3

:: الحساسية السرديَّة في تجربة الأعشى الشِّعريَّة-3 – رؤى ثقافية (75) ::

   
 

التاريخ : 12/10/2013

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي   عدد القراءات : 1420

 


 

 

يُجمع الدارسون على وصف الشِّعر الجاهليّ- بخاصة، والشِّعر العربيّ القديم بعامّة- بأنه شِعر ذاتيّ غنائيّ.  وهم إذ يقولون ذلك ينظرون إلى الموضوعيّة- على كلّ حال- من خلال: الملحمة، والمسرحيّة، والقِصَّة، التي لم تظهر في الشِّعر العربيّ نهائيًّا، أو لم تبرز فيه بروزها في الشِّعر اليونانيّ القديم.  على أن (بروكلمان) (1) كان يتحرّى الدقّة في إلماحه إلى طبيعة الشخصيّة العربيّة والثقافة القـَـبَليّة، حينما قال: إن «العربيّ- من حيث هو شاعر- ليس موضوعيًّا تمامًا ليجدَ كفايته في فنّ كلاميّ واقعيّ محض؛ وإنما يضع فنّه قبل كلّ شيء في خدمة فخره بنفسه، واعتزازه بمجد قبيلته  فهو لا يزعم خلوّ القصيدة الجاهليّة من الموضوعيّة، ولكنه يعزو ما يراه فيها من غلبة الذاتيّة على الموضوعيّة إلى عوامل نفسيّة واجتماعيّة.  فقد أشار بروكلمان(2) مثلًا إلى ما بعثته القِصّة الأُسطوريّة لوفاء (السموأل) مع (امرئ القيس)، في حفظ دروعه، والتضحية في سبيل ذلك بابنه، من محاولة لاحقة لدى (الأعشى) لإنشاء «شِعر القِصَّة La ballade»، الذي راود فيه أسلوب الملحمة، مشيدًا بوفاء السموأل، وذلك في قصيدة من واحد وعشرين بيتًا:

شُرَيْحُ لا تَتْرُكَنِّي بعدَ ما عَلِقَتْ                  

حبالَكَ اليومَ  بعدَ القِدِّ أَظفـــاريْ

كُنْ كَالسَمَوأَلِ إِذ سارَ الهُمامُ لَهُ            

في جَحفَلٍ  كَسَوادِ اللَيلِ جَــــرّارِ

جارُ اِبنِ حَيّا لِمَن نالَتهُ ذِمَّتُهُ                

أَوفى وأَمنَعُ مِن جارِ ابنِ عَمّارِ

بِالأَبلَقِ الفَردِ مِن تَيماءَ مَنزِلُهُ                

حِصنٌ حَصينٌ وجارٌ غَيرُ غَدّارِ

إِذ سامَهُ خُطَّتي خَسفٍ فَقالَ لَهُ             

مَهما تَقُلهُ فَإِنّي ســــامِعٌ حـــــارِ

فَقالَ  ثُكلٌ وغَدرٌ أَنتَ بَينَهُمــــــا                

فَاِختَر وما فيهِما حَظٌّ لِمُختارِ

فَشَكَّ غَيـــرَ قَليلٍ ثُمَّ قــــــــالَ لَهُ                   

اِذبَحْ هَدِيَّكَ إِنّي مانِعٌ جــاري

إِنَّ لَهُ خَلـَــــفًا إِنْ كُنتَ قــــاتِلَهُ                    

وإِنْ قَتَلتَ كَريمًا غَيرَ عُـــــوّارِ

مالاً كَثيرًا وعِرضًا غَيرَ ذي دَنَسٍ             

وإِخوَةً مِثلَهُ لَيســـوا بِأَشــرارِ

فَقــــــالَ تَقدِمَةً إِذ قــــــــامَ يَقتُــــلُهُ                     

أَشرِف سَمَوأَلُ فَانظُرْ لِلدَمِ الجاري

أَأَقتُلُ ابنَكَ صَبرًا أَو تَجيءُ بِها              

طَوعًا فَأَنكَرَ هذا أَيَّ إِنكـــــارِ

فَشَكَّ أَوداجَهُ والصَدرُ في مَضَضٍ          

عَلَيهِ مُنطَــوِيًا كاللَّذْعِ بِالنـارِ

واختارَ أَدراعَهُ أَنْ لا يُسَبَّ بِها              

ولَم يَكُنْ عَهدُهُ فيها بِخَتّارِ

وقالَ لا أَشتَري عـــــــارًا بِمَكرُمَةٍ                

فاختارَ مَكرُمَةَ الدُّنيا  على العـــارِ

والصَّبرُ مِنهُ قَديمًا شيمَةٌ خُلُقٌ              

وزَندُهُ في الوَفـــــاءِ الثاقِبُ الواري

 

وهي القِصَّة المعروفة من أن امرأ القيس أودع  السموأل مئة درع، فأتاه (الحارث بن ظالم)، أو (ابن أبي شمّر الغسّاني)، ليأخذها، لكن السموأل تحصّن وامتنع، فأخذ الحارثُ ابنًا للسموأل، يساوم به أباه، فأبى السموأل تسليمه الدروع، فذبح الحارثُ ابنه(3). إلاّ أن تلك المحاولة، ذات النَّفَس الملحمي، لدى الأعشى بقيتْ- كما عبّر بروكلمان- «عملًا فَذًّا لم ينسج أحدٌ على منواله  ومعلوم أن الأعشى كان يجوب مجالس الأُنْس والغناء، داخل الجزيرة وخارجها، حتى قيل إنه لُقِّب بـ«اسْرُوذْ كُويذ تازي»، أي: «مغنّي العرب»، أو «صنّاجة العرب»، في بلاط (كسرى)، وقد سمعه يومًا يُنشد شعره(4)؛ فقد كان بُوْقَ ملوك، كما وُصِف، ومن أوائل المتكسِّبين بإنشاد الشِّعر في بلاطات الملوك، وذلك ما أتاح له أن يحتكّ بالمناخات الحضاريّة وأجواء المدنيّة السائدة في عصره، وما أكسبه لغة شِعريّة تظهر آثار الحضارة على مختلف مستوياتها الفنيّة، من معجمٍ لغويّ، وتركيبٍ أسلوبيّ، وبناءٍ تصويريّ، وموسيقى داخليّة.  ومن ثَمَّ، فلا غرابة أن يظهر لديه هذا النزوع القصصيّ في شِعره، كما لا يبعد أن يكون تعرُّضه لتيارات الثقافة الفارسيّة، بشِعرها السرديّ، هو الكامن وراء تلك الحساسيّة الملحميّة العابرة التي لفتتْ إليها بروكلمان.  ولئن زعم بعضٌ(5) أن أكثر قصيدة الأعشى من تزيّد الرواة، فإن ذلك- على التسليم بصحّته- لا يقلّل من أهمية التجربة بل يزيد منها؛ من حيث إن أشهر الملاحم أصلًا كانت نتاجًا جماعيًّا أكثر منها نتاجًا فرديًّا، وبذلك تنقل وعيًا جمعيًّا، لا مجرد وعيٍّ فرديٍّ لشاعر. 

ولقد لفت اختلاف الشعر العربيّ عن غير العربيّ في مسألة الذاتيّة والموضوعيّة بعض النقاد العرب القدامَى قبل المحدثين.  فها هو ذا (ضياء الدين بن الأثير)(6)، على سبيل المثال، يقول:

«إني وجدتُ العجم يَفْضُلُون العربَ في هذه النكتة المشار إليها؛ إن شاعرهم يَذْكُرُ كتابًا مصنّفًا من أوّله إلى آخره شِعرًا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل (الفردوسي) في نظم الكتاب المعروف بـ«شاه نامه»، وهو ستون ألف بيت من الشِّعر، يشتمل على تاريخ الفُرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع القوم، وفصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه.  وهذا لا يوجد في اللغة العربيّة على اتساعها وتشعُّب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر

أمّا المحدثون من العرب فيكاد الإجماع على (أن الشِّعر العربي القديم غنائيّ) يستقطب آراءهم.  فـ(جُرجي زيدان، -1914) (7)، يذهب إلى أن أكثره من الغنائيّ، وأن العرب- مثل سائر الساميِّين- أكثر ميلًا إلى «الخيال والتصوّر»، وإنْ كان لا يستبعد معرفة العرب ببعض الشِّعر الدِّينيّ الذي مُحِيَ لعدم تدوينه، ولاشتغالهم عنه بالحماسة بسبب الحروب، ثم لمخالفته للإسلام بعد ذلك.  و«الخيال والتصوّر» ليسا العائق وراء ظهور شِعر موضوعيّ لدى العرب، بل هما فَلَك الفنون جميعًا، ولعلّ زيدان إنما كان يومئ إلى العاطفيّة الذاتيّة في الأدب.  أمّا تعميمه الظاهرة على الساميِّين، فقد كذّبته الكشوف الحديثة، التي ربما لم يدركها زيدان، عن التراث الأكدي، والسومري، والكنعاني، وغيرها من آثار الشعوب الساميّة التي عرفتْ الملاحم والشِّعر القصصي. 

إن الأسباب الثقافيَّة هي الأقرب للتعليل العلمي لغياب الشِّعر الموضوعي عن تجربة العرب الشِّعريّة قديمًا. 

للبحث بقية تتبع

 

 

 

(1) (1983)، تاريخ الأدب العربي، تر. عبد الحليم النجّار (القاهرة: دار المعارف)، 1: 56- 57.

(2) انظر: 1: 62.

(3) انظر: الأعشى، (1950)، ديوان الأعشى الكبير، شرح: محمد محمد حسين (مصر: المطبعة النموذجية)، 179- 181.

(4) انظر: ابن قتيبة، (1966)،  الشِّعر والشعراء، تح. أحمد محمد شاكر (القاهرة: دار المعارف)، 258.

(5) انظر مثلًا: ، محمد محمد حسين، فيما علّقه على (ديوان الأعشى الكبير، 178)، دون الإدلاء في ذلك بدليل مقْنع.

(6) (1984)، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تح. أحمد الحوفي؛ بدوي طبانة (الرياض: دار الرفاعي)، 3: 344.

(7) انظر: (1957)، تاريخ آداب اللغة العربية، عناية: شوقي ضيف (القاهرة: دار الهلال)، 1: 61- 63.

*

الحساسية السرديَّة في تجربة الأعشى الشِّعريَّة

-2-

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.