3

:: مقدمة ديوان "أنْتِ وَلْتَنْتِهِ الدُّنيا" ::

   
 

التاريخ : 25/02/2007

الكاتب : هنري زغيب   عدد القراءات : 2109

 


  

مقدمة ديوان

"أنتِ... وَلْـتَـنْـتَـهِ الدُّنيا"

شِعر حُبّ

صدرت طبعته الأولى في بيروت 2001

    

 

أَبْعَدُ من أَنْ تكونَ هذه القصائدُ مكتوبةً لامرأَة (لامرأَةٍ واحدة - وإنها كذلك -)، هي مكتوبةٌ لتُرضي الشِّعر.

في كلِّ شِعْرٍ قصيدة، ولكنْ ليسَ في كلِّ قصيدةٍ شِعْر. وأَلْفِتُ هنا إلى الشِّعْر العَموديّ الكلاسيكيّ، إذ غالباً ما يختبئُ فيه الشاعرُ (بل الناظمُ النظَّامُ الوَزَّانُ، في هذه الحالة) وراءَ التفعيلةِ والبحرِ والوزنِ والرَّوِيِّ والقافيةِ وشكلِ القصيدةِ العموديّ التقليديّ (صدْراً وعَجُزاً) وجَلْجَلَةِ الإلقاء (حين يقرأ قصيدتَه جَهْوَرِياً) فيما لا يكونُ خلَلَ القصيدةِ كلِّها بيتٌ واحدٌ أحياناً في قلب الشعر: تِقْنِيَةً أو ومضةً شعريةً، بل يكونُ كلُّ ما قاله رَصْفاً لأبياتٍ ليس فيها سوى النَّظْمِ العَروضيِّ الذي يَتَواطَأُ مع قارئِه (أو سامعِه) ولا يكونُ فيه شيءٌ من الشعرِ الشعر.

 

- 2 -

هذا، إذاً، كتابٌ في الشِّعر: أوزاناً، وبُحوراً، وتفعيلاتٍ، إنما انْتَثَرَتْ فيه الأبياتُ في فانتازِيَا تشكيليةٍ لا تؤْذي المضمون (بل رُبَّما تُبْرِزُهُ أكثر) وتُمَوسِقُ الشكلَ بما يتناسب ولُهاثَ الكلمات. ذلك أنَّ للشاعر حُرِّيَّةَ استعمالِ بياضِ الصفحةِ أمامه، كما يرتَإِي، لأنَّ المساحةَ البيضاءَ على الورق تحت القلم، كالمساحةِ البيضاءِ على القماشةِ تحت الريشة، كالمساحةِ البيضاءِ على الرخامِ تحت الإزميل.

غير أنَّ حُرِّيَّةَ استعمالِ هذه المساحة (كَمَدِّ الصوتِ في الغناء من دون الخروج على اللحن، أو كَتَمَدُّدِ الخطوطِ والأشكال والألوان في اللوحةِ من دون الخروجِ على القاعدة الذهبية) يجب ألاَّ تَخْرُجَ على الأصول. فالتجديدُ لا يكون بالخروج على الأعراف، بل بتطويرِها من داخلِها، وبالتِزامِ صعوباتٍ ذاتيةٍ يُحدِّدُها المبدعُ لنفسه كي يصعُبَ، لأنَّ الفنَّ يعيشُ طويلاً في الصعوبة، ويموتُ سريعاً في السهولة أو الاستسهال. من هنا أَنَّ الجذورَ العميقةَ (كَجُذورِ الشِّعْرِ وأَعرافه) تتيحُ التجديدَ من داخلِها لأنها عميقةٌ وتَتَّسعُ لكلِّ تجديدٍ وتطوير، بينما الجذورُ السطحيةُ الضئيلةُ العُمْق لا تُتيح فيها أَيَّ حَيِّزٍ للتجديد لأنها سرعانَ ما تخرج الى صفحةِ الترابِ وتموتُ من الاختناقِ ونقْصِ التغذية.

 

- 3 -

في هذا الكتاب، اعْتَمَدْتُ الشَّكْلَ التشكيليَّ على الصفحة، كي يَخدمَ المعنى بما لا يؤْذي العين، فَأَعطَيْتُ العبارةَ مداها من كلماتها والبياض، وانتقلْتُ الى سطرٍ آخَرَ أُعطي فيه العبارةَ التاليةَ مداها من كلماتها والبياض، بصرف النظَر كُلياً عن التقطيعِ التقليديِّ للقصيدة الكلاسيكية: رصف الأبيات تحت بعضها البعض مفصولةً بالبياض التقليديِّ بين شَطْرَي الصَّدْر والعَجُز. ربما كان لذاكَ الشكلِ التقليديِّ الموروثِ تبريرُهُ في حينه، لضروراتٍ معيَّنَة. غير أن إنشادَه بهذا الشكل المُقَطَّع (خاصة حين يكون صاحبه نَظَّاماً لا شاعراً) يخلقُ في السامع رتابةً إِلقائيَّةً مُمِلَّةً يشيحُ معها عن السماع، كما باتُ القارئُ اليوم (ربما) يشيحُ عن قراءةِ القصيدةِ العموديةِ الشكل بتقطيعها التقليدي ذي الشَّطرَيْن، لأنه يعرفُ أنَّ الشاعرَ أحياناً يضطرُّ الى إنهاء البيت (صدرِه أو عَجُزِه) فقط لأن البيت انتهى تشطيرُهُ العَروضي، مما يخطَفُ لديه نَفَس الصورة أو الفِلْذَةَ الشعرية (إن لم يكن شاعراً متمكِّناً يفيض بحضوره الشعري على فِلذة البيت أو على شَطْرَيْهِ التقليديَّين المُقَطَّعَيْن صدراً وعجُزاً).

هذا التقطيعُ العروضي (وهو أساسٌ في الشعر الكلاسيكي) يصبح (كما في كتابي هذا) ذهنياً (لا بصرياً) لمن يُتقن العَروضَ فيعرف أنَّ هذا البيتَ عَموديٌّ، موزونٌ، ومقطَّع عروضياً بشكلٍ سليمٍ "تفعيلاتياً"، ولم يَعُدْ ضرورياً له أَنْ يكونَ التقطيعُ التقليديُّ بَصَرياً. ومَن لا يُتقن العَروض، لن يُعَلِّبَه الشكلُ العموديُّ التقليديُّ سَلَفاً في قياسات البيت، بل سَيقْرأُ في هذا الكتابِ شِعْراً يأخذه فيه المضمون (يُحبُّه أو لا، ليست هنا المسألة) من دونِ أَنْ يَتأَثَّرَ نَظَرُهُ مُسْبَقاً بهندسيَّةِ القصيدةِ العمودية، في نهاياتِ الأبيات أو رصفِ القوافي تحت بعضِها البعض. ها هو القارئ، في هذا الكتاب، مباشرةً مع القصيدة بما فيها، لا بما يفرضهُ شكلُها (قبل مضمونها) سلفاً عليه.

وإذا المضمونُ حَقُّ المتلقِّي (سامعاً أو قارئاً)، فالشكلُ حَقُّ الشاعر، شرطَ أَلاَّ يؤْذي هذا الشكلُ بلوغَ المضمونِ القارئَ بشكلٍ سائغ.

 

- 4 -

ليس في هذا الكتاب، إذاً، أشكالٌ جِيُومِتْرِيَّةٌ جامدة، بل تَمَسُّكٌ رصينٌ بالأُصولِ والقواعدِ والجذور، مع التجديدِ من الداخل، من حَرَم الأصول، من قَلْبِ التربة نفسِها، فلا تجديدَ من خارج الجذور وإلاّ كان العملُ طِرْحاً (أو مِسْخاً) لا يعيش. 

حين صدَر كتابي السابق "صديقة البحر"، تعمَّدْتُ أَنْ أَذكُرَ في صفحته الأولى أنه "نَثْرُ حُبّ" (مع أن الكتابة فيه نَحَتْ صوب العَمودية المُرسَلَة لا الأُفقية المعتادة في النَّثْر) تمييزاً لمضمونِهِ عما يمكن أن يُنْعَتَ (بالتعابير الحالية السائدة) شِعراً منثوراً، أو نَثْراً شِعرياً، أو شِعراً حُراً، أو قصائدَ نَثْر، أو (وَعَفْوَ الشِعر) "شِعراً حديثاً".

كان ذاك كتاباً في النَّثْر، ولو انَّ صاحبه في الشِعر.

ولعلَّ أبلغَ لُقِيَّةٍ حوله، ما قاله عنه شاعر لبنان سعيد عقل إِنَّ فيه "نَضائِدَ"، مُميِّزاً "النضيدة" في النَّثْر عن "القصيدة" في الشِعر.

كان إذاً، كتاباً في النثر الجمالي، ولا أميِّزُهُ أبداً عن أَيِّ كتابٍ لي في الشعر.

النَّثْرُ الجماليُّ، غيرُ السردِ النَّثْري الصحافيّ الأُفقيّ الذي يُمسك بالسطر من طَرَفَيه، بل هو نَثْر مُهَنْدَسٌ بأشكالٍ مقصودةٍ على المساحة البيضاء، كما يَنْثُرُ الرسَّامُ على قماشته البيضاءِ أَلوانَهُ وخُطوطَه، لا طرفا القماشة يَشُدّانِ به ولا قياساتُ طولِها والعرض.

 

- 5 -

لا نَتَعَصَّبَنَّ للشكل، وَلْنَتَعَصَّبْ للشِّعر الشِّعر.

كتابةُ الكلماتِ عمودياً على الصفحة، بأَسْطُرٍ متراكبةٍ مرصوفةٍ فوق بعضِها البعض (بِحُجَّةِ أنَّ هذا شِعْر، لأنّ الناس اعتادوا قراءة الشعر العموديّ بشكله هذا) لا يجعل الحصيلةَ قصيدةً ولا شِعراً. تماماً كما فكفكةُ القصيدةِ العموديةِ ونَثْرُها على الصفحة، لا يجعلُها شِعراً "حديثاً" (بالمفهوم السائد المتداول اليوم). المهم أَنْ يكونَ في القصيدة شِعْر، أَياً يكن الشكل الذي تلبَسُه.

والكلامُ نفسُهُ ينطبِق على النَّثْر: في كلِّ أدبٍ نثرٌ جيِّدٌ، وليس في كل نَثْرٍ حتماً أدبٌ جيِّد.

الشِّعْر شِعْر والنَّثْرُ نَثْر، أياً يكن شكل فَرْطِهما على المساحة البيضاء.

فنحنُ لا نخدُم النَّثْر حين نُشَبِّهُهُ بالشِّعْر، ولا نُرضي الشِّعْر إذا شَبَّهْنا به النَّثْر العالي. النَّثْر فنٌّ عظيمٌ في ذاتِه، والشِّعْر فنٌّ عظيمٌ في ذاته، وللنَّثْر عبقريةٌ لا تقِلُّ إبداعاً عن عبقرية الشِّعْر. والشاعر الذي لا يملِكُ الصناعَتَين، يظلُّ شِعْره على مسافةٍ من الشعر. ومتى تَوَصَّلْنا، كشعراء، الى المباهاةِ بِنَثْرِنا مباهاتَنا بِشِعْرِنا، نكونُ - ويا سَعْدَنا - استَحْقَقْنا فِعلاً نعمةَ الصناعَتَين: الشِّعْر والنَّثْر.

إذاً: لا نَنْعَتَنَّ الواحدَ بالآخَر، لا نُذِيبَنَّ الواحدَ في الآخر، لا نَنْسُبَنَّ الواحدَ الى الآخر، في هرطقَةٍ زائفةِ زائلةٍ تَتَحَجَّجُ بالنقد لتعتبرَ أنَّ كُلَّ شِعْرٍ غيرِ كلاسيكيٍّ هو (بحسب التحديد السائد اليوم) "شِعْرٌ حَديث"، وأَنَّ الشِّعْرَ الكلاسيكيَّ، ولو على نضارةٍ وجمالٍ وتجديدٍ وشاعريةٍ عالية، هو (أيضاً وأيضاً بحسب التحديد السائد اليوم) "شِعْرٌ قديم تخطَّاه العصر".

مش صحيح. كلُّ شِعْرٍ حديثٌ حين يَصدُر ويكون شِعْراً حقاً، أيّاً يكُنْ شَكلُهُ (مُرْسَلاً أو كلاسيكياً عمودياً)، وكلُّ شعرٍ عتيقٌ قديمٌ (أيّاً يكُن شَكلُه: مُرسَلاً أو كلاسيكياً عمودياً)، حين لا يكون طالعاً من جُذور مُؤَصَّلة. وإذا كانت سُنَّةُ الطبيعة أَنْ يَتَكَوَّنَ الجنينُ في رَحمِ أمه تسعة أَشهر (وإلاَّ فهو طِرح)، فلماذا، باسم التجديد، قال، نريدُهُ أن يَخرج قبلذاكَ أو بعدَذاك، بحُجَّة الثورة على الأُصول ومخالَفَةِ العُرْف المُتَّبَع؟ من هنا لا يمكن أنْ تكونَ القصيدةُ طفلةَ الأنابيبِ الاصطناعية، باسم التجديدِ والثورةِ على الأصولِ والأعراف.

 

-  6 -

في هذا الكتاب، نَثَرتُ الأبيات على الصفحة وِفْقَ المعنى، وِفْقَ تَنَفُّسِ العبارات والكلمات، كما يُنْثَرُ الزَّهرُ باقةً الى الحبيبة، لا قاعدةَ معلَّبةً لها، إنْ هو إلا الذوق والحس بالجمال، وشرط أن تكونَ الزهراتُ نَديَّةً طبيعيةً، ليس فيها مصطنعٌ ولا مُزَيَّفٌ ولا مُعَقَّدٌ ولا مستعار.

من هنا، استخدمتُ في هذا الكتاب مختَلَفَ أَشكالِ الشِّعْر التي اعتادها القراء في القصائد. فمرةً تركتُ البيتَ كاملاً بِشَطْرَيْه (صدْراً وَعَجُزاً)، ومرةً تركتُ البيتَ كاملاً بدون قَطْعٍ نصفيّ، ومرةً تركتُ التفعيلةَ الواحدة على سطرٍ وحدها، ومراتٍ تركتُ المعنى يَتَّخِذُ الشكلَ الذي يحتاج إليه، ... وكلُّ ذلك في شكلٍ انسيابيٍّ يراعي انسيابَ المعنى ولا يَقْطَعُهُ حُكْماً لأنَّ الشكلَ كان سيفرِضُ أن يُقْطَعَ حُكْماً عند آخر الشطر صدراً أو عَجُزاً. ويَظْهَرُ هذا غالباً في إلقاء القصيدة، حين يتلو الشاعرُ الكلمات بحسب المعنى، لا بحسَب شكل الكلماتِ مُقَوْلَبَةً في صدْرٍ وعَجُزٍ يَقطَعُ نَفَسَهُ والمعنى عند منتصفِ البيتِ ولو كان المعنى لم يكتملْ بعد.

 

- 7 -

أَبْعَدُ من أن يكونَ هذا الكتابُ بَثاً رومنطيقياً عاطفياً في الغَزَل، هو شِعرٌ في خدمة الجَمال، الجمالِ النَّقِيِّ البَهِيِّ الذي يقول كلَّ شَيْءٍ، كلَّ شَيْءٍ، من دون أن تَجرحَ كلمةٌ منهُ حَياءَ امرأةٍ أو خَفَرَ صَبِيَّةٍ، أو عِفَّةَ ناسكةٍ في خَلْوَتِها. هذه العودةُ الى الجمال، نحتاجُها في كتابة الشِّعر كي يَعودَ الشِّعرُ إلينا. فليس صحيحاً أنَّ الناس استقالُوا من الشعر، بل من شعراء أَبعدوه عن الناس سائغاً حبيباً. ومتى عُدنا بكتابَتِهِ الى بساطة الوردة (رغم الصعوبة في صياغة بَتْلاتِها) والى جمال غروب الشمس (رغم التعقيد في تركيباته الداخلية) والى كَرَّةِ العندليب العذبة (رغم ما خلفها من هيكليات)، نكونُ حقاً عُدنا بالشعر الى الناس، لا بالناس الى الشعر، لأن عُشّاق الشعر يحبونه سائغاً كَهَفيف العطْر منساباً في حنايا الحبيبة، لا كالعطْر المعقَّد يستلزمُ شرحاً وإفاضاتٍ في فَكْفَكَةِ مكنوناته وأَسرارِه وتركيباته الكيميائية والمَخْبَرية قبل أن يصبحَ عطْراً ويصل إليهم.  

الجمالُ في الشِّعْر، طريقُهُ المباشَرُ الى قلوب الناس.

 

-  8 -

وبعد...

إهداءُ كتابي الماضي "صديقة البحر"، كان الى U.T.. وهو، كما قُلْتُهُ، "كتابُ حبي وكتابُ حياتي".

هذا أيضاً - وإهداؤُهُ كذلك (طبعاً) الى U.T. - هو تَوَغُّلٌ أكثرُ في كُنْهِ هذا الحب النُّعْماوِيِّ الذي مَنَحَني الشِّعر وأهدى إليَّ المصالحةَ مع الحياة.

وإذا كنتُ، عند صدور كتاب "صديقة البحر" النَّثْري، قلتُ إنني "أُوْدِعُهُ بين أَيديكم وأَنْسَحِبُ الى حبيبتي، صديقة البحر، كي أُكمِلَ كتابَنا التالي، الشِّعْري: "أَنْتِ... وَلْتَنْتَهِ الدُّنيا"، فها هوذا الكتابُ اكتمل، وصارَ بين أَيديكُم.

أُوْدِعُكُم إياه، وأَنْسَحِبُ مجدَّداً الى حبيبتي، صديقة البحر، كي أُكْمِلَ كتابَنا التالي  "حَميمِيَّات"، وهو أَقوالٌ وكلماتٌ في الحب، هي خلاصةُ الخلاصةِ في تجربتي الشخصيةِ والعاطفيةِ والأدبية.

 

                                                                24/02/2001

 

صرخة في هيكل الشّعر

مقدمة ديوان "إيقاعات"

 

 

 

دفاعاً عن النَّثر في كتاب شعر

مقدمة ديوان "تقاسيمُ على إيقاع وجهك"

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.