-1- على الرغم من أن الإعلام الغربي، وجوقته من الببغاوات، لا يكفّ عن التذمّر من الإرهاب، والأصوليّات، والتمييز العنصري، وعدم الديمقراطيّة، ورعاية الحقوق الإنسانيّة، فإنه في المقابل لا يتهم أحدًا من بني جلدته أو دِينه، أو أصدقائه أو حلفائه، بالمسيحية السياسيّة، أو باليهوديّة السياسيّة- على طريقة «الإسلام السياسي»- أو بالأدلجة، والأصوليّة. كيف، وهو طابخ شعاراتنا لنا، فيما لأهله ما يشاؤون، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، كالشعراء مع اللغة؟! كيف، والمؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة هي مؤسّسة دِينيّة، أصلًا وفصلًا، والدولة العبيريّة برمّتها تستمدّ كلّ مبرّراتها وشرعيّاتها وتزييفاتها التاريخيّة من الدِّين اليهودي والتلمود. وإنْ لم تجده فيما كُتب في تلمودها وأسفارها، ابتكرته، وتأوّلته، وزوّرته من جديد، وأعادت تدويره في العالم أجمع! كما أنه أيضًا- ويا للمهزلة!- لم يتّهم أحدٌ الباشا (المنعول)- صاحب أشهر عبارة شكر في التاريخ: «شُغرًا جغيلًا»- بالمسيحيّة السياسيّة، يوم أن كان يمثّل باشا الباشاوات، ولمّا كان يدّعي أن غبطة/ فضيلة/ سماحته يأتيه وحيٌ من السماء مباشرة، بل لقد أصبح كليم الله، يناجيه بما ظلّ يفعله بالعرب والمسلمين لثماني سنوات، بحُجّة محاربة الإرهاب! وهي سنوات عن سنين. على نحو قول (نزار قبّاني) (1): «فنحن منذ ثلاث سنين لم ندخل في احتمالات اللون الأزرق...». «ثلاث» و«سنين»، على طريقة العوامّ في عدم التفريق بين «السنين» و«السنوات»، وكان الصواب أن يقول: «ثلاث سنوات»، بجمع القلّة، لا «سنين» بجمع الكثرة. غير أن خطأ نزار كان صواب (بوش). فقد كانت ثماني سنين بالفعل، كثيرة وطويلة. ليحوّل الباشا حربه السياسيّة، المطبوخة سَلَفًا، إلى حرب دِينيّة، صليبيّة إسلاميّة. مع أن الذين فجّروا بُرجَي التجارة في (منهاتن) فجّروا المسيحيين واليهود والمسلمين في آن، ولا علاقة للإسلام بفعلتهم. لكنه الربط المسيّس للدِّين من كلا الطرفين، حتى بات الإسلام يَنكأ جرحًا في الغرب، لا لحماقة بعض المسلمين فحسب، ولكن أيضًا للاستغلال التسييسي المقابل، الذي بادر إلى ربط الإسلام- بوصفه دِينًا- بالإرهاب، وجعل الإسلام وصفًا للإرهاب، في حين يُلبس سياسته هو مسوح الدِّين المسيحي، ولا ضير؛ وذلك لضرب عصافير عدّة، سياسيّة ودِينيّة وثقافيّة، بحَجَرٍ واحد! مترجمًا بوش، بزعمه التنبؤي- ومن وُجهة أمثاله- ما يُنسب إلى (السيّد المسيح عيسى بن مريم)، عليه السلام: «ما جئتُ لأُلقي في الأرض سلامًا، بل سَيفًا! » من أجل تلك المنابذات كلّها باتت إقامة مركز إسلامي بائس في (نيويورك)، مثلًا، جريمة كبرى، تثير «ضجّة بين أتباع أحمد والمسيح»، كما عبّر عن ذلك- حسب «معتقده»، أو ما أسماه بـ«رأي واجتهاد»- (السيّد صادق جلال العظم).(10)، مذكِّرًا المسلمين- لا فُضّ فوه!- بأن بيوتهم من زجاج، وأن عليهم أن يحترموا نفوسهم! متسائلًا عن مدى الاستفزاز والإهانة الناجمين من مشروع بناء المركز الإسلامي والمسجد بالقرب من «البقعة رقم صفر» (جراوند زيرو) في مدينة نيويورك، لكرامة الأمريكان؟ متناسيًا أن أمريكا ليست بقوميّة عِرقيّة، وليست دِينًا واحدًا على ضِفّة المواجهة، بل هي نموذج للتعدّد والتنوّع من الفسيفساء البشرية، وأن كثيرًا من هؤلاء الذين نافح عن كرامتهم العظمُ هم عربٌ وأفارقة وأسيويّون ومسلمون، وهم أعرف بشعاب كرامتهم وحقوقهم الدستوريّة والوطنيّة منه. ولقد داور الرجل في ذلك المقال باحتراف متمخِّضًا عن زبدة المقال، أو «المطلوب إثباته»، وهو: التبرير غير المباشر لحرق القرآن الكريم- أو تهديد الـ Backlash الأمريكية بإحراق القرآن بطريقة طقوسية مشهدية عامّة، بمناسبة ذكرى 11 سبتمبر 2001، والتهديد الذي أطلقه القسيس الإنجيلي من ولاية (فلوريدا)- كِفاء ما قام به بعض الأقلية المسلمة في مدينة (برادفورد) في (بريطانيا) سنة 1989 من إضرام النار برواية (سلمان رشدي) «الآيات الشيطانية». إضافة إلى تذكير العظم بتدمير (طالبان) عام 2001 لأصنام بوذا! وهكذا يُثبت بعض العرب أنهم أكثر إنصافًا للغرب ضد سطوة العرب والمسلمين من الغربيين أنفسهم، وهم ما يفتؤون يقدِّمون إلى الغرب النصائح والتوجيهات لإدارة شؤونه، على الطريقة العربية، في عقر داره، فإن غابت عنه أصول الحكمة المشرقيّة أو العدالة العربيّة ذكّروه بها، مستنبطينها له بكل حصافة- كما فعل العظم- وإنْ، كما قال، من فقه: «الحكمة العربية الشعبيّة الشائعة والقائلة: من كان بيته من زجاج لا يرمِ الناس بالحجارة»! ومع أن هذه الحكمة- على حدّ علمنا حتى الآن- ليست عربيّة، فضلًا أن تكون «شعبيّة شائعة»، فلا بأس؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها؛ فهو أحق بها وأهلها. والغرب شاطر، ويلتقط الحكمة دائمًا، بل ينتحلها انتحالًا على مرأى من العالم ومسمع، منذ التقاطه حكمة (ابن سيناء) المشرقية إلى التقاطه حكمة (ابن الشاطر الدمشقي) الفلكيّة.. إلخ. إلخ. إلخ. والمهم هنا ليس تحقيق أصول الحِكَم والأمثال الشعبيّة وهجراتها بين الشعوب، بل أن يستفيد الغربُ من حكمائنا، وملتقطاتهم المعرفية، فلا يُفَرِّطَنَّ في حقوقه المهدرة، ليدع- لا سمح الله!- الأقليّات المسلمة، أو حتى الأكثرية المسلمة، تستغفله في دياره، وتضحك على ذقونه، وتنسيه أحداث التاريخ، فإذا هو يسهو أو يتسامح أو يتهاون، باسم الديمقراطية، أو الحقوق الدستوريّة، أو حقوق الإنسان، أو حقوق الأديان، أو ما شابه ذلك من خزعبلاته المبتكرة الحديثة، بل عليه أن يستفيد من خبراتنا السياسيّة الأصيلة، ويحاكيها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فيعامل أمّتنا وفق نواميسها العريقة. ونحن، بحاتميّاتنا المعهودة، على أتمّ الاستعداد أن نتطوّع لدعمه «اللوجستي» في هذا المجال، إنْ لزم الأمر! (1) من نصه بعنوان «هل تجيئين معي إلى البحر»، من مجموعته «هكذا أكتب تاريخ النساء». (2) انظر: (2009)، الرد على البهتان في رواية عزازيل، (؟: ؟)، 17. (3) إنجيل متى، الإصحاح 10: 34- 36. (4) م.ن، 3: 10. (5) م.ن، 12: 30. (6) م.ن، 12، 16. (7) م.ن، 15: 24- 26. (8) م.ن، 14: 14- 21. (9) م.ن، 21: 18- 19. (10) الصفحة الثقافية، جريدة «الجزيرة» السعوديّة، عدد الخميس 19 ذي الحجّة 1431هـ.
|