3

:: جدليّة الحبّ والواجب في: "مسافات ملتبسة" لإيلي مارون خليل ::

   
 

التاريخ : 17/04/2012

الكاتب : ناتالي الخوري غريب   عدد القراءات : 2737

 


 

بعد إصداراته الشعريّة والأكاديميّة والتربوية والمدرسيّة والروائيّة، ها هو الاديب والشاعر إيلي مارون خليل في روايته التي صدرت مؤخّرًا "مسافات ملتبسة" عن (دار الفكر اللبناني)، بـ 207 صفحات، يرسم تلك الخطوط المتشابكة، بين الحقيقة والحلم، الواقع والمرتجى، الحقّ والواجب، المركز والدائرة.

غالبًا ما تكون المسافات محدّدة واضحة، لأّنّها تنتمي إلى عالم محدَّدٍ مُتَناهٍ، لكن حين نتكلّم على مسافات بين الأنا والآخر، لا بدّ من أن يكون هناك وضوح للأنا مع الذّات، لكنّ الإشكاليّة الكبرى التي طرحها الأديب، في هذه الرواية، تكمن في التباس المسافة بين الإنسان وذاته، إنّه الصراع الذي ما انفكّ يعيشه الإنسان بين ماضٍ لا يموت فيرسم مستقبلًا تلتبس أحداثه حتى على مَن نَسَجَها، فتعيشه شخصيّات هذه الرواية، لتقرّ بعالم الكتابة، عالم الصدق والمصالحة مع الذات، عالم الطمأنينة....

وأبرز الشخصيّات التي حملت قضايا الكاتب الفكريّة هي ثلاث:

ماريّا وحمّلها جدليّة الواقع والحلم، الحبّ والواجب.

 زوجها خالد، وقد جسّد صراع الشكّ والثقة، الأدب والتجارة.

 حبيبها رمزي، الموظّف في دار النشر عند زوجها، وقد جسّد صراع الكتابة والطمأنينة.

مع المرأة البطلة: "ماريّا"، يعرض الكاتب إشكاليّة العلاقة الملتبسة للمرأة بين الحبّ والواجب، بين الخضوع "لبيت الطاعة الزوجيّ"، وتحرُّر الذات في الانقياد إلى الشعور الحقيقيّ بالحبّ المحرِّر، بين التقنّع والزيف الدائمين أمام الزوج، والتحرُّر مع الحبيب-العشيق، "إنّها تلك العلاقة الاشكاليّة ما بين الحبّ والواجب في علاقة غير متكافئة، وربّما منقوصة في الوصول الى الرضا عن تقدير الذات بسبب الخيانة وعدم القاء اللوم على ما مضى (بسبب سوء اختيار) وما سيؤول إليه الحال في الزمن القادم.

إنّه رضوخ المرأة الشرقيّة في التضحية بمشاعرها وحبّها وسعادتها في سبيل الحفاظ على مكانة الزوج في المجتمع والعائلة والأبناء.." فالواجب لم يترك  مجالاً لرؤية تلك الخيوط المتشابكة، لمحاولة تفكيكها، وعلى الأغلب يتدخّل الضمير، لتنظيم ما هو سائد من قيم. فتعيش في الجسد بالواجب، وتحيا في العقل والفكر والقلب والخيال والأحلام مع الحبيب، الذي يحيا معك كالظلّ، الذي يتضمّن، فلسفة خاصّة في هذه الرواية، في عالم يتجسّد بالذاكرة والكلمة ليصبح قصائد حتّى لو سرقت، لن تُسرق معها لحظات خالدة في الذاكرة.

وبذلك قد تكون رؤيتها لذاتها ومقدار تقديرها لها، نابعة من الانتماء إلى ما جرت عليه العادة في إرضاء الضمير تجاه ما هو واجب عليها، في تفضيلها لما هو واجب عليها، تجاه ما هو حقّ لها الحصول عليه، ما يذكّرنا بمقولة فيكتور هوجو عن الواجب "بأنّه ذو شَبَهٍ كبير بسعادة الغير" وهو ما حاولت أن تقوم به إسعادًا لزوجها.. 

أمّا الزوج فيجسّد صراعًا من نوع آخر، هو الشّكّ الذي يعتصر قلب الإنسان وعقله حتّى يكاد يسيطر عليه، فيصبح حاضرًا في اللّحظة يحاول عبثًا طردها، إنّه صراع الإنسان الذي يشكّ وكأنّه يخشى أن يصيبه ما أصاب غيره على تبدّل أدوار ومواقع، فتخونه الزوجة مع موظّفه كما خان سيّده من قبل، وكأنّ الكاتب يعبّر عن إيمانه بنظام الكارما، كما عند الهندوس، والشكّ الذي وقع فيه "وهو التردّد بين نقيضين لا يرجّح العقل أحدهما على الآخر، وذلك لوجود إمارات متساوية في الحكمين، أو لعدم وجود أيّة إمارة فيهما". فأمّا الامارة التي دعّمت حكمه على خيانتها، فهي أنّ الخائن يعتقد أنّ مَن حوله يشبهونه، ويتصرّفون مثله، والإمارة الأخرى المضادّة، فهي عدم وجود دليل حسّي على خيانتها.

كذلك تعبّر هذه الشخصيّة عن انّ الإنسان، في سنّ التقاعد، وكانّه أمام شريط سُجِّل في الماضي يُعاد ويعاد، ربّما لالتقاط مكامن الأخطاء ومحاسبة النّفس مع الاقتناع بعدم جدوى العودة الى الوراء لتفادي أيّ إهمال....

أيريد أن يثبت الكاتب، على لسان الزوج، أنّ الزواج كما هو "اليوم أبشع الأكاذيب، والشكل الأسمى للأنانيّة"، كما قال ليو تولستوي.

أم تراه أراد أن يقول إنّ "الزواج هو مقبرة الحبّ" مهما كان الاختيار صائبًا، والحب مشتعلًا؟.

أمّا رمزي، فهو يمثّل عالم الكتابة التي تحرّر الإنسان، وهو الشخصيّة التي حمّلها الكاتب الكثير من آرائه في الكتابة والحرّيّة، هو الذي يحمل تلك الأسئلة الوجوديّة التي لا تنتهي، تلك الاسئلة الكيانيّة، بين ما يحياه الانسان وما يستحقّه، وجدوى وجوده في مكان وزمان ملائمَين.

 فالحبّ الذي يعيشه مع البطلة، لا هو بالحبّ الأفلاطوني المجرّد من الرّغبة، ولا هو بالحبّ الشهوانيّ الأنانيّ.

وأبرز ما يجمع بين الشخصيّات، مجتمعة، هو مسألة الحبّ خارج الزواج، فلكلّ من الشخصيّات زوجٌ وعشيقٌ، وكيف تعيش كلّ شخصيّة هذا الصراع وهذه الازدواجيّة، وكيف تكون الكتابة هي المخرج أو الطمأنينة أو ذلك العالم الذي "يُشعرك بالحرّيّة، عالم تفهم فيه النفسُ ذاتَها، لأنّه المكان الوحيد الذي يعترف فيه المرء لذاته بكلّ خباياها، "إنّه عالم الحياة في المقدّس" ص91، فلا يمكن أن يكون افتراضيًّا، ومع ذلك لا يمكن أن يكون حقيقيًّا.

كما تناول الأديب، على ألسنة شخصيّاته، العديد من المسائل والقضايا كالحرّيّة، الثقافة، العلم، الدين، الفكر، الحبّ، الزواج، الكتابة ومفعولها في النفس الإنسانيّة ككاتب أو متلقٍّ، النّقد الادبيّ بين الذاتيّة والموضوعيّة أو المصلحة، النقد الصّحافيّ (99)، دور النشر بين التجارة والعلم، وبخاصّة حين يكون صاحب الدار تاجرًا وليس كاتبًا وأديبًا، المجتمع ونظرته إلى المساكنة، الشعر، (106) والكثير غيرها...

ما يشدّك إلى هذه الرواية، هو تلك العقلانيّة المفرطة لشخصيّات ناضجة عند اقتراب سنّ التقاعد وما بعد، وقد بدأت تتفرّغ لما تشعر به وتفكّر فيه، تعاني صراعات ومآزم تحاول أن تفكّك التباساتها بأنفسها، ولكلٍّ طريقتُه في ذلك، عبر محاسبة الذات، العودة إلى الوراء، العيش في الأحلام، محاولة خلق أجواء تتماهى مع الأجواء التي تذكّرها بلقاءات معيّنة، إلّا أنّ ما يجمعها، في فكّ هذه المسافات الملتبسة، فهو الكلمة... أو عالم الكتابة، حيث لجأ كلّ من هذه الشخصيّات، في النهاية إلى الكتابة، إمّا كإواليّة دفاع، أو اعتراف إلى الذات، مع اعتبارهم أنّ عالم الكتابة هو الأكثر عريًا وصدقًا وتساميًّا...

أمّا في تقنيّة السّرد التي اعتمدها الكاتب في هذه الرواية، فقد جعل الشخصيّات تعبّر عن نفسها، عن أفكارها، عن أحلامها، عن المنظور الذي ترى فيه ماضيها، عن أخطائها...أمّا الراوي، فقد اقتصر دوره على التعريف، مع استخدامه المكثّف لأسلوب الحذف، وكأنّ الكاتب لم يرد التدخّل بتاتًا، تاركًا للمتلقّي أن يكتشف نفسه وماضيه، وربّما مستقبله، بين هذه الشخصيّات ويُصدر حكمه...

ويبقى أن نقول، إنّها من الروايات التي تشدّك إلى أحداثها، إلى حوارات أبطالها، إلى العمق الفكريّ الذي به يعالج القضايا الاجتماعيّة والعائليّة، إلى الخبرة الحياتيّة التي تبيّن لك الزمن الذي يقيّدك بأحداثه بين ماض وحاضر ومستقبل، إلى القيم والمثل التي تتحلّى بها، إلى النضج والحكمة في مواجهة الأحداث والأخطار، والأجمل: تقصّ عليك، هذه الرواية، قصّة الحبّ في الحياة، وأنّ الحبّ ليس حكرًا على فئة عمريّة من دون سواها، ومَن تقاعد من العمل، ليس بالضرورة متقاعدًا من الحبّ والحياة، بل يكون قد تفرّغ، كليًّا، لهما....

 

اقرؤوا أيضاً:

 

إيلي مارون خليل و"مسافات ملتبسة"

بقلم حكمت حنين

 

 

 
   
 

التعليقات : 2

.

22-09-2012 02:5

V.S

قراءة جعلتني أقرأ الرّواية... ما وجدتُ اختلافًا في الرّأي. أؤيّد ما أوردت الكاتبة من أفكار... حقًّا هي رواية ناجحة ومميّزة... الأسلوب لافت جدّا، والعنوان مغرٍ، ويطابق المضمون! أليست علاقاتنا ملتبسة؟


.

19-04-2012 12:2

nazaka_bdeir3@hotmail.com

نازك بدير

هذه القراءة التّحليليّة المعمّقة تجعلنا نعيد النّظر" في المسافة بين الأنا والآخر"، بيننا نحن كأشخاص من لحم ودم، نتصارع بين ما يتطلّبه المجتمع والعادات والتّقاليد، وبين نداء الرّوح؛ الإشكاليّة الّتي طُرحت تكاد تطاول كلّ منّا بوجه من الوجوه، من هنا تبدو أهميّة تسليط الضّوء عليها، وعدم التّهرّب منها.


 

   
 

.