3

:: من نــزار قبّاني إلى هنري زغيب: يتناثر النبض كريش العصافير ::

   
 

التاريخ : 11/01/2013

الكاتب : خاص - جماليا   عدد القراءات : 2308

 


 

«لأن الوفاء يبقى نقيًّا كريشةٍ إلى دواةٍ، ولا يسقط متناثرًا كريش العصافير» استجاب الشاعر هنري زغيب لـ«مشيئة غالية متوهّجة بسناء الفكر والرؤى»، فأخذ من محفوظاته رسائل الشاعر نزار قبّاني إليه، يوم كان زغيب في منآه المؤقت، في مدينة بحريّة على شاطئ فلوريدا، ليُطلعها إلى الضوء، وهي ذات زمنين ارتبطا بِسَكَن نزار: زمن جنيف (1989 ـ 1990)، وزمن لندن (1992 ـ 1993).

 

 

في نظرة أولى يُظَنُّ أن الخصوصيّة تفرض بقاء الرسائل في خُفوت ظلٍّ. ربما صحيح ذلك لو ان الرسائل على شيء من رتابة المودّات وتكرارها، أما أن تكون بين شاعرين في ألق الحضور، والكلام فيها: إشراقات، أو إطلالات على ثقافات وأنشطة، أو هواجس خوف على وطن مصلوب أمامهما ينزف ويتوهّج... فتلك ضرورة لأنها لا تعود ملكهما وحدهما، فتتجاوز الـ «أنا والآخر»، وتصل من ماضيها إلى حاضرنا وكأنها المشهد المستمرّ أمامنا على بعض تعديل في اللاعبين والأمكنة.

يوضح الشاعر هنري زغيب في تمهيد سبق نقل الرسائل من دُرْج المحفوظات إلى العلانية: «... في هذه الرسائل بُعدٌ مكاني لأنها رَبَطت بين حاضر مغيّب (لبنان وبيروت يومها)، وحاضرٍ مستقبلي: تنقُّل الإقامات والهجرات، ما جعل نزار يطلب «اللجوء إلى أمّنا الكلمة، بعدما قتلوا جميع الأمّهات».

 

... وفيها: «بُعدٌ زمني يلازم نشرها في هذا «العصر المالح» الذي فيه «يحاولون سرقة أصابعنا ومدامعنا»، ومعظم المدن العربيّة تستيقظ على الصحوة، وكلانا (نزار وأنا مثله) مؤمن بالقيامة وصحوة الضمير وبالخلاص الآتي».

...و«لأن نشر هذه الرسائل (14 رسالة) اليوم بمضمونها وأفكارها ضوءٌ لكلّ من حَمَل قلمًا ودافع عن قضية»، يعتبر هنري زغيب أنها: «ما زالت تعبّر عن القلق والاهتمامات الفكريّة والاجتماعيّة والذهنيّة (مع انها كُتبت في زمانٍ ومكان مختلفين عن اليوم)، وما زالت خواطرها صاحية مُتيقظة في هذا الزمن».

بين جماليّة التقويم وجمالية نصوص الرسائل، تأتي إيضاحات مثبتة باستشهادات أصول نُشرت في زمنها، واستعيدت مصوّرة فأكملت بالتوثيق ما يؤكد الحاجة إليها.

 

تفْرِد الرسائل هامشًا لمضمون يحمل عمقًا وشفافيّة، يجمع بينهما قلمٌ شاعرٌ يُعممُ الأدب الخاص، ويؤهّله للحضور شاهدًا نقيًا واضحًا لا يزخرف كلامًا ليخبئ خلف بريقه رمادًا، بل يفيد من الذكريات أو المدوّنات، التي على عفويّتها، تكشفُ أسرارًا هي في شخصية كاتبها ملامح أساسية التي تُبنى عليها صورته، ومنها ينطلق إلى العام من الكتابة، نثرًا أو شعرًا، في عفويّة الصياغة الأم لأفكار وهواجس تردّد مرّات في الاعلان عنها، لأسباب أو لظروف تفرض ذلك.

هذه الرسائل، بل هذا «التهاتف» فوق الورق من شاعر إلى شاعر يكشف مدى التقارب بينهما روحًا وتطلعات، كما يكشف عمق الخوف على وطن هو أكثر من مساحة فوق جغرافية العالم، ويحار القارئ أيهما الأكثر نزفًا وحبًّا وشوقًا لزمن لا يعود «يتناثر فيه كريش العصافير».

العاطفة الطالعة من النصوص ـ الرسائل لم تكن أفقية منتمية إلى الآني، ولو كان لها محركًا. إنها عموديّة مشدودة إلى القمم في أجلِّ معانيها واشراقاتها القادرة على محو رواسب غيوم حملتها رياح من شرق وغرب مع رائحة الحرائق المشتعلة.

لغة هذه العاطفة ليست واحدة تخضع لرواسب القواميس العتيقة، أو تماشيها أو تقيم في جوارها، هي لغات قلب وعقل وعين وفم تفتح اللهفة لها ألف باب وباب، من دون تصنيفها بين رمزيّة أو حديثة، أو كلاسيكيّة، أو سورياليّة. تكفيها اللحظة التي فيها لتحدّد هويّة إنسانيّة رمت اليباس أرضًا، وسكبت الماء حبرًا فبشّر بسنونواته فضاءات في نفوس مؤهلة للحياة، ومستحقّة نعمة أن تحياها لا أن تعيشها.

بضعة أحداث دخلت النصوص متحدّية سياقها، ولم تخرج عن كونها شهادات فواصل، بين ما سبقها وما سيليها، مسجلّة ضرورة احتواء الآني في المناسب من الحضور من دون إرباك.

حجّة هي هذه الرسائل، أيضًا، لتصوير هنيهات مرّت في كلام أصدقاء وآراء تزيد ايضاح «بورتريهات» لم تكن لتظهر جليّة، كان ينقصها لتكتمل وتُكمل تلك التي كتبها هنري زغيب لنزار، أو ردّ بها وكان له فيها رأيٌ يشكّل، من دون شك، موقفًا يضيف ويوضح ويؤكد.

نبضٌ صارخ سمعتُه في هذه الرسائل، وأسمعه جواباً له يستمر هادرًا في نتاج صديقي هنري زغيب المتكامل شعرًا وأدبًا وبحوثًا وسيرًا ومقالات هي في اليومي من حياتنا، وفي استشراف آياتها علامة نجمة.

جوزف أبي ضاهر

 

*) هنري زغيب: "نزار قبّاني... «متناثرًا كريش العصافير»" - 14 رسالة غير منشورة مع وثائقها والتعليق عليها، منشورات درغام، 128 صفحة من القطع الكبير.

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.