جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

فيلم تاريخي طويل عن جدي وجدتي


د. إياد قحوش
12/12/2006
  

رميت كاميرة الفيديو على طاولة في غرفة الجلوس في بيت جدي، وغادرت لألحق بأصحابي الذين تجمعوا للتو في كافيتيريا مرمريتا، للاحتفال بفوز فريق ضيعتنا لكرة الطائرة على منتخب بلغاريا. كان يوما سعيداً جداً لأهل ضيعتي ولي، بالرغم من أنني لم أعرف كيف أسجل المباراة بكاميرا الفيديو الجديدة التي أرسلها لي أخي المغترب منذ زمن.

عندما استفقت في صباح الغد بعد تلك السهرة الطويلة، قصدت بيت جدي لآخذ الكاميرا، لأكتشف أن بطاريتها قد نفذتْ وأن الفيلم قد لُفَّ الى نهايته، فأدركتُ أن الكاميرا التي لم أعرف كيف أستعملها خلال المباراة كانت تصور طوال المساء، وهي ملقية على الطاولة. كان حزني كبيراً. أخذتُ الفيلم ورميته في أحد الأدراج وقمتُ بشحن البطارية من جديد كما اشتريتُ فيلماً جديداً.
ومرَّتِ الأيام، وبالأمس عندما عدتُ في زيارة سريعة للوطن، تفقدتُ بعض أغراضي الشخصية، ووجدتُ الفيلم إياه. وضعتُ الفيلم في الكاميرا التي كانت معي لأتفاجأ بفيلم أهملتُه لعشرين سنة يصوِّر جدي وجدتي لعدة ساعات في ذلك المساء.


تجلس جدتي على كرسيٍّ صغير بعيداً عن الطاولة، وهي ترتق جوارب جدي بصبر وأناة، أراها تحاول لمرات ومرات أن تضع الخيط في ثقب الإبرة، وبدون تأفُّفٍ تفشل لعشرات المرات الى أن تقول: "وهالمرة هاه" بعد أن أفلحتْ.

تنهض جدتي قليلاً، تستطيع خلالها سماع صوتها مدندناً: "حوِّلْ ياغنَّام حوِّلْ .. باتْ الليله هينْ"، صوتٌ ضعيفٌ يقطِّعه صوتُ حنفية الماء، ثم تقترب جدتي بعد دقائق وبيدها كأسُ (زهورات) تضعها على الطاولة. تجلس جدتي الآن أمام الكاميرا، وقد جلبتْ معها طنجرةً وطاسةً صغيرة وتبدأ بلفِّ ورق العنب. تنهض بعد قليل، وقبل أن تعود تستطيع أن تسمع صوت المرحوم رياض شرارة من تلفيزيونهم الصغير، في برنامجه الشهير آنذاك "مين الأول؟" عَ الـ(إل. بي. سي.).

ترشف جدتي بعض الزهورات ثم تضحك بصوت خفيض مراتٍ ومرات وهي تنقل نظرها بين ورق العنب والتلفيزيون.

عندما يأتي جدي، تنهض جدتي من كرسيِّها، تغسل يديها بسرعة، تأخذ سترته الخفيفة، تنشرها على كرسيها وتدخل قليلاً لتعود ومعها طبق من القشّ وفيه صحنٌ من أقراص الكبه وجاطُ لبن. لاتستطيع رؤية جدي وجدتي لكنك تستطيع سماع ضحكاتهما وتفاعلهما مع برنامج المرحوم رياض شرارة.

ينتهيان من العشاء، لتعود جدتي الى لفِّ ورق العنب وأسمع من بعيد جدي يحاول أن يثلِّث بيتَ (عتابا) يقول: "بقر شرق بقر غرب بقر جاع .. حبيبي طالت الغيبه بقى ارجاع .."

يعود بعد قليل جدي لابساً بيجامته، ليرد على صوت الهاتف ويبدو أن المتَّصل أخته من بيروت تخبره بأنها قادمة لزيارتهم ولتمضي بعض الوقت في ربوع الوادي الجميل. أسمع جدتي تقول: "قلّها صايمِة شي! قبل عيد السيدة؟ لأني عم لفّ ورق عنب". يردُّ جدي بعد أن يغلق السماعة: عم تقول "بدنا نعمل مشاوي، معناها لانْها صايمِة وَلا مَنْ يحزنون".

تحمل جدتي الطنجرة والطاسة وتدخل بهما الى المطبخ، بينما تستطيع سماع مذيع التلفيزيون الآن وهو يتحدث بلهجة مصرية. بينما جدي يتمتم: "كل الأخبار عن إسرائيل، الله يحرق إسرائيل".

ثم يدخل جدي الى غرفة النوم بعد أن يقبِّل جدتي على كتفها، بينما هي تقوم بمسح الطاولة قائلة: "تصبح على خير، أنا سأتأخر لأني وعدتُ (إياد) بأن أنتهي من تطريز هذا المنديل له بوردة حمراء وقلبين، قال أنه سيهديه لصبية جميلة". ثم تقول: "سأترك شباك الباب مفتوحاً ليتمكن (إياد) من فتح الباب عندما يعود متأخراً لأنه قال سيعود ليأكل من الكبه المشوية التي عملناها اليوم.


ينتهي الفيلم هنا، ليبدأ شريط ذكرياتي أنا فأشرد لدقائق في تلك الحقبة الجميلة من حياتي، عندما كان لي بالاضافة لأهلي جدان وجدتان، لايقلون حبا لي عن أهلي.


أشعر بالألم أحيانا وأنا أرى جيل اليوم يتأخر في الزواج ,وفي انجاب الأولاد فيحرم أطفاله من حنان الجدة والجد ويحرم الجدة والجد من اللعب مع الأحفاد.

 

اليوم .. بعد عشرين سنة، لازلتُ أشعر برقَّةِ وحنان جدتي، ولطفِ ومحبة جدي، وأحسُّ بنكهة الكبَّة في فمي وخبز التنُّور والزيت والزعتر. أشتاقُ لهدوء ذلك البيت وبساطته، أشتاق لجرَّة الماء، ولسلَّة العنب، ولزبيب جدي ولليرة جدتي صباح العيد، وأحتاج أكثر ما أحتاج لذلك الحب المجاني الكبير الذي عشنا به وترعرعنا على دفئه.




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=586