3

:: جلباب أزرق - قصة قصيرة ::

   
 

التاريخ : 05/06/2012

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1746

 


 

 

 

 جلس ساهماً، رأسُه محنيٌّ، قبضتاه في حجره وساقاه مفرودتان على الحصيرة. تمتم: "الله يرحمك ياسعد". ربتتْ عطيات الواقفة بجواره على كتفه. زفرت شاخصة إلى الفراغ ثم اتجهت إلى داخل الدار حيث الحجرة الوحيدة المسقوفة بعروق الخشب قائلة: "وما تنساش الجلابية".

 برزت الجلابية الزرقاء في مخيلته بالأزرار البيضاء عند الرقبة والخطوط الفضية. لم يهنأ بها جودة. ارتداها مرتين فقط. ثاني يوم شرائها، وطاف بها البلد قبل المغرب سعيدا بخجل. ومرة في العيد. ولما مرض سعد واستلزم الأمر سفره لمصرأعارهم جودة الجلابية زاعقا من خلال أسنانه الضخمة "هي الجلابية ح تطير يعني؟".

 دمعت عيناه "الله يرحمك ياسعد" ما أن اشتد عوده حتى شرع يعافر لأجل اللقمة، فلم يعد يراه إلا خطفا وهو يلقي السلام مهرولاً، وعاش في كوخ من الخوص على طرف أرض أبو اسماعيل، يشتغل مقابل السكن ساعتين يومياً، يستريح شوية ويسرح على رزقه في أي مكان. ولم تبق منه في الذاكرة سوى صور معدودة لأن حياته كانت دورانا في ساقية، والثور لو لفّ بالساقية مليون مرة تمسي كلها صورة واحدة. وخرج من الدنيا كما دخلها عريانا لا امرأة تبكيه ولا ولد ينعيه. الأعمار بيد الله، صحيح بني آدم مثل الدخان لحظة ويختفي.

 عادت عطيات بيدها كوب شاي وضعته أمامه وقالت: "بكره من الفجر تطلع على مصر تخليهم يدفنوه في مقابر الصدقة ما فيش فلوس نجيبه البلد". قال خليفة بصوت هامد "قبر مين اللي ماحدّش زاره؟ قبر الغريب البعيد عن داره". مصمصتْ شفتيها "إحنا معانا وقلنا لاء ياخليفة؟". عقدت يديها على بطنها بيأس وأكدت "وماتنساش الجلابية".

 الجلابية؟!

 حين مرض سعد سقوه نعناعاً مغلياً. طحنوا له رأس ثوم مع ليمون. ولم يتحسن. ظل يئنّ على نور لامبة جاز وحده. حنّ عليهم أبواسماعيل بفرخة التهمها سعد في دقيقة، وبعد شوية رجع يعض على شفتيه المشقوقتين. يضغط على بطنه، يرفع ساقه ويدفعها في الهواء لأعلى. في عيادة المركز قال الدكتور" خدوه على مصر بسرعة. تلزمه عملية في مستشفى كبيرة". دار خليفة في البلد ثاني يوم يلمّ فلوس المشوار من كل نفر شوية. وليلة السفر قالت له عطيات: "أنت يا خليفة ح تنقل أخوك بجلابيته اللي عليه؟ أنت عارف بتوع مصر، إن لقوه وسخ كده ممكن ما يدخلهوش عندهم". سكت خليفة. جودة كان قاعد. بصّ لخليفة وقال له " أنا عندي الجلابية الزرقاء، خدوها". زام خليفة زومة طويلة ممطوطة لايفهم منها شيئاً. وأقسم جودة وحنجرته البارزة تهتزّ أن يأخذوها. شكره خليفة: "معلش مايصحّش يظهر بجلابية لامؤاخذة وسخة وكمان مقطعة". ردّ جودة بابتسامة كشفت أسنانه الضخمة: "هي الجلابية ح تطير يعني؟ لما يرجع بالسلامة هاتوها". نهض. غاب قليلا وعاد بالجلباب ملفوفا في كيس. رفعه في الهواء وزر عينيه يتأمله كمن يوضح قيمته لمن حوله، ثم نفضه بظاهر كفّه وانحنى وناوله لخليفة.

 ثاني يوم الصبح، كان خليفة يجرجر سعداً على السكة المحاذية للزراعة، يشجعه على السير هاتفاً: "أنت زيّ الفلّ ياسعد". حين بلغا موقف السيارات البيجو القديمة دفع سعداً إلى المقعد الخلفي، واشتبك جيب الجلباب بمقبض الباب وكاد أن يتمزق لولا ستر ربنا.

 تكوم سعد على المقعد الخلفي رأسه ملقى للوراء مغمض العينين ولم ينطق أو يئن طول الطريق.

 في قصر العيني فرشوا له حشية على بلاط الطرقة "لغاية ما يفضى سرير". وقف خليفة مدة بجواره ثم اكتشف أنه لا يفعل شيئاً فانحنى زاعقاً في أذنه: "أنت زيّ الفلّ ياسعد" وانصرف، وقبل أن ينقضي الأسبوع تلقّى خليفة خبر وفاة سعد.

 الآن يستعد خليفة للسفر لإنهاء إجراءات الدفن. هذه المرة رافقه جودة حتى موقف السيارات وهو يكرر: "ربنا يكون في العون، وما تهتمِّش بأي شيء". قال خليفة لنفسه إن جودة رجل غلبان عايش على صنع أقفاص من الجريد ولابد محتاج الجلابية.

 في المستشفى بصم خليفة على طلب دفن أخيه على حساب الحكومة، وسمع صوت الموظف يقول وهو يعبىء الاستمارة: "حيث أنه معدم". لق خليفة كلمة معدم في رأسه، وصعبت عليه فقال للموظف: "ممكن لا مؤاخذة كلمة غير دي؟". وجاءه الرد بحزم: "لاء". تمتم لنفسه "الله يرحمك ياسعد آخرتها تطلع معدم؟". وغادر الحجرة ليلقي نظرة أخيرة على سعد فوجده ممدداً مغطّىً بملاءة خفيفة ويده مدلاة بجواره. أمسك بيده الباردة: "معلش ياسعد كنت عاوز آخدك البلد لكن مش قادر". تلفت حوله يفتش عن الجلابية فلم يجدها. خرج يستفسر عن متعلقات المتوفي فأجابه موظف من وراء شباك سلك: "أي متعلقات؟". قال: "المرحوم كان جاي بجلابية. مش بتاعتنا لازم نردها". نظر الرجل في دفتر: "ما عنديش شيء متسجّل باسم سعد، لا جلاليب ولا فلوس ولا أي حاجة". ممرّضٌ كان واقفاً يدخّن قرب الشباك قال لخليفة: "كنت سألت عنها قبل الغُسل، يمكن اتقطعت ولا اترمت. شكلها إيه؟". برزت الجلابية أمامه: "زرقاء، بخطوط فضّي، وصف زراير عند الرقبة". همس له رجل عجوز ببيجامة واضح أنه من زمان في المستشفى: "إطلع للمدير في الدور التاني واشتكي".

 أمام باب حجرة المدير المكسو بالجلد انتظر خليفة ساعة وحين سمحوا له بالدخول ارتبك أمام المدير من فكرة أن الجلابية حاجة صغيرة لا يصح أن يشغل بها مسؤولاً في الحكومة، فقال بخجل: "سيادتك أخويا جه المستشفى بجلابية ومات. مش بتاعتنا ولازم نردها". استغرب المدير: "جلابية إيه؟ الكلام ده في الأمانات مش هنا". وضّح له: "سيادتك أنا سألت قالوا مافيش، ولامؤاخذة أنا عارف إنه جه بجلابية زرقاء". قلّب المدير شفته" يعني عاوزني أسيب شغلي وأقعد أشوف مين ضاعت له جلابية ومين راح له لباس؟ الناس دي إيه؟!". أشار برأسه إلى الباب "تفضّل". تراجع خليفة بظهره: "لا مؤاخذة". خرج ووقف في الطرقة بجوار نافذة كبيرة يلتقط أنفاسه. "ربنا يعطي الحياة وهو من يستردها. لكن الجلابية واخدينها من جودة؟".

 هبط على السلم. حين بلغ الطابق الأول تناهت إلى سمعه صيحات تتدفّق من الشارع. وعند بوابة الخروج الضخمة شاهد بحراً بشرياً. ناس بيافطات يهتفون. آخرون على الأكتاف يلوحون بقبضاتهم. سيارات شرطة. بنات تصرخ. عيال تجري. شابة مرمية على الرصيف وسيدة على ركبتيها تنحني فوقها وترتد تلطم خديها. وفجأة اندفع من خلفه شاب يجري فأسقطه على الأرض. نهض مذهولاً. تلفّت حوله. استدار برقبته لاتجاه محطة القطارات. انطلق يهرول للأمام.

 في محطة القطارات اشتري سندويتش فول. التهمه في وقفته على رصيف قطار الصعيد. بدأ القطار يتحرك فركبه. استراح على أرض باب بين مقطورتين. راح يدقق النظر في الجلابيب التي تعبر أمامه ويقدر أثمانها. لا يقل الواحد عن ثلاثين أو أربعين جنيها خبط لزق. سمع صوت مفتش التذاكر فنهض بسرعة يختفي في المقطورات الأبعد، واختبأ في دورات المياه ثلاث مرات، ثم قرر أن يهبط ما أن يتوقف القطار في الفيوم، ويواصل بالقطار التالي.

 خرج من المحطة إلى الميدان الواسع حولها، وكانت في السماء بقية من حمرة الشمس، وهبات هواء باردة تتدفق إلى الجو. وخطفت بصره كلوبات مضاءة في مدخل سرادق ضخم. وسمع صياحاً ينبعث عبر مكبرات الصوت. مال على عجوز يقف أمام نصبة شاي: "فيه إيه؟". أجابه وهو يشطف كوباً في طست ماء: "انتخابات وناس بتتكلّم. ح تشرب شاي؟". هزّ رأسه بالنفي وبصره مرسل إلى داخل خيمة السرادق حيث وقف رجل أنيق بيده ميكروفون يصله صوته متحدثاً عن "حقوق الإنسان" و"المجتمع الذكوري الأبوي"، ولم يفهم خليفة من العبارة سوى كلمة المجتمع، ولم يدرك علاقة "الأبوي" بالموضوع، ثم نطق الرجل بكلمة غريبة هي إما لبرانية أو لبرارية. وعطلت الكلمة لأنها صعبة على الفهم وفي النطق متابعة خليفة للكلام، فبرزت أمامه الجلابية الزرقاء. وقال لنفسه: "لو كان سعد في وعيه ماكانتش الجلابية راحت". هبط الرجل من عند المنصة وبعث التعب واليأس في نفس خليفة جرأة، فجري خلفه يقول له: "ياريس. موضوع صغير. فيه جلابية في قصر العيني مش عارفين راحت فين. مش بتاعتنا لازم نردها". لكن الرجل انهمك في الحديث مع آخرين خلال سيره إلى خارج السرادق. وصعد مرشح آخر، بسمل وحوقل وأكد بنبرة آسية أن سبب كل المصائب ضعف الأخلاق، المدرس ضعيف الإيمان همّه الربح فانهار التعليم، ورشوة الموظف مهتز العقيدة هدمت الاقتصاد، ولو أصلح كل فرد حاله مارفع التجار أسعار السلع، ولا سمحت العائلات لبناتها بخلاعة ارتداء المايوهات. ورفع الرجل ذراعيه لأعلى كالمبتهل يكرر "المايوهات" ضاغطاً على الكلمة وهو يلفظها من بين أسنانه بألم. وتوقف خليفة عند "ارتداء" ووثب الجلباب الأزرق إلى رأسه مفروداً واضحاً. وتساءل كم كلفت جودة قماشاً وتفصيلاً؟. وما أن ختم الرجل حديثه حتى هرول خليفة وراءه: "ياريس. فيه جلابية مش عارفين راحت فين. مش بتاعتنا". أخرج الرجل بطاقة أعطاه إياها: "تعال لنا المقر وستخرج راضياً بإذن الله". وتكلم شخص على ملامحه هيبة العلم عن الدستور والبرلمان وانتخابات نزيهة ودولة مدنية، وجرى خليفة حتى أصبح في مواجهته: "ياريس. الجلابية. ياريس" وشرح الموضوع وهو يلهث. فوضع الآخر نظارته في جيب الجاكتة الداخلي وقال له: "أهم حاجة دلوقت الجانب التشريعي". وكان تعب اليوم الطويل كله قد حط في ساقيي خليفة وقدميه فلزم الصمت وهو يثني أصابع قدميه لتحت وفوق داخل الصندل البلاستيك.

 حلّ موعد القطار فاتجه خليفة إلى المحطة وركب. ساعدته العتمة على الزوغان من المفتش. ووقف وحيداً مرهقاً غاضباً وقال لنفسه: "يعني جودة ح يعمل فيك إيه؟ ملعون أبوه على أبو جلابيته".

 حين هبط إلى المنيا كانت الدنيا قد ليّلتْ، ودخل إلى البلدة بين نباح الكلاب على السكة الضيقة. مشى حتى لاحت في العتمة الساقية المهجورة وخلفها البيوت المنخفضة المتلاصقة وأكوام السباخ الراقدة أمام أبوابها. تذكر ذراع أخيه المدلاة في الهواء. توقف مكانه تحت السماء التي تلمع نجومها في الظلمة الشاسعة. رفع عينيه للسماء. خفض بصره. تطلع ثانية لأعلى ونفخ في الهواء بألم: "يارب. أنت من يعطي الحياة وأنت من يأخذها. ماقلناش حاجة. لكن الجلابية مش بتاعتنا ولازم نردها. يارب".

***

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.