أشرتُ في المساق السابق إلى أن شعراء العاميّة قد وصلوا إلى أفقٍ مختلفٍ من توسيع دائرة بحور الشِّعر العربيّة الخليليّة، دون أن يَـتَخَلَّوا عن الوزن والتقفية، كما فعل شعراء التفعيلة. فتحرّكوا إلى التجديد من داخل التجربة الشِّعريّة العربيّة نفسها، لا من خارجها، ولا بتقويضها. وألمحتُ إلى أن فرضَ النمط الواحد، وتحريمَ ما سواه في نطاق الفصيح كان من عوامل التمرّد التدميريّ على بناء القصيدة العربيّة، في حين أتاحت الحريّةُ المطلقةُ في نطاق الشِّعر العاميّ التجديدَ الحيويَّ، البانيَ والطبيعيّ. ذلك لأن تحريم التجديد يُفضي إلى حركاتٍ هوجاء، ليس هدفها التجديد بالضرورة، بل لا تعي معناه ومسؤوليّاته، وإنما هدفها الخروج عن القالب المهيمن. ومن هنا فالإثم تربويٌّ تعليميٌّ ثقافيُّ مشترك. وما مَثَل الهَوَس بتقليد كلّ غريبٍ وافدٍ على صعيد الأدب، وإنْ تنافر مع شخصيّتنا الثقافيّة، إلاّ كمثل الهَوَس بتقليد كلّ غريبٍ وافدٍ على صعيد الأزياء أو السلوكيّات، وإنْ تنافرتْ مع شخصيّتنا الاجتماعيّة والثقافيّة. والسبب أن التنوّع الثريّ في ثقافتنا قد حُوصر، بل أُلغي كثيرًا لحساب وُجهةٍ واحدةٍ، وتصوّرٍ واحدٍ، وطرازٍ فذّ. وهذا ينطبق على النصوص إبداعًا وقراءة وتأويلًا، كما ينطبق على السلوكيّات، سلوكًا وتحليلًا وتفسيرًا. ومن ثَمَّ آل الأمرُ إلى خيارين: إمّا الجمود، أو المحاكاة. وتعطَّل التجديد والتحديث، بمعناهما الراشد، تحت وطأة تقليدَين، لا يقلّ أحدهما عن الآخر بلادةً واتّباعيّةً: تقليدِ القديم العربيّ، وإضفاءِ القداسة عليه، ورفضِ مساءلته، أو إعادةِ قراءته، أو الاجتهادِ في فهمه على نحوٍ مختلفٍ عن الجاهز المتّفق عليه، وتقليدِ الجديد الغربيّ، كما هو، بلا تفكيرٍ ولا تردّد. خياران، كلاهما تقليدٌ، ولا ثالث لهما! ولذا نرى أن القصيدة العاميّة قد اهتدت إلى حدٍّ لافتٍ، وبالفطرة، إلى ضروبٍ من التجديد، تنسجم مع الأصل وتختلف عنه في آن. وهي وإنْ كانت عمليّةً ظلّت وئيدةً، وبالغةَ المحافظة والحذر، ذات دلالةٍ، في رأيي، على أن القوالب الأدبيّة ليست أبديّةً، بل يمكن تحديثها من داخلها، وبشكلٍ طبيعيّ، عِوَضَ تحطيمها جهلًا، أو استبدالها بغيرها، اجتلابًا نابيًا.
تُرى ماذا كان مقترح الشِّعر العامّي، ومنذ وقتٍ مبكّر، للخروج على الوزن التقليديّ، ولكن دون خروجٍ، وللتغيير، ولكن دون تدميرٍ، وللتحوّل، ولكن في إطار النواميس الثقافيّة، والأعراف الذوقيّة العربيّة؟ لقد وسّعتْ بعضُ أوزان الشِّعر العامّي قوالبَ بحور الشِّعر المسمّاة الخليليّة. وأقول: (الخليليّة)، لا العربيّة؛ لأننا لا نجزم بأن تلك الأوزان العامّية من ابتكار شعرائها، فقد تكون أوزانًا قديمة أهملها الخليل بن أحمد الفراهيدي، لسببٍ أو لآخر، وبقيتْ في موروث الجزيرة العربيّة الشعبيّ. كيف ذاك؟ فَتَحَتْ بعضُ أوزان الشِّعر العامّي رحابةَ التعبير أمام الشاعر، دون التخلِّي عن الوزن والقافية، وذلك من خلال جعل البيت الشِّعري- بحسب بحور الشِّعر الخليليّة- شطرًا واحدًا من البيت، ليُصبح البيتُ على ضِعف عدد تفعيلاته في البيت الشِّعريّ العربيّ، أي ليتكوّن البيتُ من بيتين. كما جُعلت القصيدة مزدوجةَ القافية، قافيةً للشطر الأول وأخرى للشطر الآخر. وفي هذا احتيالٌ فنّيٌّ، ووعيٌ فطريٌّ بأن التجديد يجب أن يكون من قلب نظام الشِّعر، لا بقلب نظام الشِّعر، أي من داخله لا من خارجه. هذا على افتراض أن تلك الأوزان مستحدثة لا قديمة.
تلك صورةٌ للتجديد العاميّ في البنية الإيقاعيّة، نعرفها في الشِّعر النَّبَطيّ. وهناك صُوَرٌ أخرى مختلفة في الشِّعر العامّي العربيّ، يعرفها المختصّون في هذا المضمار، تُراوح بين التركيب، والتفكيك، والتنويع، والتحديد، وبين الصعوبة واليُسر، والحزونة والسلاسة، بيد أنها تدور إجمالًا في فَلَكِ العَروض العربيّ بنواميسه وأعرافه. فإذا كانت تلك الصورة الموصوفة في الفقرة السابقة هي ما حدث في نطاق الشِّعر النَّبَطيّ، السائد في شمال الجزيرة، فسنجد في الشِّعر العامّي في جنوب الجزيرة، كما في جبال فَيفاء، اتخاذَ الشعراء شكلًا موشّحيًّا، في تنويع الأغصان والقوافي، ولعلّه هو الأصل القديم في الموشّح الأندلسي. ولنأخذ نموذجًا مقتضبًا من ذلك:
لمّا زار المستر فِلْبِيْ، هاري سانت جون (H. ST. J. B. Philby)، المتسمّي بالحاج عبدالله فيلبي، جبال فَيفاء وبني مالك، سنة1936م(1)، أنشد جدّي الشاعر علي بن سالم آل حالية الخسافي الفَيفي، وذلك في سوق النفيعة، في حشدٍ كبيرٍ من الناس:
يا لا بَتِيْ نبّهْتِ انا في حالي المَنامْ ** وجا المنَبِّهْ قالَ ليْ: آتفْهَمِ الكلامْ
وتْصَدِّقِ اليَقِيْنْ
حِلِّيَةْ فَيْفا خَسـَــارَةْ ** خَلْف تصويرِ امنَصارَةْ
ما بَقِيْ شَوْرٍ يَزِيْنْ
والحَقِيْقِ اللّي معَ اللهْ قِدْ دَرَى بُو(2)
ثم أتبعه بـ(الدِّلْع) التالي- والدِّلْع لديهم من ألوان الإنشاد-:
خِلْتِ بَرَّاقٍ على الدّنيا بِدِيْمَتُو ** لَوْ ثلاثينْ عام تِتْغَازَرْ مَعِيْنَتُو
ما يَخْلُفُو ظَما
مِنْ على ارضِ الشَّامْ لاحِي ** لليَمَنْ ذي كانْ صاحي
سَيْل يَدْمُرْ كلِّ مالِ
والبَحرْ يرْتَجّ مِنْ قُوَّةْ طُلُوْعُو(3)
والشاهد هنا هو في ما يلفت النظر في النصّين من البناء الإيقاعي. ولا شكّ أن هذا النمط كان يُنشد إنشادًا، معتمدًا الإيقاع فيه على السماع، فالمَطْلَع من النص الأوّل بشطرَيه جاء على (مستفعلن/ مستفعلن/ مستفعلن/ مُتَفْ). ثم جاء شطرٌ أقصر يمثّل (الدَّوْر الأوّل)- حسب مصطلح الموشّح- في قوله: "وتْصَدِّقِ اليَقِيْنْ": (مستفعلن/ مُتَفْ). ينتقل منه إلى منظومة نغميّة أخرى في القفل الثاني على: (فاعلاتن/ فاعلاتن)، (فاعلاتن/ فاعلاتن)، يعقبه الدَّوْرُ الثاني: "ما بَقِيْ شَوْرٍ يَزِيْنْ" (فاعلاتن/ فاعلاتن)، ويختم بما يمكن أن يُعدّ الخَرْجَة: "والحَقِيْقِ اللّي معَ اللهْ قِدْ دَرَى بُو": (فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن). وعلى هذا المنوال النصّ الآخَر. وهو نمطٌ شبيهٌ بالموشّح الأندلسيّ، كما ترى، إلّا أنه يختلف عن الموشّح- وَفق بنائه المعروف- في ازدواج الوزن بين (مستفعلن وفاعلاتن) من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى في توزيع القوافي بين أقفال النصّ وأدواره؛ فجاء في هذا بعكس الموشّح، الذي تتّفق فيه قوافي الأقفال وتتنوّع قوافي الأدوار، كما هي نماذج الموشّح الأكثر شهرةً. وإنْ كانت نصوص أخرى من شِعر فَيفاء تتفق مع تلك الطريقة في توزيع القوافي الموشّحيّة. ونماذج هذا البناء الموشّحيّ معروفة في شِعر فَيفاء، إلى جانب القصائد ذات الشطرين المختلفَي القافية.
وبذا فلعل تلك الأبنية الشبيهة بالموشّح الأندلسي تؤيّد القول بأن الموشحَ مشرقيّ الجذور، تطوّر في الأندلس(4). ولا يَسُوْغُ بحالٍ تصوّرُ العكس، أي أن أولئك العوامّ المعزولين، الذين توارثوا شِعرهم- ولم يسمعوا بموشحٍ ولا زجلٍ قط، ولا حتى بأندلس- هم من تأثّروا بالموشّح الأندلسيّ وقَفَوْا آثاره! وكل الجدليّات حول نشأة الموشّح الأندلسي، وتولّده عن الغناء في جزيرة إيبيريا، أو تأثره بالترابادور- على بعض المقولات- أو بغناء الجوّالين في إسبانيا وأوربا، يبدو لا أصل له، إلّا أصلٌ واحدٌ، هو الجهل المطبق بالتراث العربيّ الشعبيّ، الذي يُثبت أن الشكل الموشّحي هو من أنماط الشِّعر المتوارثة، المهاجرة، وإن اختلفتْ التسميات(5).
[للبحث بقية].
أ. د. عبدالله بن أحمد الفيفي
*
شِعريّة البناء الموسيقيّ 6
(تطوُّرُ الإيقاع بين تجربة الشِّعر العامّي والفصيح)
البروفيسور د. عبدالله بن أحمد الفَيفي