التراثية بعد تهذيبها وتلوينها واستخدام القوالب الحديثة والتصرف أيضاً بالكلمات. والحقيقة أن ذاكرةَ الشعوب في الوطن السوري الكبير كانت أمينة لهذا التراث عبر الأجيال فبقيت ألوانـُه عامة والشعريةُ منه على وجه الخصوص الزادَ السخيَّ للتعبير بصدق وقوة وجمالية عن مشاعر الناس وأحلامهم وقناعاتهم وعادادتهم الحلوة.. عن مواقفهم ورؤاهم وتطلعاتهم وعن حبهم للوطن والإخلاص له والاستعداد للتضحية من أجله..
وللزجل بأنواعه وطقوسه في جبال لبنان وسوريا رونقٌ وسحرٌ وجاذبية استقطبت ملايين المُعجَبين. أما حلباتـُه فقد شهدتْ لقاءاتِ تنافسٍ تاريخيةٍ سُجـِّلتْ تفاصيلـُها حكاياتٍ تلذّذ الرُّواة باستعراضها وتناولِ حواراتها بالتحليل والتفسير مما زاد من روعة الشعر وقوته. وللزجلِ ملوكٌ تربَّعوا عروشَه عن جدارة واستحقاق ولم يـُقـلـِّـل هذا من سطوع عشراتِ الأسماء من شعراء الزجل الذين يحْيونَ حفلاتِه وملتقياتِه في أماكن مختلفة وأمام حشود الجماهير العاشقة لهذا الفن.
وحصَّةُ الزَّجل في الأدب الرحباني كبيرة ومتنوعة في الشكل والجوهر وقد تلونت بها أعمالُهم الدرامية قبل فيروز ومعها وبعدها. لقد جادت قريحة عاصي ومنصور فقدَّمت تـُحَفاً من الحوارات الزجلية ومواويل العتابا والميجانا والقرَّادي والمخمَّس وغيرها صبغت الدراما الرحبانية بالصبغة الشعبية التلقائية وبالصدق والشاعرية.
معظم حوارات الزجل تتركز على التفاخر بالقوة والتميز والتفوق والجمال والثراء والقدرة على الإبداع وترافق هذا التفاخرَ مقارنةٌ مع الطرف الآخر لا تخلو من السخرية والاستهتار والتحدّي ووعد الجمهور بكسر الخصم وضمان هزيمته.. ويزيد من جمال اللقاء حميَّة أعضاء كلٍ من الفريقين وحماسهم وسعيهم للإبقاء على حالة القوة والحضور وسرعة البديهة لدى قائد الفريق عن طريق إيحاءاتهم وترديدهم وإيقاعات دفوفهم. ويتطور الحوار وتزداد سخونته مع تمسّك كلٍّ من الفريقين بطروحاته ووجهة نظره ولكن لجنة التحكيم وجمهور الحاضرين، الذي يتابع بترقب بالغ وهو منقسم تبعاً للولاء لأحدهما، ينتظرون النهاية التي يحدّدها عجزُ فريق عن الرد على آخر ما يقوله الفريق الآخر الذي (يقفل عليه) فتـُعْلِنُ اللجنة ربْحَه وانتصاره.
*
يبدأ المختار التـَّحدي بالتفاخر بنفسه وبجماعته بأبيات من الزجل:
المختار:أوف أوف..
قالو لي في قـُوَّالِــةْ صرتْ مْقـلـَّـقْ وَينو شيخ القـُوَّالِــةْيِـِحْضرْ هـَلـَّـقْ
مجموعة المختار:قالو لي في قوَّالِةْ..
المختار:وَينـو شـَيـْخ القــُوَّالِــةْ يـْطلّْ قـْبالينحنا مِن مَطـْرحْ عالي فـَوق مْعلــَّقْ
هنا يبدو التردد والتلكؤ على وجه المختار الذي لم يُمهلـْه فريق شاهين(جاوبْ.. جاوبْ.. ما فيكن مين يجاوب؟.. نحنا ضيعةْأرجلْ ضيعة.. جاوبْ.. جاوبْ..).
يخيِّمُ الوجوم والقلق على أهل الضيعة ويتوجه مخول وسبع والآخرون مغادرين الساحة خائبين وعاتبين على المختار الذي لم يتوِّج انتصارَهم، المتمثـلَ برفـْع مخول للقـَيمة في حين فشل عبدو بذلك، بقيادة الدبكة ولا حتى بالقول.. لقد عجز المختار على الرد على آخر ما قاله شاهين الذي لم تمنعْه طيبتـُه من التفاخر بقوته وحسن صوته وأشعاره الجميلة ودبكة مجموعته الناجحة.. فالردّ على تفاخر المختار بمصاحبة أهل ضيعته للعز وعشقهم له جاء سهلاً على لسان شاهين: (العزُّ الذي تتحدثون أنتم عنه بتفاخر، قلبُو مْعلّقٌ فينا!!).. وهل بإمكان شاهين الرد على مثل هذا القول؟!
مأزق أهل الضيعة كاد أن يودي بهم إلى الانكسار والرضوخ لولا أن حلـْوتـَها وصاحبةَ الصوت القوي نجلا تقدمت مُنـْقـِذةً فتيانـَها، تردُّهمْ إلى الساحة وتعيد إليهم زُهوَّهم بضيعتهم.
يتوقف شاهين وتبتهج المجموعة وتصرخ بزهوِّ المنتصر وقد عادت إلى الوجوه الفرحة وملأت الساحة أهازيجُ الرِّضى من كلا الطرفين.. فقد أحيا نجلا وشاهين مشاعرَ الحب والصداقة الحلوة بين أهل الضيعة وضيوفهم وكرَّسا بروعةِ ما قالاه الروحَ الرياضية عند المتنافسين:
بـَدْنا نـِسـْهـَر للصـِّبـْحـيِّـة مع شـــــــــــــاهيـن ونجـــلا
مع شــــاهيـن ونجــلا.. مـع شاهيــن ونجلا
وإذ لا بد من الاعتراف لنجلا ولشبيبة الضيعة بقدرتهم وبراعتهم، وتجاوباً مع رغبة الفريقين بقضاء سهرية ممتعة مع النجمين وصوتيهما العذب يبدأ شاهين، الذي أذهلـَه صوتُ نجلا وقوتـُها، مـوَّالَه بلحنٍ هادىء وبكلمات الغزل الرقيق معرباً عن إعجابه بنجلا ومحبته:
شاهين:/صَوْتـِكْ حِلو والقلـْب ما بْينـْسى يـا غـِرّة الـ عَ الـلــَّـيل مـِضْويـِّـة/ (2)
/ يا نجلا يا شـِلـْح الزَّنـْبـَقيا شـَلال زْهـُور وشـَلــَّـق
يا وردة مـَزْروعة بْـفـَيـِّــةهــــاتي غـِنـِّيـِّــة غـِنـِّيـِّــة / (2)
وتشرع نجلا، مزهوَّةً بالنصر أمام شاهين وبالبرهان على كفاءة الضيعة، بالغناء وقد تألـَّق وجهُها دلَعاً بعد سماع أبيات الغزل من شاهين الذي تحبه من كل قلبها وتغني له وليس لغيره):
نجلا:تـْنـَهَّـدْ يا قـَلـْبي ودقّ عَ بــاب الحـِلـُو
هذه الأغنية الرائعة من تلحين فيلمون وهبي، تؤديها نجلا صاحبة الصوت العذب والدلع الأنثوي تتجاوب معها جوقة الفتيان والفتيات مما يزيد شاهين حباً فيغني مُغرَماً بنجلا بحيويةٍ يهبُّ معها الشباب والصبايا إلى الدبكة إذ قدمت لهم الفرقة الموسيقية مدخلاً بديلاً عن الموال، الذي أجّله شاهين لنهاية الأغنية:
شاهين:يا إم الضَّـفـايـر حـِلـْوِة والجـِبـيــن العـالـي
مُضْوي جـَمالك مُضْوي مْشـَعْـشع بالليالي
الكورس يردّد وشاهين يعيد الكوبلة، ثمَّ:
عْيـــونكْ واللـَّون الأخضر وِقـْـلـُوب الـْـتـِتــْحـَسـَّـر
يا خـَصْرِ بـْمـَنــْتـور مـْزنـَّر شـُو بـْتِخـْطـُر عَ بالي
اختيار كلمات الغزل والإعجاب الكبير بنجلا في هذه الأغنية اللطيفة يعكس شاعرية مبْكرة عند الرحبانييَّن أساسُها التصاقهما بالطبيعة الجبلية الخلابة من جهة والصدق العميق في مشاعر الحب من جهة ثانية والثقافة الواسعة في الشعر والموسيقا والأدب من جهة ثالثة. هذه الأرضية خلقت عند الرحابنة إمكانياتٍ هائلة للإبداع الفني والأدبي وقدرة خارقة على تكديس الصور أمامنا بسخاءٍ لم يعرفه أدبٌ غنائي آخر على الإطلاق، قال عاصي:
"إن الرائعَ هو ما كان منسجماً ومتناسقـاً مع الطبيعة والحياة".
تختم الأغنية بلحن يتهادى مع انخفاض متدرج في الصوت يصاحب المغادرة وتنتهي سهرة العيد فيودع الأصحاب بعضهم البعض وتودع الضيعة ضيوفـَها ويغادر شاهين وقلبُه ما يزال يرفرف لنجلا.. (شِلـْحِ الزنبق) ذات العينين الساحرتين والصوت الحلو والضفائر المتدلية فوق الكتفين والجبين العالي، بينما يتابع أهلُ الضيعة أحاديثـَهم عن السهرة والعيد وأغانيه وصوت نجلا وصوت شاهين وما خلقاه من فرح وسعادة..
*
ساحة الضيعة في الأدب الرحباني جزءٌ لا يتجزأ من عناصر العمل الدرامي وقد استخدمها عاصي ومنصور أفضلَ استخدام منطلقـَين من مكانتها في حياة أهل الضيعة. فعلى مر العصور كانت الساحة، وهي الفسحة الكبيرة التي تقع في قلبها ومنها تتفرع الطرق إلى الحارات في أطرافها رابطة إيّاها بالضِّيع المجاورة، مُلـْتقى أهلِها في جلسات الأنس المسائية وأيام الأعياد والأعراس والمناسبات المختلفة وحتى الحزينة منها. لذا أصبحت الساحة لصيقةَ حياة الناس وشاهدَ تحركاتهم ونشاطاتهم ومخزن الحكايا والذكريات. عينُ الماء والطريق إليها هما الآخران عنصران جماليان على مستويي الزمان والمكان وظـَّفهما الرحبانيان بنجاح وجمالية ممتعة في نقل معلومات معينة أو أخبار أو في نقلنا من حالة إلى أخرى أو من زمن لآخر.
*
بانتهاء سهرة العيد، التي لم يعرِّف السيناريو مناسبتـَها كي يجعلنا نرى الساحة دائمة الزهوّ وأهل الضيعة في حالات فرح وبهجة دائمة، تنقلنا الموسيقا الهادئة إلى اليوم التالي وقد انبلج الصباح ورمتِ الشمس بأشعتها الذهبية على الحقول والبساتين بأشجارها الباسقة وأوراقها الساحرةِ النضارة والاخضرار وبراعمها التي لم تتفتح بعد. وأوَّلُ ما تتنفس الضيعة به في صباحها الباكر رحلةُ الصبايا إلى العين لملء جرارِهن من مياهها الرقراقة الطيبة وهن تتحدثن عن سهرة العيد وتتذكرن الفرح والسعادة:
حديث شاعري:
فتاة:شـُو كان مْبارح هالعيد.. شـُو زينة وْشـْو عـْناقيد..
وكما كانت الحال في الساحة التي استعرض المخرج فيها عبر ألوان الفرح وبهجة العيد شخصياته الرئيسية التي ستتفاعل مع الحدث الدرامي في المشاهد اللاحقة، قدمت لنا العينُ ما عندَها من أسرار العُشْق وحكاياه.
إلى العين، حيث تقف الصبايا وتتحادثن لبعض الزمن قبل العودة، يتقدم (مرْهج القلاعي) الذي تتحاشى البناتُ الاحتكاكَ به والتحادثَ معه.. فمرهج صُعلوكٌ منبوذٌ وليس له في الضيعة بيت ولا أرض ولا أقارب أو أصدقاء.. لقد اختار لنفسه الصعلكة والتسكُّع في أحراج الضيعة أسلوباً لحياته عزَلَه عن أهلها.. ولكنه ما فتىء يقترب بين الحين والآخر مُلاحقاً بنظراته الفتيات الجميلات وحسرةٌ تملأ قلبه الكسير فيدور الحوار المنغـَّم التالي:
مرهج:شـُو قـِلـْتـُــو؟
الفتاتان:مين ؟!.. مرهج القلاعي!!.. شو بدك يا مرهج؟
يقترب معترضاً على ما سمعه من حديث لم يـَرُق له على ما يبدو:
مرهج:قـِلـْتـو شاهين!!
فتاة:شـُو ما سْمعت تـِخـْمين؟ومـْبارح بهالعيد تـلا َّ الدِّني تـْلاحين!
مرهج:لأ.. نجلا صوتا أحلى
الفتاة:نجلا وشاهين تــْـنـَيـنـْهـُن حِلـْويــــن
كــانو مـْبــارح هـَـيــْـكْ مـِلـْهـيـِّيـــن
زَرْعـُو الأرض ياسْميـن وحْساسيـن
يستشيط مرهج غضباً.. فهو لا يريد أن يسمع اسم شاهين إلى جانب اسم نجلا.. فيخبط بعصاه الغليظة أرضَ العين معبّراً عن هذا الغضب وتحتجّ إحدى الفتيات:
بعد مشهد العين نستعرض مشاهدَ من حياة الناس وأشغالِهم اليومية في المنازل والأرض والطاحونة وعلى الطريق.. تعبِّر عنها الفرقة التي تردد بالتناوب مع (نصري) وهي تؤدي الدبكة الجماعية بحيوية تتلاءم وموضوع الأغنية ومكانها وما يتطلبه من حيوية تظهرها حركات الخِفـَّةِ المتناسقة، وهي من ألحان فيلمون وهبي:
نصْري:/ عَمْ تـُغـْزُل عَمْ تـُغـْزُل تحت التـِّينـِةعـَلى جَرْش البـِرْغـُـل وِكْلاقيني
الأغنية في الأدب الرحباني متميزة بما تذخر به من غِنىً في كافة عناصرها – اللحن والكلمات والأداء.. يستمتع من يستمع إليها مستقلة عن العمل المسرحي الذي أُلفتْ من أجله ولكن الاستمتاع يكون أكبرَ وأعمقَ عند الاستماع إلى نفس الأغاني من خلال العمل. وفي كل الأحوال لم يترك الرحبانيان فرصة إلا واستخدماها ببراعة لتحميل أغانيهما أحلى المعاني وأقوى التعابير وأجمل الصور عن حياة الناس وعلاقات المحبة والتعاون بينهم وعن قدسية الوطن وترابه وجماله وخيره الدافق وعن حب العمل والاستمتاع به وعن الفرح والمسرة. ها هو المختار يغنـِّي للطاحونة وخيرِها المشرور وحيوية الرجال المنهمكين بنقل الحنطة والطحين والبرغل فيما تتغندر الفتيات وهنَّ تغزلـْن الصوف تحت فيء شجرة التين، في صور لا تخلو من الإشارة إلى أيام الصيف لكي تجعلنا هذه الأغنية نشعر بالزمن وقد مرَّ بنا من العيد الأول باتجاه الشتاء فالعيد الثاني!
وتمر الأيام..
نجلا كباقي صبايا الضيعة تتلذذ مشوارَ العين يومياً مع أولى خيوط الضوء تستنشق نسائم الصباح الباردة الملونة بإيقاعات حركات الناس إلى حقولهم وأعمالهم وتـُمتـِّع ناظرَيها بلوحات الطبيعة الخلابة وألوانها الساحرة وتآلفاتِها البديعة فتتحرك عندها مشاعرُ الغبطة والسعادة وتتذكر الحبيب الذي حنَّ له قلبُها وقد مرّ زمنٌ دون أن يسعدَ بلقائه هذا القلب الفتيُّ العاشق فتنتطلق بأغنية فردية هادئة ولحن حزين (اللحن لفيلمون وهبي)، مخاطبة (طير الزعرورة) تطلب منه السفر إلى حبيبها وتسليمه صورتها والتحدث إليه:
نجـلا:/ يا طــَيــْر الـزَّعـْرورة وَدِّيـْـــــلـُـــو هـالصـُّــــــورة
وقـِلـُّـو بالقفص عَ العين عـِلـْــقـــانـِــــــة شــَحـْـرورة
نجلا التي تختلف عندها، كما هي الحال عند الآخرين، أيام الفرح والعيد عن الأيام الأخرى التي ينشغل فيها الرجال بأعمالهم وتدبيراتهم المتعلقة بشؤون الأرض والبناء والتجارة والأعمال، لم تكن تتوقع أن ترى شاهين كثيراً.. فهو من ضيعة ثانية ويتردد إليهم في مناسبات منها أعياد القِطاف ومواسم القز وما شابه ذلك. مع أنها كانت تتمنى أن ترى شاهين الذي رأت فيه الرجولة التي أُغرمتْ بها والشاعرية التي تتوق إلى مرافقتها والحب الكبير الذي تحلم به. في العيد الماضي، عيد الضيعة المحبَّب إلى قلوب أهاليها غنـَّى لها شاهين وتغزَّلَ بصوتها ووجهها النضر وجبينها العالي وضفائر شعرها الذهبي ولباسها الأنيق الناعم وقوامها الفاتن.. وهي بدورها غنـَّت لشاهين فكان العيد الذي (ملأ الأرض بالياسمين والحساسين)..
وما أن تهمَّ نجلا برفع جرتها المليئة بماء العين إلى كـَتِفِها استعداداً للعودة إلى البيت حتى تحينَ منها التفاتةٌ جانبية فترى شاهين وقد قدِم من بستانه البعيد حالماً برؤية نجلا فكان له ما تمنى. حيَّاها فـَرِحاً بقالبٍ غنائي منغـَّم معبّراً عن شوقه الكبير (الله معـِكْ يا زنـْـبـقــة بالـفـَيّ) فتبدي نجلا الفـَرِحة دهشتـَها وتسأل بنفس الطريقة الغنائية (شاهيــن شـُو جــابـَك عَ ضـَيـْعـِتـْنـا؟)
اللقاء الشتوي الحزين، الذي قطع حلم نجلا وشكـَّها بجدوى حبها الكبير لشاهين وغرامه بها باليقين الذي صارحها به، انكسر معه قلبُها ولم يبق لها إلا الكتمان وطيِّ قصة الحب البريء والعودة إلى الضيعة وجمالها وأهلها المتحابين المتعاونين والذين يحبون نجلا ويتفاخرون بها. هذا اللقاء الذي تمّ على انفراد لم يسمع أحد بما دار خلاله من حديث بين العاشقـَين إلا أن الفضوليين من فتيان الضيعة، ممن لا يروق لهم أن يروا شاهين، الغريب، وقد اختطف منهم حلوتـَهم، كانوا يراقبون من خلف الأشجار شاهين ونجلا ولقاء الغرام يجمعهما بعيداً عن الآخرين.. ولما كان الاثنان قد تبادلا أغاني الحب في أعياد الضيعة فإن ظنـَّهم بعلاقة الحب بين شاهين ونجلا قد ثبَّته اللقاء.
يتحاور الرقيبان سبع ومخول:
-هـايــدي مــِشْ نجـــــلا؟
-هــايــدا مـِـشْ شـاهيــن؟
-ومـِـدْري شـُـــو قـــَـــلا َّ
-الهـْـيـْـئــَـة مـِتـِّـفـْـقـيـــن!
-تـْـعـَا تــَ نـْخـَـبـِّـــرْ.. مين ما شـِـفـْـنا مـِـنـْقـِلــُّو:
نجــــــــــــــلا حـَـبــِّتْ شــاهين!
تعزف الأوركسترا لحناً تراثياً دون غناء (عبدو حابب غندوره وغيرا ما بدُّو.. وهاي غندورة مغرورة وعلقانة بعبدو) يرافق تحركات الشابين الخبيثين سبع ومخول لنشر خبر الحب بين شاهين ونجلا بالهمس في الآذان محوِّلـَين إياه إلى إشاعةٍ بين الأهالي بقصد النيل من غريمهما شاهين وقد تخلّل الموسيقا والتهامس نظرةٌ من سبع لمخول وقوله: (ولـَّعِتْ!) في مشهدِ مرَحٍ أراد المخرج أن ينهي به حالة الحزن التي تركنا فيها مشهدُ وداع نجلا وشاهين.
إلى الربيع، إذ ستبدأ مراحل التحضير لتفقيس القز، ننتقل عبر أغنية حيوية تـُقدِّمُها نجلا الدلوعة التي يستجيبُ للـ أوف، ما أن تقولها لمرة واحدة، صبايا وشباب الضيعة فيشكلوا سلسلة الدبكة، أميرةَ المرح والسعادة:
الشباب:عَ الـلـَّـيْـلـَكي عَ الـلـَّـيْـلـَكـــيزهـْر الـ عَ صِـدْرك لـَـيْـلـَكي
مُـشـْمـُش بْعـَـلـْبـكْ ما اسْتوىلـَـولا اسْـتـوى جـِـبْـنــا لـِـكي
نجلا:عَ الـلـَّـيْـلـَكي عَ الـلـَّـيْـلـَكي..
الشباب:عَ الـلـَّـيْـلـَكي عَ الـلـَّـيْـلـَكي..
الأخوان رحباني يقدِّمان العمل الرائع على مسرح مدينة بعلبك الأثرية ضمن فعاليات مهرجانها السنوي.. وبعلبك مدينة مضيافة أهلـُها يتحلـَّون بالكرم والجود وبحبهم للفن أما بساتينها فالخير فيها دفـَّاقٌ وأشجار المشمش تتراقص أغصانها بأزهارها الليلكية اللون على ألحان عمالقة الفن. والشاعران عاصي ومنصور لا يوفـِّران فرصةً يـُعْربا فيها عن امتنانهما وتقديرهما ومحبتهما لأية قرية على امتداد الوطن اللبناني الكبير فكيف إذن مع بعلبك المضيافة الضاحكة لضيوفها على الدوام:
قدَّم الأخوان رحباني في أواخر صيف هذا العام (1960) حفلاً غنائياً ضمن المهرجان الفني لمعرض دمشق الدولي أحيته الفنانة فيروز، التي كانت قد وضعت قبل فترة وجيزة ابنتها الراحلة ليال (1960-1986)، وقد استهلـَّت السيدة فيروز هذا العرض بقصيدة الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل (سائليني يا شآم) وقد تضمن برنامج الاحتفال الغني قصائد أخرى من أجملها قصيدة (لملمتُ ذكرى لقاء الأمس بالهدب) من كلمات الأخوين رحباني وأغنية (بكوخنا يا ابني) للشاعر ميشيل طراد و(مشوار) لسعيد عقل وغيرها. جديرٌ بالذكر أن السيدة فيروز كانت قد اشتركت مع الأخوين رحباني في مهرجانات بعلبك وغيرها قبل أكثر من خمس سنوات من ذاك التاريخ.
تنتهي الدبكة الجميلة وتتوجه السلسلة خارجة من المسرح إلى الكواليس.. أما نجلا فقبل أن تترك الساحة يفاجئها صوت شخص قادم من خلف الأشجار فيجري بينهما حوارٌ مـُنغـَّم مفـْعم بالرومانسية كلماتٍ ونبرات:
هذا الحوار الذي ولـَّـد حالة من الاضطراب والحزن عند نجلا له ما يبرره في ثقافة القرية. كما أن له دلالاتٍ كبيرةً في سياق العمل الدرامي قـَصـَد المؤلفان من خلاله الإشارة إلى مفاهيم أهل القرى التي لا ترحم المنبوذ منهم ولا تعترف له بحقوقه كسائر شبان الضيعة.. فمرهج القلاعي شابٌ اختار الصيدَ مهنةً فأبعده عن ساحة الضيعة وأهلها وحياتها وأصبح (مْعاشِر الدّغلات) و(مَربى الحراج السود) ولم تعد له مواصفات فتيان الضيعة الذين يعملون في ضوء النهار يشربون ويأكلون معاً ويعشقون ويخطبون ويتزوجون فتكون لهم منازلُ ومواسم.. لا بل تستكثر الضيعة عليه مشاركته إياهم الأفراح.. لقد فاجأ الجميع كلما حضر تجمعاً (مرهج القلاعي؟!) وأكثر من ذلك.. ها هي نجلا التي أتاها مرهج خلسة بعد لقائها الفاصل بشاهين، وقد غمر وجهَها الحزن، يحاورها في حبه، تردّ عليه بدلع مشوب بالتحقير، إذ هو مرهج الصياد الذي لا يعرف عنه أنه يهتم بالفتيات (تاريك كـِنـْتِ تـْشـُوف الـِبْنيـَّــات!).
ومهما كان السبب في تحول مرهج إلى صياد خارج عن الحياة العادية لأهل القرية فإن السيناريو قصد تسليط الضوء على شاعريته غير المعترف بها. مرهج الصعلوك صديق الطبيعة والأحراج والمغامر الجريء والقوي الفخور بعضلاته المفتولة وشخصيته ذات القوة والعنفوان يحتفظ بأعماقه بشخصية الفتى العاشق الذي يحلم كسائر الشبان بدفء الحب وببيت وبستان، فوحشته في دروبه الوعرة فوق الصخور وهروبه من الضيعة إلى الغابات كانت بسبب نجلا الصغيرة التي راقبها وهي تكبر وتحلا فكـَبُر حلمُه بأن تكون حبيبته..
ولم لا وقلبه يزداد ولعاً بنجلا وجمالها الفاتن وغنائها الساحر.. حبه بريءٌ وشاعريتـُه صادقة وحلمه بسيط ولكنه يعني كثيراً بالنسبة إليه (بـَيـْت وْجـْنـَيـْنـِة وْبـُوَّابـِة).
ولكن مفاهيم الضيعة الرافضة للتسكّع والصعلكة تجد عند نجلا الفرصة لتأكيد نبذها لمرهج (مرهج إنتْ غلطان.. لا قلبنا قلبك ولا دربنا دربك..)
وبالرغم من هذا الموقف فإن الشاعرَ العاشق الصياد والصعلوك مرهج أثار في نفس نجلا الحيرة والاضطراب (لـَيش؟ مين اللـِّي بـْيعرف لـَيش؟ بـِيـْريد مابـِيـْريد هالـْقـَلـْب مـِشْ بالإيد).. وبديهيٌ أن جمهور المشاهدين تأثر بهذه الشاعرية وهذه المصارحة من مرهج لنجلا فأعاد في نفسه بعض الاعتبار لهذا الشخص المظلوم!
الصعلوك في الأدب الرحباني إحدى الشخصيات المهمة والحاملة للكثير من الوظائف في البناء الدرامي. الروح الثورية في الثقافة الرحبانية، التي ترى في الاضطهاد الطبقي سبباً لانعدام العدل وبالتالي لما يحيط بحياتنا من مظاهر بؤس وفقر وتناحر وتمايز، تنعكس على تطور الحدث الدرامي من خلال شخصية الصعلوك، إذ تعيد تلك الثقافة حالة الشخصية وسلوكيتها المرفوضة من المجتمع إلى الشروط الظالمة التي كان صاحب الشخصية ضحية لها.. وانطلاقاً من هذا المفهوم ومن الخلفية الإنسانية للأخوين رحباني التي طبعت كافة أعمالهما فإنهما يعيدان الاعتبار لهؤلاء عن طريق توظيفهم لحلّ عقدة الدراما صانعَين منهم أبطالاً سرعان ما يستحوذون على رضى ومحبة من قـَذف بهم من قبلُ إلى درك الانعزال. ربما كانت شخصية مرهج القلاعي هي شخصية الصعلوك الأولى في الأعمال الدرامية ولكنها اعْتـُمدت مراراً فيما بعد لتنهي العقدة أو لتكوِّن الجسرَ الذي يصعد على درجاته الحلُّ الرحباني (ملهب المهرِّب في مسرحية "يعيش يعيش" والبياع في مسرحية "دواليب الهوا" وشحاد المدينة في مسرحية "هالة والملك" والحرامي والشحَّاذ في مسرحية "المحطة" إلخ..).
شاعريَّة مرهج وحبُّه الصادق وقلبه الذي يخفق محبةً لنجلا وتعلقاً بها لم تـَحُلْ دون انكسار حلمه في نهاية أوصدتْ نجلا الباب فيها أمامه وهو خائبٌ (لا قلبنا قلبك ولا دربنا دربك) وهي مذهولة وحزينة (بيريد ما بيريد هالقلب، مش بالإيد!).. شاهين الذي تحبه لن يكون لها.. ومرهج الذي يحبها لا يمكن أن تكون له.. ولا بد إذنْ من قبول الواقع.. وليكن لنجلا أيُّ عريس من شبان القرية أو القرى المجاورة وهم أيضاً مولعون بحبها!!
على الجانب الآخر.. شاهين، الذي تقدم به السن، يخطط للزواج والاستقرار وهو لذلك يستشير قلبه، بعد أن أبعده عقلـُه عن فكرة خطبة نجلا التي يحبها، بسبب فارق السن بينهما:
شاهين:سَـألـْنا القلب شـو بْـتِطـْـلـُب قال بدُّو الحـِلـْوة اللـِّي هـيِّي
ننتقل مع هذا المشهد إلى الفلسفة الرحبانية في مكانة ودور الزواج والأسرة الجديدة في تكوين المجتمع عبر أغنية (عمِّر يا معلـِّم العمار)، فشاهين الذي يتهيأ للزواج لا بد له من بناء (أوضة ودار) كي (يرتاح القلب بـْفـَيـِّتـْها) وتغزل البنيـَّة ذات الزنار خيوطـَها على عتبة هذه الدار.. بقي إذنْ أن يسأل شاهين عن معماريٍّ ماهرٍ مثل ذلك الذي بنى (البيت اللـِّي مزنـَّر، والحارة الـْ خلـْف الدوَّارة.. والدوَّارة الـْ خلـْف الحارة) وبعد أن يتساءل الأصدقاء (شو الظـَّاهر فيها وما فيها؟!) وينصحونه بـ (سليمان اللـِّي من ضْبيـِّة) فهو شيخ المِعْمَرْجيّة الذي بنى كل البيوت (مافي بيت ولا عليـّة إلا شِغْل سليمان اللـِّي من ضْبـَيـِّة) ويذهب وفدٌ إلى سليمان الذي يجيب بدون تردد (يكـْرم إيه). وتنطلق الأغنية الجميلة الوطنية يؤديها وديع مع الفرقة في دبكة حيوية وبأعلى صوت:
الفرقة:/ عـَـمـِّرْ يا معلــِّم الـِعـْمــار وعـَـلـِّي حــارِتـْـنا
وسليمان من قرية الضبيّة اسم لمعماري تعرفه منطقة (زوق مْكايل) وما يحيط بها وصولاً إلى (عمشيت) ومازالت الأحاديث حتى اليوم عن مهارته والعمارات الأصيلة الجميلة ذات الأقواس والقباب والقناطر العالية والمنحوتات التزيينية التي اشتغلها وأشادها مع فريقه من حجر لبنان الكلسي الأبيض. وهنا يُسجـَّل أيضاً للرحبانيَّين واحدة من التفاتات الوفاء لأناسٍ ذوي فضل أو لمناطقَ وقرى وبلـْدات تأكيداً منهم على الشمولية الوطنية في مسرحياتهم الشعبية.
أغنية شاهين أثارت شبـَّان الضيعة ظنـَّـاً منهم بأنه يحضر نفسه قبل الموسم ليعلن خطوبته على نجلا، حبيبة قلبهم وهم يرفضون أن تكون لغيرهم (شاهين أحسن منا؟)، فهذا سبع يبتدع فكرة لعرقلة العرس (في عندي خطـَّة فِرْجـِة).. فإن كان لا بد لنجلا من أن تكون لشاهين فليكن عرسهما باهتاً (بـَدنا نـْخلـِّي عِـرْسـُن يـِطـْلـَع ما إلو رَهـْجـِة):
سبع:هاه !! قرِّبْ تـَ قـِلـَّـك.. روح تـْمـَرَّنـْلي عَ قَـَيـْمـِة تـْقيلـِة ما يكون حدا فيه يـْقيمــا
هذا المشهد وما تلاه من حوار يشير إلى الرغبة الدفينة في نفوس شباب الضيعة لإبقاء حلوتِهم نجلا فيها.. تلك الرغبة التي لن تتحقق لأن مجتمع هذه القرى اتـَّسم بشيوع المفاهيم التقدمية تجاه المرأة وحريتها في اختيار شريك عمرها فلا يفرض الأهل على ابْنتهم عريساً أو يحرمونها من رغبتها في الزواج بمن تحب. سبع ومخول يظـُنـَّان أن العيد القادم على الأبواب سيشهد عرس نجلا وشاهين وهما لا يشكـَّان في حقيقة تعلـِّقِ الأمر بنجلا فقط.. حالة الغيرة والإحباط عند الشاب الخبيث سبع تركت له فرصة وحيدة للتعبير عن عدم ارتياحه بأن يحرِّض مخول ويتفق معه على عرقلة إتمام العرس. والتقليد يشترط، كما قلنا، أن ينجح العريس بـ (شَيْل القـَيْمِة) للاحتفال بالعريسين وإلا فإن (الـْعـِرس بْيوقـَف.. ونجلا بـِتـْرُوح بْلا عـِرْس.. بْلا إي وي هـــا) كما شرح سبع للفتاة التي ستفتتح حفلة العرس. لذلك يسعى الخبيثان لاستبدال القـَيْمـَة المعهودة بواحدة ثقيلة أملاً بفشل العريس وإيقاف حفلة العرس. والزواج بدون عرس مليء بالأغاني والـهلاهيل والرقصات والدبكة والمبارزة بالسيف والترس لا يشفي قلوب الشبيبة ولا تكتمل فيه سعادة الحالمين. بهذه الطقوس الرائعة المرافقة لأعراس القرى يكتسب الزواج صفة القدسية التي تجعل من المؤسسة الأسرية رابطاً لا تنفصم عراه بسهولة.. فبالعرس الذي تسجله ذاكرة الضيعة ويستعيده صداها في زوايا التفاخر ومنعطفات الأيام يتأكد الحب الذي على أساسه يقوم الزواج وتأسيس الخلايا الجديدة في مجتمع السلام والمسرة.
أما نجلا فإن لديها من الأسرار ما تتكتم عليه.. وهي ليست مضطرةً هنا للمجاهرة بأن الحب الذي يجمعها بشاهين ليس بالحب المثمر وإنما هو حبٌ عذريٌّ أساسُه عشق الوطن ومَلء الأيام بالسعادة والجمال والفن وتكريس المحبة بين الناس.. وما سيكشفه العيد مختلفٌ تماماً عن ظنون سبع ومخول وما نشراه من شائعات. وتبقى لشاهين مكانته الكبيرة في نفس الفتاة ذات الشخصية القوية التي ترد على سبع القادم إليها محاولاً النيل في حديثه من شاهين فأوصله جـُبنه إلى حالة من التلعثم والتردد بينما قابلته نجلا بعدم الاكتراث.. تتدخل الفرقة لتقدم لنا حوارية ثنائية تضيف بصورها مزيداً من الضوء على المفاهيم السائدة فيما يتعلق بالحب والزواج ومعايير القبول والرفض والاختيار. فالشاب الذي يتفاخر أمام إحدى الفتيات بقوله:
وضعنا هذا المشهد في جو القرية ومجتمعها بعناصره ومفاهيمه وفي مكانة الحب ودوره في حياة الناس وسعادتهم. فما شاهدناه وسمعناه من حوار وأغانٍ ودبكاتٍ وصور ببراعة فنية فائقة الإبداع أخذتنا عبر منحوتاتها ولوحاتها وفضاءاتها الرحبة إلى أعمق خبايا الذاكرة وحكايا التاريخ.
ويأتي الربيع.. ضيفُ لبنان العزيز يُسعِدُ بألوانه وألحانه أهاليها وجبالَها وبساتينها وشطآنها ولغبطته هو الآخر لا تراه يستعجل الرحيل فيمتد بحسنه وبهائه على حساب الصيف الحار باعثاً في نفوس اللبنانيين وضيوفهم المزيد من الفرح والحب والسعادة.
وأول ما يبشر به الربيع أخضرُ أوراقه الذي يأتي شجر التوت في مقدمته فتتسابق الأغصان الطرية الغضَّة انبساقاً وكأنها تقدم نفسها بنزاهة وكرم لتكون طعاماً لدود القز الذي ينتظر الوجبات الطيبة يلتهما بشراهة تخال معها عشقاً يَسْعَدُ به ورق التوت مثلما يَسْعَدُ القز وهو منهمكٌ يحضر نفسَه لتقديم الخيط المقدَّس. في هذا الجو الربيعي الساحر يمتزج التعب بالفرح وتترافق مشاعر الاستمتاع بالأمل والتفاؤل وبالأحلام التي أقلـُّها البحبوحة.. فما بالك إن هي ارتبطت بالأعراس؟!
عبر الأغاني نستعرض مراحل العمل في دود القز الذي أصبح الآن جاهزاً للـ (قطف) يتقاطر الأصدقاء من القرية المجاورة بأريحية ومحبة للـ (عون) إذ نسمع من أحد رجال الضيعة نداءً (عَ العونْ يا شباب عَ قطف الحرير) موجَّهاً إلى جميع الأصدقاء في حارات الضيعة وبساتين أصدقائهم من الضيعة الجارة معلناً البدء بموسم القطف الذي يَسعد به المتعاونون وقد راحوا يجمعون شرانق الحرير بهِمـَّة ودِقـَّة وفرح لساعات طويلة يتخلـَّلها الغناء والرقص والدبكة وتبادل أجمل عبارات المودة والسعادة بالخير يتدفق ذهباً أبيض.
يبدأ المشهد بصرختين متبادَلتين من نجلا وشاهين تـَعْبُران الوادي ويرتدُّ الصَّدى مُرجـِعاً معه الجميلَ من الذكريات:
نجلا:شاهيــــــــن
شاهين:نجـــــــــــلا
بشوق بالغ ينتظر كلاهما الآخر متذكـِّرَين آخر حديث بينهما عند العين (بـُكـْرا عَ قـَطـْف الـْقـَزّ لاقينا)؟ وهما يعلمان بأن موسم القز لن يكون عيداً بدون أغانيهما الجميلة.
ويُسرع الشباب والصبايا تلبية لطلب جامعي القز.
اللحن الذي اختاره عاصي لأغنية قطف الحرير أحد الألحان التي تظهر فيها البراعة المبكرة لهذا الموسيقار الكبير الخالد. فالـ (أللـِّيغرو) الذي تقاطر معه القادمون للعون من كل صوب صوَّرَ بنجاح حالة الانهماك التي أمَّنتِ القالبَ الذي مرَّ الزمن من خلاله، إضافة إلى تسلسل كلمات الأغنية الرائعة يؤديها نصري ووديع وصباح ببراعة وعذوبة وسرعة واختصار مما جعلنا نقبلُ بسهولة الانتقال السريع إلى تجهيز المحصول وعرضه على المشترين. قدرةٌ خلاقة عند العظيمين عاصي ومنصور وعند المخرج أيضاً، ومهنيةٌ نادرة في ذاك العصر أحدثتا دوياً في عالم المسرح الغنائي العربي الوليد وارتقت بالمشاهد والمستمع العربي إلى مستوىً عالٍ من الذوق الرفيع والتفاعل مع الحدث الدرامي إلى درجة أصبح من الصعب على المسرح الغنائي الرحباني أن يقدم أعمالاً أقل إبداعاً.. لقد خلق هذا العمل بالذات مُشاهداً يطالب المبدعين بالجيد فقط ولا يقبل دون ذلك. وقد اعترف الرحبانيان بما أحدثاه من ثورة في عالم الإبداع الغنائي المسرحي وعَلِما وأقرُّا بأن عليهما فعل الكثير من أجل الاستمرار في كسب رضى مشاهدين متميزين بالثقافة العالية والحسّ السليم والذوق الرفيع.
فديدان القز، التي سكنت منذ أسبوع زوايا التفرع في أغصان الشيح البنية اللون والعارية من الورق وعملت بنشاط وهِمَّة في حياكة الشرنقة البيضاء، أكملت عملها الآن وقد حبست نفسها في الداخل ضحيةً لإسعاد الناس بحرير تبتهج برونقه القلوب. وهاهي الشرانق تملأ عيدان الشـِّيح والوِزَّال مكونة لوحاتٍ خلابةً ومناظرَ بديعة ستستمتع الأيادي الناعمة بالتقاطها برقـّـَّةٍ وحنان واحدة واحدة ثم تتراكم في الأطباق لتأخذ طريقها إلى ساحات التشميس أو مراجل التسخين فالتجفيف فأكياس الغلـَّة بانتظار التجار.
والجوقة هنا تحذر الطيور من الاقتراب من القزّ المنشور والذي يغريها ببياضِه الناصع.. وتجنّباً لحملات الطيور المخربة يصنع أصحاب القز تماثيل بسيطة من الأغصان والملابس (فزَّاعات) توهم الطيور بوجود أشخاص قرب القز فتخشى الاقتراب.
غناءٌ جميل تتوافق ألحانه مع إيقاعات الحركة وتواتر العمل وتزينه ألوان الوجوه تنبض بالحياة والقز الأبيض سعيدٌ بالأكف التي تحتضنه بحنان وكأنك ترى الفراشات داخل الشرانق تشارك القاطفين فرحتهم وتتراقص على أنغامهم العذبة.
وبعد تبادل عبارات التحية والشوق، كلاماً منغمـَّاً يعرب أبو حمزة، وقد تلألأ القز أمامه، عن إعجابه وقراره شراء الموسم كله:
أبو حمزة:بـَدْنــا كلِّ المـَـوسـِم
الجميع:تـِـكـْــــــــــــــــــرَم
أبوحمزة:كـِل شي مـْجـَهـَّــز؟
الجميع:تـِـكـْــــرَم تـِـكـْـــرَم
أبوحمزة:بـِعـْـتـُــــــــــــــــو؟
الجميع:بــِــعــْــنــــــــــــــا
ويبدأ عد أكياس فيالج القز ووجوه أصحابه تفيض بالسعادة والفرح دون أن ينسى من يقوم بالعدِّ ذكر كلمة (البركة) التي تفيض شكراً وامتناناً للمعطي الكريم. أما أبوحمزة فلا يخفي رضاه الذي لا يكتمل دون الحلويات هديَّة الموسم (الحـَلاوة الجـَوْزِيـِّة) يقدمها المضيفونبينما يطالبه المختار بـ (ردِّة حـِلـْوِة بـَيـْروتـِيـِّة)
ويبدأ الاحتفال بالموسم بحضور التجار.. لقد أراد الرحبانيان الإشارة باعتزاز إلى حُسْن العلاقات بين أهل المدينة، ملوك التجارة، وأهل القرى، ملوك القز، عبر السهولة والنعومة في إنجاز عملية الشراء وكذلك من خلال جو الفرح الذي أعقبها وقد امتلأ بالأغاني والدبكة والرقصات الجميلة.
كمٌّ هائل من المعاني تحمله الوصلة الغنائية التي تتالت بمواويلها وأبياتها وحوار المغنين مع الجوقة. لقد جاء وقت الراحة والاسترخاء بعد عناءٍ ومحصولٍ وخيرٍ دافق. تفتتح الاحتفال نجلا ببيت:
هكذا هي الأمور في شعر عاصي ومنصور حين يمتزج غناء الفرح بالصلاة.. الصلاةِ للأرض كي تزيد من خيرِها والصلاةِ للنبع كي يزيد من تدفق مائه الطيب.. والصلاةِ للمواسم استزادةً لوافرها الذي يبعث السعادة والمسرَّة في النفوس.. أليس هذا ما يتمناه الناس الطيبون لأنفسهم وللآخرين!!
أما شاهين، الضيف والصديق والمحب فلا يخفي فرحته بتوفيق أحبائه، فينشد مواله البدوي:
سـَقى الله يـومْ بـِتـْصيرو لـِنا قـْرابْ
وْنـِمــْــلـي مـِن مـَنابـِعـْكـُن لـِنا قـْرابْ
مَ تـْقـولــو لـِـنا أهـْــل وْلـِنا قـْــرابْ
وْبـَعـْـدُن طـَيـّبـيــــنوْبـِالحـَيـــــــاة
يا بــاي.. يا بــاي..
تـُتـْبـِعـُه نجلا بموال من نفس النمط تـُظـْهـِر فيه براعتـَها وقدرات صوتِها القوي ونـَفـَسـَها الطويل:
حـِلـُو يامـَن بـِأرْض الـدَّار خـَطـَّيـتْ
عَلـَى ذبْحي حـِبـِرْ عَ وراق خطـَّيتْ
وإنـِتْ يا مَنْ بـِسـُود العـَين خـَطـَّيتْ
الـْحَبيس الـْ طـُـول عِمْـرو ما خِـطي
يا ويل ويلي يا ويلي..
يجيب شاهين مخاطباً الليل بموال لبناني:
/ يـا ليـل يا ما فـيـك غـَنـَّـيْـنــا زْرعـْنا الحكي الطيَّب حـَوالينا / (2)
ما دامـُن رِضْيـو وْحَبـُّـوني لـِشْ تـَ بـالآخر جرحـــوني
عـْيـُـونـــِك..
الجوقة: أخدوني ورمْيوني
لا شك بأن الأغنية موجهة لنجلا حبيبةِ قلب شاهين وهو يرى جمالَ الحياة في وجهها البريء وعينيها الساحرتين اللتين ساحتا العالم به ثم تركتاه في هُيامه عاشقاً كسير القلب!
الفرقة تنتبه إلى أن الاحتفال بدأ يأخذ منحى المعاناة الشخصية بين الحبيبين نجلا وشاهين فأرادت، احتراماً للضيوف، العودة إلى جو العيد الكبير.. موسم الحرير!:
هذه الأغنية فولكلورية خفيفة معروفة قبل المسرح الرحباني وقد ردّدها المحتفلون بأعراسهم ومواسم القز.. أعاد عاصي توزيعها دون الابتعاد عن النغمة الأصلية وقد أدتها الفرقة مع نجلا ممهدةً بها لأغنية من تأليف منصور أضافت بـِلذّةِ كلماتها ونعومة لحنها متعةً للعيد والضيعة وضيوفها.
نجلا:ناسي يا حبيــبي شــُــو رِحْنا مْشــاويرْ
بـْحـِبــَّــك يـا حـَبـِيبي.. كتير كتير كتيرْ
الجوقة تردد: وانْ كان بدك تعشق..
وانتقال فوري إلى أغنيةٍ تفيض نعومة وأنوثة شيقة:
نجلا:كـِيفْ ما بـَعـْمِـلْ تـِعـْبانة ويـْنْ ما بـِـقـْعـُد فـِزْعانـة
ما أجمل هذه الأغنية التي عبرت فيها الفتاة نجلا عن حبها للحرير والفستان الحريريَّ تتراقص أطرافـُه الرقيقة وقماشه الناعم على قدِّها الرشيق فيزداد كلاهما حلاوةً وإعجاباً بالآخر ولكنها لم تخفِ حَرَجَها من مداعبة الهواء ونسائمه الفضولية التي تحاول أخذ أطراف الفستان على أجنحتها فتـُتعِبُ نجلا الخجولة وتفزعُها..أما الجوقة فلم تكتفِ بالموسيقا الآلية ترافق أصواتَ الشبيبة بل أضافت عنصراً جمالياً يُسجَّل إبداعاً آخرَ وليس أخيراً للمدرسة الرحبانية تـَمـَثـَّـل باستخدام إيقاعات الكفين بتصفيقة سريعة توافقت مع اللحن إمعاناً في وصف حالة الفرح الجماعي. التصفيق المنغَّم صاحَبَ أغانٍ أخرى واستـُخدم وسيلةً للتصوير الإيقاعي في مسرحيتنا الرائعة.
أما التاجر أبو حمزة وجماعته فقد قاموا إلى الساحة وسط تشجيع الشبيبة يؤدون الرقصة الرجالية الذي تحولت إلى دبكة تليها رقصة بالمناديل الحريرية على لحن أغنية (طار الحرير طار)، يؤديها شاهين والجوقة بمصاحبة الموسيقا ترافقها إيقاعات الكفّ السريعة وأهازيج الفرح، فاللحن الأساسي يبدؤه الزَّمْر القصبيّ فالأكورديون فالوتريات فالأوركسترا مجتمعة دون أن تتوقف (زقفة الكفين) :
بانتهاء مشهد الحرير والموسم وتسويقه ينتهي الفصل الأول من المسرحية بعد أن يكون خير الأهالي ظهر في القرى التي جنت ما زرعت الأيادي الطيبة.. هاهو المختار يدخل بيت العروس نجلا يـَطـْمـَئن عن الحال والتحضير للعرس إذ يرينا هذا المشهد، بعد مقدمة جميلة مستقاة من اللحن الأساسي، يرينا شباب وصبايا الضيعة وهم منهمكون بتحضير كل مستلزمات العرس والحفلة والرقص وحلقات الدبكة مستعرضاً المزيد من صور الفرح والبهجة التي عادة ما تسبق وصول العريس والعروس، والفصل الثاني..
مختار الضيعة في الدراما الرحبانية عميدُها والأب الروحي لأبنائها بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ سامية وما تتطلبه من رعاية واهتمام. لهذه الشخصية مكانة غاية في الأهمية في تطور الحدث الدرامي ولا بد لهذه الشخصية الإيجابية من التخصيص بأجزاء مهمة من السيناريو تلائم حاجة الدراما إلى تداخلات وحلول ثانوية وحل نهائي للعقدة الأساسية، ما لم تـُسند هذه المهمة إلى شخصية أخرى مساعدة.
كثيرة هي الحالات التي اعتمد الرحابنة فيها على الفنان الكبير نصري شمس الدين للـَعِب هذا الدور الذي يتطلب مهارة من نوع خاص ومواصفات شخصية برع في تقديمه الفنان القدير الذي رافق الرحبانييِّن في عمليهما مع الفنانة صباح (موسم العز ودواليب الهوا) وفي أعمالهما الأخرى مع فيروز حتى وفاته المبكرة على خشبة المسرح في الأردن عام (1985) فكان المختار الذي أحبَّ أهل ضيعته وأخلص لهم وساعدهم بحل مشاكلهم والتوفيق بينهم إن حصل خلاف في قضايا إرثٍ أو حب أو ما شابه ذلك وأحبوه ووثقوا به وتلذذوا بحكاياه وطلبوا حكمته والتزموا بما تـَوصَّل معهم إليه من اتفاقات.
هنا، في موسم العز، وبالرغم من وجود أهل نجلا إلى جانبها قبل العرس وخلاله فإن دور المختار كأب روحي لنجلا يظهر في جميع المشاهد اللاحقة:
المختار:كِلْ شي تـْحضـَّر؟
الجميع:كِلْ شي تـْحضـَّر
المختار:كلْ شي تـْجهـَّز؟
الجميع:كلْ شي تـْجهـَّز
المختار:أكلْ عْملتو كفاية؟
النـِساء:عْملنا
المختار:النسوان تـْشهِّل بالكبـّة
النـِساء:الكبـّة خـِلـْصِت ما بـَقى إلا نـِجـْبـِلـْها
هنا تطلع الفرقة باللحن الفولكلوري (زفـَّة العروس) وهو لحن لا يخلو منه عرسٌ في شرقنا يعتمد الدفَّ والصنج والزَّمر بشكل أساسي ويأتي بقالب المارش البطيء تتمختر العروس ووصيفاتها والموكب على نوتاته الهادئة (وتـْمختري يا حلوة يازينة).. تنتقل بعده الفرقة الموسيقية لتعطينا (لحن المناديل) الجميل والمليء بإيحاءات الفرح وهو محوَّر عن اللحن الأساسي للمسرحية لا يلبث أن يعود إليه وقد انطلق الشبيبة إلى الرقص والدبكة والأهازيج والزلاغيط والإيقاعات الملونة بالتصفيق وخبطات الأرجل، إيذاناً ببدء العد التراجعي.. فما هي إلا ساعات ويظهر موكب عريسنا القادم من الضيعة الجارة والتي يربطها بضيعتنا الكثير من الود وتسود بين أهالي الضيعتين روح التعاون والمحبة التي ستكرسها القربى (ضَيْعـِتـْنا صارِت ضَيْعـِتـْكن).
لم يجهر السيناريو باسم العريس حتى الآن، ربما عن قصدٍ أراد المؤلف أن يترك لنا حرية التخمين، فتسلسل الأحداث أشار بما فيه الكفاية إلى انتفاء فكرة الوصول بالحب الكبير بين نجلا وشاهين إلى زواجهما.. العريس إذنْ شخص آخر غير شاهين!!
أما سبع فما زال الغِلُّ في صدره يأكله، كان العريس من كان طالما أنه ليس من الضيعة نفسها.. فكم من الصعب عليه وعلى أصدقائه أن يروا نجلا وقد زُفـَّتْ إلى خارج الضيعة فما عادوا يرونها ويستمتعون بـِطـَلـَّتِها الغالية وجمالها وصوتها العذب.
ها هو يتسلّل إلى بيت العروس ويدعو الفتاة التي ستقدم الاحتفال مُنذراً بالشـُّؤم (مش رح يـِطـْلـَع عرس مـْليح) انطلاقاً من يقينه بأن العريس (شاهين!) لن يتمكـَّن من القـَيـْمة الثـَّقيلة (مـِنـْقـِلـُّـن يااهْل العريس، قـِيموها انْ كـِنـْتو شِجـْعان)!
ويعلن شباب ضيعة نجلا وصول العريس وأهله وأصدقائه فيحيونهم ويتقدموا لاستقبالهم فاتحين الأبواب مرحبين ومهلـِّلين بينما يهتف مرافقو العريس:
-حـَيـَّـــــا الله
-يا هـُـــوه..
-عـَريسْنا يا زِيـْنـِة كلّ المحاضِر
-هـــــــــاي
وتبدأ زفـَّة العريس بتقدم الموكب وعلى رأسه شاهين السعيد بعرس نجلا وبالعريس (عبدو) صديقه وابن قريته مؤدياً مع المجموعة أغنية (طـَلـَّعني درجة درجة) وبقالب المارش البطيء أيضاً وكلمات جميلة تذكـِّرنا مع طريقة الغناء بما يسمـَّى "عراضة شامية" إذ لا يتعدّى الغصن الذي يقوله المغني البيت الواحد يردد موكب العريس البيت الأول مـَذهباً بعد كل غصن جديد:
سبع، الذي يعرف كم هي ثقيلة تلك القيمة التي اعتمد تدبيرها في خطة لإيقاف العرس نكاية بالعريس (الغريب)، متأكدٌ بأن عبدو، وقد خَبِرَ قوّته سابقاً في قـَيمةٍ أخفَّ وزناً، سيفشل.. وستنجح خطته الخبيثة.
في العديد من المسرحيات الرحبانية يأخذ فيلمون (سبع) ومنصور (مخول) أدوار التهريج أو التخريب. ومما يشهد على التواضع لدى منصور الرحباني أنه كان يمثل دوماً أدواراً صغيرة ثانوية في الأعمال التي ألـَّف حواراتها وقصائدها وأغانيها واشترك في وضع ألحانها ضارباً مثلاً يندر تكراره في التواضع ونكران الذات ومبادىء العمل الجماعي وفي الإخلاص لجوهر العمل الإبداعي، ولم يكن عاصي أقل تواضعاً من منصور.. فها نحن نراه مشاركاً في عمله الرائع كممثل يكاد يقترب من الكومبارس في دور صغير يطل على جمهوره لبضع دقائق بشخصية (أبو حمزة) ولهجته البيروتية ورقصته مذكراً معاصري والده بشخصيته الطريفة المرحة التي كانت تمتزج فيها القوة بالظرافة. وإضافة إلى هذه الحقيقة فإن الرحبانيين كانا حريصين على فسح المجال للآخرين ممن يود إظهار قدراته الشعرية أو الموسيقية من الممثلين للمساهمة بكتابة كلمات بعض الأغاني أو تلحين بعضها الآخر، دون أن ينال هذا من الوحدة الفنية في العمل الدرامي.. ويردُّ ذلك إلى ما عُرف عن معظم العاملين مع عاصي ومنصور من بدايتهما من انضباط وحرص على الالتزام بالديسيبلين ضمن إطار بيئة نموذجية للعمل الجماعي.
سبع ملمِّحاً ومتستراً على فعلته: ما شا الله ما شا الله.. ما شا الله.. بيقيم القلعة !!
أهل العروس: قــَـرِّبْ ياعـبـدو قـِيـْمـا
أهل العريس: يـــا الله ياعـبـدو يــاالله
الفتيان: قــَـرِّبْ قـِيـْمـا
الفتيات: قــَـرِّبْ قـِيـْمـا
الفتيان: يـــا الله ياعـبـدو يــاالله
الفتيات: يـــا الله ياعـبـدو يــاالله
يقترب عبدو فيما تتوجه إليه الأنظار والجميع، ماعدا سبع ومخول، يأملون بقدرته على رفعها إرضاءً لشروط العرس والفرح. لم يتردد سبع بإبداء علائم الشك وابتسامة ساخرة على وجهه الحسود.
ويفشل عبدو فوراً.. فلم يكن له من الهمة والقدرة ما يمكنه من تنفيذ المطلوب، ربما لأنه أطال السهرة ليلة الأمس في بيته مع أصدقائه وأهله تغمرهم السعادة والفرح فلم ينل من الراحة القسط الكافي:
أهل العريس: شـُـو ياعـبـدو ؟
الجميع: شـُـو ياعـبـدو ؟!!
عبدو: تـَـعـْـبـان.. تـَعـْبـان شـْــوَيّ
أهل العريس: شـُـو ياعـبـدو ؟
عبدو: بــِطـْـلـُب فـِرْصـَـة لـْـبـُكـْـرا
وهنا يطلب أهله تأجيل العرس لليوم التالي فيرفض أهل العروس وتعلو صرخات الاحتجاج وخاصة من سبع ومخول (ما بـْيتأجـَّل.. ما قامـُوهـا مـافي عرس) وأهل العروس من جهة، وأهل العريس (بـَـدُّو يــِتــْـأجـَّـل)من جهة ثانية، لولا التدخل الإيجابي للمختار، فهو ساحة الأمل عندما تضيق الصدور:
المختار:يا أهـْل الضيعة.. عبدو طالب فـِرصة لـْـبـُكـْرا..
لـَيـْش نـْخـَلــِّي نجـــلا تـْــــروح بـْلاعـِرْس وفي بــْقــَلــْبا جروح
وهنا تختلط المشاعر وتتلون الوجوه، ما عدا سبع ومخول فقد ملأتْ علامات المقت وجهيهما، بألوان امتزجت فيها الخيبة ببقايا الأمل في ألا تضيع فرحتـُهم وتحضيرُهم سدىً فيُقـْضى الأمر بلا عرس تفرح به القلوب وتسعد به حلوة الضيعة نجلا التي تمناها لنفسه كل واحد من الشبان وهاهي تتعرض للإحباط والخوف مما يخبّئه الغد.
يغادر الجميع صِوان الدار والأوركسترا تعزف اللحن الحزين بقالب مارش الخروج البطيء بينما تبقى نجلا قريبة من القـَيمة تنظر إليها بحزن وحقد عليها:
ينقضي الليل ويأتي الصباح نهاراً جديداً بكليته. أملُ نجلا وعبدو وأهل العروسين كبيرٌ وأمنياتهم بتحقيق الفرح تملأ وجوههم دون أن يزول الخوف الدفين نهائياً. فقوانين الضيعة لن تسمح بإقامة فرح العرس إن فشل عبدو بـِ (شـَيْـل القــَيْمة) ومن المستبعد أن يستطيع أحد من جماعته القيام بالمهمة عنه فهو أقواهم وأصلبهم عوداً.يا لـَهذه القيمة الثقيلة اللعينة!
يتوافد الناس إلى باحة دار نجلا، حيث تقبع في وسطه وسيلة الاختبار، على لحن جميل ناعم متموّج يلائم حركة القادمين من أطراف الضيعة بعد أن أزال الليل عكر المزاج وبعث الصباح بشمسه الجديدة أملاً في النفوس عبّرت عنه موسيقا التوافد بلحنه المشابه إلى حد كبير اللحن الذي يتجمع معه المتنزهون السعداء في أللغرو الحركة الرابعة من السيمفونية السادسة (الريفية) للموسيقار العظيم لودفيغ فان بيتهوفن (Merry gathering ofthe country folk) .
اقتباساتُ الرحابنة من روائع الأعمال الموسيقية العالمية عامة والأوروبية على وجه الخصوص طبع عدداً كبيراً من ألحان أغانيهم أو المقاطع أو الفواصل الموسيقية الحرة. وقد كان لهذا الاقتباس الناجح أثره على منح الألحان والأعمال الرحبانية صفة العالمية وخاصة ما أبدعه ضمن إطار مشابه الموسيقار الكبير ذو المكانة العالمية الأستاذ الياس الرحباني. أما على صعيد الجمهور الرحباني فقد لاقت هذه المنهجية إقبالاً وترحيباً تهيّأ معه المستمع الرحباني العارف للموسيقا الكلاسيكية والرومانسية الأوروبية لسماع الألحان الجديدة المليئة بالجمل الموسيقية التي تذكره بألحان أساسية ونوتات تميزت بها أعمال الخالدين من أساطين الموسيقا العالمية.
يتجمع جمهور العرس وقد تركزت أشعةٌ متفائلة صادرة عن عشرات العيون المترقبة والمتأملة بينما يتقدم المختار، سيد الضيعة:
أهل العروس:هايـْدي آخِر فـِرصـَة
المختار:بـتـْقـيـْمـُوها مْـنعمِل عرس، ما بــِتــْقـيتمـوها بــِتـْروح
ترتفع الأصوات وتزداد حدقات العيون اتساعاً ويزداد معها الشدُّ على الأسنان وكأن الشباب يودّون لو يأكلوا من القـَيمة نصفـَها تسهيلاً على عبدو وقد بدأت أصواتهم تتخامد وتتهادى كلما خفَّ تسارع الحجر وهو يرتفع بصعوبة بالغة بين يدي العريس بينما انحنت جذوعهم توجُّساً.. لو كان بإمكان سواعد هؤلاء القدرة على إرسال بعض طاقاتها لتضاف إلى ساعدَي عبدو لما قصَّروا بذلك، ويتهاوى الحجر قبل أن يصل به العريس المسكين إلى صدره ويهوي عبدو معه أرضاً فيصرخ الجمع بتعجبٍ وأسفٍ وخيبة (لـَهْ لـَهْ لــَهْ !!) ويطأطىء الفتيان من أهل العريس رؤوسَهم وتزداد انحناءة أجسادهم بينما يصرخ أهل نجلا بحمق وتساؤل (مـا في مـَعـْكـُن مـيـْن يـْـقـيـْمـا؟).
ولا يجب أن يسمح المختار للانفعال بأن يحدَّ من حكمته ورويَّته وهو بأمس الحاجة الآن لرباطة الجأش والشجاعة، فالأمر تعقـَّد ولا بدَّ من حلٍّ يـُرضي الجميع، وحتى أهل العروس هنا يتركون للمختار الكلام واقتراح الحل. فليبدأ التفاوض مع أهل العريس على انفراد
نجلا، التي توجهت خارج الساحة خائبة كارهة حظـَّها المـُتـَعـَثـِّر وهي تردّد بلحن حزين(وحــدي، بروح.. لا زْلاغيط العرس.. لا غْناني.. ولا رقصـَة حـِلـْيــانـِة)لم تكن، مثلـُها مثلُ جميع الحاضرين، تتوقع المفاجـأة الكبرى التي حوَّلت بعد لحظات الحزنَ إلى فرح وأعادت إلى الضيعة بهجتـَهـا وسعادتها بنجـلا وعرسها الكبير المنتظر والذي يعني الكثير بالنسبة لأهلها ولجميع أبناء وبنات الضيعة وهم ينتظرون لها السعادة.
ولكنه الحب.. سيّدُ الحاضرين ونصيرُ الطيبين يأبى أبطاله الإذعان والاقتناع بأن يصبح الفشل والخيبة مصيراً وقـَدَراً محتوماً، وهم الذين عاهدوا الحب بالإخلاص والتضحية انتصاراً له ولمن يحبون!
فالعاشق المرفوض مرهج، وقد جعل الحب منه بطـلاً تغلـَّب في داخله الإنسانُ المُخـْلص المضحِّي على الشخص المنبوذ المتشفي السعيد لفشل غريمه عبدو، لم يستطع حتى أن يبقى على الحياد، وهو الذي تسلـَّل سراً إلى الساحة ليراقب من خلف الأشجار عرس حبيبته نجـلا، التي رفضته لكونه صعلوكـاً لا ينسجم مجتمع الضيعة مع شخصيته وحياته المتشردة الخارجة عن التقاليد. هذا العاشق الصادق، والذي منحته الطبيعة التي التصق بها وحياة البراري التي عاشها قوة بدنية تفاخر بها وتميز عن الآخرين، وجد فرصته الذهبية في فشل عبدو، وربما لم يكن يتمنى له هذا الفشل، كي يُظهر فروسيته لحبيبته التي سحرته منذ طفولتها وبقيت في عينيه أيقونةً للجمال والحب وهي تنمو ومعها ينمو حلمُه بها.
ولا عجب أن يثير تقدمه من خلف الساحة دونما توقع من أحد ليقــول (يا شباب وْقَفو شوي !!) استغرابَ ودهشة الحضور، فهم لا يتوقعون منه موقفاً رجولياً من هذا النوع فهو ببساطة الإنسان المنبوذ المهمَّش الذي لا يبادل أهل الضيعة، وخاصة بناتها، المودة والانسجام وهو ليس معنياً بأفراحهم ومناسباتهم. ومن هو عبدو بالنسبة إليه كي يتطوع لحل إشكالية فشله وحيرة أهل العروس الذين ضاع سُدىً حماسُهم وتشجيعهم وإعطاؤهم لعبدو الفرصة الثانية؟!.
الضيعة التي رفضت مرهج القلاعي طيلة حياته البرية (مَرْبى الِحْراج السُّود – إبن القلاعي ) ليس لها الآن أن ترفض عرضَه المُنقذ الذي أعاد للعرس حقيقته ولأهل الضيعة بهجتهم مكمـِّلاً نجاح موسم العز وحافظاً له قدسيته.
مرهج:ياشبـاب.. وْقَـفو شـْوَي.. أنا بـَـدِّي شيلْ مع أهـْـل العريس
ما بـْـتـِطـْلـَعي مـِن هـَون إلا وْعـَمْ يــِعلا عِرسـِك عَ هالكون!!
وبيدين قويتين وبكل ثقة بالنفس يتقدم البطل العاشق الصادق ويحمل (القـَيـْمة) إلى الأعلى متباهياً بفـُـتـُوَّته ويدور بها مستعرضاً عضلاته ومثـبِّـتاً عهده على تبني عرس نجلا وعبدو وما يلي ذلك من التزامات حمايتهما ودعمهما حاضراً ومستقبلاً.
ووسط دهشة الجميع وذهولهم تسبق فرحةَ نجلا خطوةٌ ترفع فيها من فوق صينيـَّة العرس شال الحرير ومحرمة الحرير وتضمهما إلى صدرها ثم تتوجه إلى مرهج فتقدمهما له، ولا يتردد البطل بقبول المكافأة، فهي من راحتين طالما حلـُم بتقبيلهما وأخذهما بيديه إلى رحلة السعادة وبقي الحلم حلماً..
يأخذ مرهج الشال فيلف به عنقه ويضع المحرمة في جيبه ويغادر تاركاً الجميع لفرحهم وحبيبته لسعادتها، طالما أن الظروف شاءت كذلك.
صيحات الفرح يطلقها الحضور مشيدين بشهامة الرجل وقد أعادت مبادرته الكريمة للعرس بهجته وللعروسين سعادتهما. نجلا لن تنسى، بعدَ هذا الموقف الفروسي النبيل من مرهج، القوةَ الإنسانية في الحب، تلك القوة التي تغلبت على الخطة السرية لسبع ومخول وحولت الصياد العاشق في نظر الضيعة إلى بطل أنقذ الموقف ولو على حساب مشاعر الحب.
-صحـــــــايف
-صحايف ميـن
-صحايف هالعرس الحلو
-هــــــــــــــاي
هنا تنطلق موسيقا لحن رقصة السيف والترس بينما تقفز المجموعة إلى الساحة بحيوية تؤكد زوال حالة الحزن والعودة إلى العرس وطقوسه يرافق الراقصين أغنية السيف والترس ويُضيف إيقاع التصفيق المنغـَّم جمالاً وحيوية وإحساساً بالمشاركةِ وجماعيةِ الأداء وسيطرةِ حالة الفرح:
هذه الأغنية من أجمل أغاني الغزل المصاحب للدبكة وهي محببة كثيراً لدى عاشقي ونجوم الرقص الشعبي وتكاد لا تخلو سهرة فرح أو عرس منها.. وقد تقصَّد المخرج والرحبانيان تركها إلى الجزء النهائي من المسرحية لحيويتها الشديدة ورقة كلماتها التي وجَّهها المختار هدية للعروس نجلا وهي تترك القرية.
الفرح العائد بقوة، والذي فرض نفسه بفضل الحب، حبِّ مرهج لنجلا وحب الضيعة لحلوة الحلوات وأيضاً حب شاهين الكبير، ولـَّد عند سبع ومخول حالة من الأسف والخجل مما حدا بسبع لتقديم أغنية كوميدية قصيرة على سبيل الاعتذار (ريدوني)أكـَّد الحوار مع الجوقة فيها رفض الضيعة لسبع (ما مِنـْريْدَك) وهو (الشاب المليح) ويخلص إلى أنَّ (كلِّ الـْبـَلا مْنِ النـِّسْوان) وتترك الجوقة سبع ومزاحه الثقيل لتنتقل بسلاسة إلى الفرح الحقيقي بالعريسين وتكرار الترحيب بأهل العريس:
مْحـَبـَّـةمْحـَبـَّـة مْحـَبـَّـتـْـكـُن يا أهـْلا وسـَهـْلا بـْطـَلــِّـتـْكـُن
لتنطلق بعدها الشحرورة صباح بموال فولكلوري من أجمل قصائد العتابا ملوِّنةً الحفلَ بصوتها المعجزة وما يخلقه من سحر يطير بالمستمعين إلى الفضاء البعيد. أهل العروس سعداء بها بعد حالة من القلق خلقتها القيمة الثقيلة ولكن الفرح عاد وأصبح حقيقة ولتأكيد الفرح لا يوفر أحدٌ فرصة للإعراب عن السعادة الفائقة.. (طيِّبْ يا عروس):
صباح:هيهـــــات يا بو الـزّلف عــَيـْـنــي يا مـُــــــــــولـَـيـَّـــــا
صـِفـْصاف لا تـِسـْتـِحيشـــِلــْشـَـكْ عـَلى المـَيـَّـا
وهنا يستخدم وديع الصافي الموهبة الصوتية العظيمة التي يتمتع به دون سواه فيؤدي تتمة البيت بطبقة عالية جداً أراد فيه أن يؤكد استمرار شاهين بحبه العظيم لدار نجلا، فهم أهله، والذكريات الجميلة لن ينساها طالما بقيت أغصان الصفصاف صديقةً لشلالات السواقي، فلتسمع النجوم إذنْ:
وديع:يا دار فـَـيـَّـــا هـَـنـــــــــــــي
يا دار فـَـيـَّـــا هـَـنــــي وْإيَّـــام عَ بــــالي
صِفـْصافـِها مـِـنـْحـِني عَ مـْـكاسـِر الميـَّـا
ترنيمةٌ للحب والوفاء وصلت الأرض بالسماء فتحركت مشاعر الشبيبة فتياناً وفتياتٍ تتشابك أياديهم في الدبكة بعد موال شاهين في حوارية غنائية بين المغنين والجوقة (ياغزيـِّلثم على دلعونا ثم على الـْماني عَ الـْماني فـ يا ظريف الطول يا بو الميجانا) بألحان متنوعة وهذا إبداع جديد من إبداعات الأخوين رحباني فقد دمجا الأوف بالعتابا بالميجانا بالزجل في وصلة واحدة سخية تكريساً للقيم التصويرية.. الفرحة كبيرةٌ ألهبت مشاعر الجميع وأحيت روح المحبة والتآخي وثبَّتتِ المكانة المقدسة لأهم عنصرين في حياة الناس: الحب والعمل.
بعد هذه الوصلة الفائقة البهجة والحيوية نتسلّل ثانيةً بمرونة رحبانية تعتمد الإيقاع بالكفين إلى لحن الترحاب والتعاهد:
مْحـَبـَّـةمْحـَبـَّـة مْحـَبـَّـتـْـكـُن يا أهـْلا وسـَهـْلا بـْطـَلــِّـتـْكـُن
ولحظة صمتْ !! فالحفلة لا بد لها من نهاية والعريسان سيتوجهان الآن إلى بيتهما الجديد!! ونجلا، الحلوة التي احتضنتها الضيعة بأشجارها وأزهارها.. بقزِّها وحريرها وبقلوب شبانها فكانت بالنسبة إليهم القرية والوطنَ والموسمَ والفرح كلـَّه.. ستودِّعُهم الآن وقد اختلطت دموع الفرح بانتصار الحب بدموع الحزن للفراق.. ولتخفيف حالة الحزن يكرر أهل العروس إعلان اندماج الضيعتين (ضَيـْعـِتـْنا صارت ضيْعِتـْكـُن). لقد وحَّدتهما نجلا وأقام الفارس مرهج حفل التوأمة الوطنية مكرساً المعنى الحقيقي للحب الذي لا يكتمل ويزهر بدون الشهامة والبسالة والاستعداد للتضحية.. إنه حب الوطن!
ولقد أدرَك المشاهدون في تلك اللحظة الهدف من استخدام المسرحية شخصية (مرهج) حَلا فدائياً للحب والسعادة وسمعوا صرخة مدوِّية للمظلومين المُهَمـَّشين أمثال مرهج يعلنون فيها افتداء الوطن وإنقاذه من الانكسار بغضِّ النظر عما يتعرضون إليه من ظلم وتهميش.
في برهة الصمت تتبادل العيون عبارات الود الصادق عبر الفضاء الذي مازالت نسائمه تتراقص على أنغام وأصوات المحتفلين السعداء، التي تخامدت ولكنها أبقتْ في ذاكرتهم خميرةً طيبة لإنضاج عجائن المواسم القادمة وأفراح الأيام الآتية..
يقدم لنا المخرج هنا صوت شخص غائب يرمز إلى والد العروس الراحل، إذ لا بدَّ من توصيةٍ أخيرة لمرحلة قد يكون فيها المُرُّ إلى جانب الحـُلو.. توصيةٍ تعكس بأقلَّ ما يمكن من الكلام ثوابتَ البيت والضيعة والناس والحرص على نقلها للأولاد، عمادِ الوطن، عبر التربية الصالحة، والصوت للراحل عاصي الرحباني:
آخر وَصيِّــــة: قـَبلْ ما تـْروحي مـَعـُو.. روحي مـَعـُو..
هذه الوصية التي جاءت بالصيغة الشعرية الرقيقة وبصوت رخيمٍ دافيءٍ مليءٍ بحنان الأب وسعادته بزواج ابنته وقد غطـَّت إيحاءاتها على مسحة الحزن التي تركتها حقيقة الوداع، سُمعت في القاعة بإصغاء تام وخشوعٍ ألـْهَب مشاعرَ الجمهور الذي راح يصفـِّق طويلاً وقوفاً، تحية للرحابنة وللممثلين وقد انهمرت الدموع من عيونهم.
أما الجوقة فلم تكتفِ بالوصية لنجلا الوطن.. نجلا الشعب اللبناني الحي الخلاق المبدع الغني القوي.. وهكذا تـُقـَدِّم الجوقة المشحونة بمشاعر الحب والحماس مع جميع الممثلين وفرقة الدبكة الأغنية الختامية وكأنهم يُبْدون أسفـَهم لأن المسرحية انتهت ولا بد من الخاتمة. وقد جاءت الأغنية بصيغة حوارية هادئة ذات طابع نشيدي وراقص في آن: