3

:: «قصائد مغناة» هل هي «للأخوين رحباني» أم لمنصور وحده؟ ::

   
 

التاريخ : 20/02/2012

الكاتب : جهاد فاضل   عدد القراءات : 13160

 


 

 

قبل رحيله بسنوات قليلة، أصدر الفنان الكبير منصور الرحباني عدة دواوين شعرية ووضع عليها اسمه فقط، كمؤلف أو كناظم لها. لم يضع عليها عبارة: من نظم «الأخوين رحباني» لأن الناظم كان هو وحده، وكان من حقه أن يفعل ذلك، لأن من كتبه هو وحده، هو له دون سواه.

ولكن منصور أصدر قبل رحيله بأشهر قليلة مجموعة شعرية بعنوان: «قصائد مغناة» ذكر على غلافها ان المؤلف هو «الاخوان رحباني». ولكن العارفين بتراث الرحابنة شكّوا في ذلك، واعتبروا ان ناظم هذه القصائد التي تشدو بها المطربة الكبيرة فيروز هو منصور الرحباني وليس منصور وعاصي معاً؟

 

أما لماذا الشك في نسبة هذه القصائد إلى «الأخوين» معاً فلأسباب عديدة منها ان الشعر إبداع فردي وليس إبداعاً جماعياً.

فالقصيدة، أي قصيدة، لا يمكن أن تكون سوى نتاج شاعر واحد، لا شاعرين ولا عدة شعراء.
من المستحيل تصور اثنين يشتركان في كتابة قصيدة واحدة. فالذي يكتبها لا بد أن يكون واحداً لا غير.

بالطبع يمكن دفع هذه القصيدة بعد إنجازها من قبل شاعرها، إلى شاعر آخر ينقحها أو يحذف منها، أو يضيف عبارة هنا أو هناك، ولكن القصيدة تظل ملك ناظمها الأصلي، ولا يمكن ان يقال انها من نظم شاعرين، فالمنقح منا يظل مجرد منقح، في حين ان ناظم القصيدة الأصلي يبقى هو وحده صاحبها.

 

 

 

روح واحدة

والواقع ان من يبحر في «قصائد مغناة»، سيجد ان «الروح» التي صدرت عنها هذه القصائد، هي روح شاعر واحد لا شاعرين، وان «مناخها» مناخ فرد واحد لا اثنين، فالمفردات، والعبارات، والصور والأسلوب كلها منسجمة مع بعضها، لا تنافر فيها، ولا تدخُّل من أحد، اي ان من كتب هذه القصائد هو اما عاصي وحده، وإما منصور، ولا يعقل ان تكون من نظم الاثنين معاً.

صحيح ان عاصي ومنصور كانا يتشاركان في كتابة نصوص مسرحية، كما كانا يشتركان في التلحين، الا ان قصائد «الفصحى» كانت من عمل منصور وحده.
كان عاصي يؤلف أزجالاً، وكان منصور يؤلف أزجالاً أيضاً، ولكن شعر الفصحى كان شعر منصور وحده.

 

مقارنة فاصلة

وتتأكد نسبة هذه «القصائد المغناة» الى منصور من مقارنتها بأشعار مجموعاته الشعرية التي أصدرها منفرداً بعد رحيل عاصي، فالروح واحدة والأسلوب واحد، والمناخ الشعري واحد أيضاً، ثم، وهذا مهم، لماذا لم يصدر منصور نصوصاً اخرى بالعامية كان يتشارك في تأليفها مع عاصي غير هذه المجموعة؟.

بل ان من الممكن ان يستنتج المرء من «قصائد مغناة» صحة ان كل هذه القصائد المغناة لمنصور وحده، من خمسة أسطر ذيَّل بها منصور إحدى هذه القصائد وهي قصيدة «اليك أتوب» ونصُّها كمايلي:

اعود الى صمتي ويرحل ط.يبُ
ووجهي كرايات المساء شحوبُ
فيا صيف هذا الصيف لا تأخذ الشذا
فبعض الشذا منها ومنك هبوب
ويا قلة الخياط لي فيك نجمة
وفوق تلال الرمل منك صليب
يسمرني حبٌّ عليه إلى المدى
وبيت القساة الصالبيَّ قريب
وأنت على ما تعلمين حبيبة
وكل مكان أنت فيه حبيب
إذا كان ذنبي أن حبك سيدي
فكل ليالي العاشقين ذنوبُ
أتوب إلى ربّي وإني لمرة
يسامحني ربّي: إليك أتوبُ

في آخر هذه القصيدة يذكر منصور ما يلي:

«طلب مني عاصي بيتين من الشعر القديم تنشدهما فيروز ضمن فاصل موشحات من الشعر التراثي القديم، لجأت إلى الكذب، اقتطفت آخر بيتين من قصيدة كنتُ كتبتها، وحين سأل عاصي عن صاحبهما قلت: «إنه الراعي النميري / شاعر قديم» ضمهما عاصي إلى البرنامج معجباً ولحنهما وغنتهما فيروز، ولم يكتشف عاصي تلك الكذبة إلا ليلة الافتتاح في بعلبك، حين قرأ في البرنامج أن البيتين «للأخوين رحباني».


حكاية دالة

تفيد هذه الحكاية بأن عاصي طلب من منصور أن يعود إلى الشعر العربي القديم ليستلّ منه بيتين من الشعر قدّمهما في ما بعد إلى عاصي، ولو أن عاصي كان خبيراً بالشعر العربي القديم لاكتشف «كذبة» منصور على الفور، ذلك أن هذين البيتين، خصوصاً الأخير، حديثان وليسا قديمين: «إني لمرة يسامحني ربي» عبارات حديثة، بل عامية وشعبية ولا تمتّ إلى الشعر القديم بصلة.

كما تفيد هذه الحكاية بأن منصور كان سفير الرحابنة إلى الفصحى وشعرها القديم والحديث، بالطبع كان عاصي شاعراً كبيراً، ولكن في العامية اللبنانية. أما شعر الرحابنة بالفصحى، فمن صنع منصور دون سواه.

وللتدليل على وجود «روح» واحدة تطبع هذه «القصائد المغناة» نشير إلى بعض مطالع هذه القصائد، للتأكيد ع‍لى وجود «راع» واحد لها لا أكثر.

فمن قصيدة «سيّد الهوى»:

سيد الهوى قمري
مورقُ الجمال طري
دائم الوجد والغوى
سيد الهوى قمري


ومن قصيدة «هموم الحب»:

يا هموم الحب ياقبل
في بحار الشوق تغتسل
كلما قلنا صفا زمن
رجعت كالريح تشتعلُ
أيدوم الحب؟ تسألني
حلوة جنّت بها السبلُ
وأنا لا علم لي وغدي
كل يوم بات يرتجل!

 

ومن قصيدة «نجمة الكتب»:
كتبتُ إليك من عتب
رسالةَ عاشق تعب
رسائلُه منازلُه
يعمّرها بلا سبب


ومن قصيدة «أمس انتهينا»:

أمس انتهينا فلا كنا ولا كانا
يا صاحبَ الوعد خلِّ الوعد نسيانا
طاف النعاس على ماضيك وارتحلت
حدائق الصحو بكياً ناهداً الآنا

 

ومن قصيدة: «زائري في الضحى»:

يا زائري في الضحى
والحب قد سما
عيناك أعلنتا
أن الربيع صحا

الثنائي
ان من يقرأ هذه القصائد، ومن يقرأ «القصائد المغنّاة» كلها، فانه سينتهي حتماً الى أن شاعراً واحداً كتب هذه القصائد هو منصور الرحباني. كان منصور في «مؤسسة» الرحابنة شاعر هذه المؤسسة، في حين كان عاصي الملحن والموزع الموسيقي. طبعاً هذا الحكم ليس صارماً جازماً، فهو يحتمل الكثير من المرونة.
فمنصور كان يلحّن ويوزّع الموسيقى أيضاً. وعاصي كان يكتب نصوصاً شعرية هي في الأعم الأغلب، من الشعر الشعبي الذي كان الإثنان يجيدانه. وأذكر ليلة أمضيناها في منزل سليم اللوزي، صاحب مجلة الحوادث، كان في عداد الحاضرين فيها محمد عبدالوهاب وفيروز وعاصي ومنصور.

في تلك الليلة تبارى عاصي ومنصور في نظم ارتجالي تساجلا فيها، وقد أبلى كلٌّ منهما بلاءً حسناً في تبادل «الهجاء» بينهما والرد السريع. بما يؤكد أن عاصي ومنصور كانا شاعرين مجيدين بالعامية اللبنانية. أما شعر الفصحى فهناك دلائل كثيرة، من نوع ما أشرنا اليه، تدلّ على أنه كان من نصيب منصور وحده.

تقويم فني

تبقى بعض مسائل متصلة بهذا الموضوع أولها قيمة هذه «القصائد المغنّاة». بحدّ ذاتها كشعر. هي قصائد تنتمي الى ما يسميه الباحثون بالشعر الغنائي، أي ذاك الشعر الذي يصوغه الوجدان والقلب بلغة سلسلة عذبة لا تُتعب قارئه. وهي أيضاً قصائد كُتبت أصلاً للغناء، كُتبت لتغنيها المطربة فيروز. انها قصائد رقيقة ناعمة تعبّر عن الحب والوجد والشوق والحنين، كما هي قصائد قصيرة في الأعم الأغلب. وهذا يعني أن الشاعر كتبها لتغنيها فيروز في دقائق قليلة معدودة.

هذا النوع من الشعر قد لا يعجب الكثيرين ممن يرون ان الشعر ينبغي ان يحمل «فكراً» أيضاً، لا «عاطفة» وحسب، ان الشعر عند هؤلاء ينبغي ان يكون نتيجة سهرٍ وجهدٍ ومشقّة، وان يتلقّاه القارئ تلقّياً صعباً لا هيناً، بحيث يدفع هذا القارئ الى التفكير العميق والمعاناة الروحية، ولكن فات هؤلاء ان هذا الشعر الرحباني لم يكتب أصلاً إلا ليغنَّى، فمن طبيعته إذن مخاطبة القلب والوجدان لا أكثر.

وقد كتب احمد رامي مثل هذا الشعر، على مدى عمره، لام كلثوم ومحمد عبد الوهاب ولمطربين كثيرين، ووهب له حظاً واسعاً من الشهرة، طبعاً شعر رامي لم يكن في مصافّ شعر احمد شوقي وخليل مطران وحافظ ابراهيم، ولكن لا شك في ان هؤلاء الشعراء الكبار يحسدون رامي على ذيوع شعره الغنائي على ألسنة المطربين الكبار في حين ان أكثر شعر هؤلا‍ء ظلَّ حبيس الدواوين والمكتبات.

وعلى ذلك، فالشعر الغنائي وان افتقد أحياناً العمق، فانه يجد العوض عن ذلك في مخاطبة القلب والوجدان والجمهور الواسع من الناس، ويكفيه ذلك بالطبع.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.