3

:: جرعة أحلام ::

   
 

التاريخ : 29/01/2012

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1716

 


 

 

       ليس أقسى على العاشق من أن يكون، ذات لحظة ليليّة خاطفة ضَيِّقة، وحيدًا، معزولا، بعيدًا، مختنق النّفَس، بلا أحلام.

       فالليلُ يُثير الشَّجَن، الشّغَف، الشَّطَط، الشَّظَف. ألشَّجَنُ انفِلات سُدود الحزن، فالفكر كفيف، والقلب كسيح. لا مدى لأحزان الفكر والقلب. ما لا مدى له، يُقفِل نوافذ الرّوح. ألشَّغَف انفِتاح حدود الرّغبة، فالعاطفة ائتِلاق، والشَّوق أجنحة. ما لا حدود له، يهتك ستائر الحَواسّ. ألشَّطَط سياحات روح خارج أيِّ مَدار، فالخَيال جَفاف، والوِجدان مُشَوَّش. ألجافُّ المُشَوَّش، يُسقِم الكِيانَ، يُزلزِله. أمّا الشَّظَف، فإحساسٌ عميق، فاتِك، يرشّ الملحَ في جراحك، يهرق أحلامَك، يُدميك كلَّك.

       والضِّيقُ يَخطف، يُقعِد. فأنت حاسر الأحلام، خللٌ في رؤاك والصُّور. "ألمخطوفُ"، جسدًا، يُهرَقُ نفَسُه لوقتٍ، مهما اتّسعَ، ضيّق. ألمُه محدودٌ بزمنٍ يَسير، ما ينتهي؟ ألمُه لا يؤلِم. أمّا "المخطوفُ"، روحًا، فلانهائيّة عذاباتُه والآلام. "ألمخطوفُ"، حقًّا، "تتجلّى" له "الرّؤى"، "يرى" ما لا يراه الآخرون، ولا أحد من الآخرين. وفي هذا منتهى القَهر المُقلِق. يبدو عَبَثيًّا. ألعبثيُّ يحصُل لا يتحصّل. يأتي لا يصل. يُنتظَر ويُعرَف أنْ لا تَحَقُّق له. ويؤمَل! إلاّ أنّ له وجهًا مُشرِقًا. به "تتعالى"... و"تتواضع"... وإلاّ فأنت "صغير"!    

       والوحدة تُقلِق الشّرايين. تخشى يباسَها. فكيف تتدفّق، فيها، الدّماء! وهي تردّ الأبواب أمام كلِّ آتٍ. فكيف السّبيل إلى التَّجَدُّد! وتردم وديان المدى، فتنغلق الاتّجاهات كلُّها، فينطلق صُراخُك: إلى أين، كيف، متى؟ تشعر بانهزامك، برغبة، فيك، مديدة، باصطياد الكآبة وقوعًا في فرح غاصٍّ بشجَنه. ولا يأتي. تنتظره، ولا يأتي. تنتظر عارفًا، متيقِّنًا. لن يأتي فرحُك الحزين. وتنتظر. يبقى لك أملٌ يتهادى، تراه يتهادى، ويبتعد بدل أن يصل. تذوب انتظارًا شقيًّا، يُشقي.   

       يقف الانعزال إلى حافة الوحدة. أنت تعزل نفسَك. تنعزل بإرادتك. بينما قد تكون وحيدًا وأنت في قلب جماعة. قد تكون وحيدًا في بيتك، بين أصدقائك، زملائك، رفقائك... في العمل، في الشّارع... ألوحدة نوعٌ من أنواع الغربة، إحساسٌ بها، عيشُها. ألعزلة أمر آخر. تعزل ذاتَك؟ صحيح. وقد يعزلك "الآخرون". أنت العاشق، تشعر بوحدتك وعزلتك، تجعل نفسَك على حدود البكاء. بكاء الوِجدان، القلب، الرّوح، أكثر مَضاضة من بكاء الحواسّ. وترتمي على شواطىء الغربة وآفاق الحنين.

       ويلوح البُعدُ آيةَ انتِهاك المسافات. تُنتهَك المسافة؟ يشعر العاشق بأنّ البُعدَ يُمكن أن يكون اقتراب قلبَين. لكنّ هذا الاقترابَ موجَع موجِع. موجَعٌ! فالعشيقُ غيرُ مرئيٍّ، غير ملموس، غير مسموع، غير مُذاق، غير "مَشموم"، إلاّ من بُعد. ما يُلهب المَشاعر أكثر. يزيدها عمقًا، وألَمًا. موجِع! فهو، العشيق، يختزل المسافاتِ، الوقتَ، ويغرق، مستغرِقًا، في أحلام يخلقها لنفسِه. يلهو بها، يتسلّى. ينتبه من غفلته: هذا، كلُّه، بلا جدوى. يغَصّ، يكاد يختنق، يقلّ الهواءُ في رئتَيه، يضيق نفَسُه... تنسلّ أحلامُه. يعود، واعيًا، مقهورًا، إلى فراغ نفسِه بِكُلّيّتِها.

       وهكذا يُسلِم كيانَه إلى الاختِناق. يُسلِم؟ ألاستِسلام انهِزامٌ روحيّ. إنهِزام الرّوح موتٌ سريعٌ، وإن مؤجَّل. في الموت المؤجَّل بقيّة أحلام. ألموت المؤجَّل اصطِراع بين الموت والأحلام. كلُّ حُلم أملٌ بتأجيل هذا الموت. مثل هذا التّأجيل موتٌ متتابع. ما يقهر، ما يُسدل على الأحلام عتَمةً دامية. والاختِناق؟ غُصَصُ النّفس. فقدان هواءِ الحياة. خسران آفاق الحُبّ. عَيشُ الموت قبل الموت. لحظةُ الموتِ السّابقةُ الموتَ، هياجٌ نفسيّ فَوضويّ يتمرّغ في عصفه، لا رؤية صافية، لا رؤيا شفيفة... فقط كآبةٌ قانطة تحاول أحلامًا، يشنقها وهمٌ جميل.

       وعلى ذلك، وفيه وإليه ومنه وبه، يبقى العاشق يرتشف الأحلام. يبقى العشقُ ارتِشافَ أحلام. يبقى جرعةَ أحلام في وادي القحْط، الجَفاف، الخيبة. يا للأحلام، كيف تُدَوزِنها، تشبكها، تُلَوِّنها. تعرفُ، أنت تعرف، بأنّك ستتجرّعها، مُرّة! تُقدِم. وتُسَرّ. تُقدِم. وتُسَرّ.

وهل أمامك غير ذلك!؟

ليل7/10/2011

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.