3

:: باب مغلق - قصة قصيرة ::

   
 

التاريخ : 25/10/2011

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1794

 


 

القصة مهداة إلى أخوتي الأقباط الذين سالت دماؤهم في ماسبيرو

 

 

في شقة صغيرة بالطابق الأول من عمارة في حي الظاهر سكن الأستاذ موريس المحاسب في أحد البنوك مع زوجته مدام جانيت التي تعمل في مدرسة تعليم لغات أجنبية. الإثنان تجاوزا سن الإنجاب دون أن ينجبا، لكنهما قانعان بحياتهما التي تمضي في هدوء وتتخللها نزهات وزيارات يوم الإجازة. في العمارة محمود البواب، الذي جاء من أسوان منذ زمن وعاش أسفل السلالم وحده مع ابنته الصغيرة هدى التي كانت تشتري للسكان وخاصة لمدام جانيت الحاجات من المحلات الواقعة أمام العمارة. موريس وجانيت – المحرومان من الأولاد – أحسّا بميل وبعطف على البنت الصغيرة التي لم تكن تطلب شيئاً حين تعود إليهما من المحل وتكتفي بابتسامة واهنة، سعيدة بكل ما يعطى لها، سواء أكان ورقة نقدية أم نصف رغيف خبز بداخله قطعة لحم. في أوقات المغرب كان يحدث أن تأتي هدى بشاي أو خبز للأستاذ موريس، وتكون الشقة خالية من الضيوف، فتقول لها مدام جانيت: اقعدي يا هدى استريحي وأنت طالعة نازلة طول النهار. تجلس هدى على حافة الفوتيه، كأنها تخشى أن تجلس عليه كله، تبحلق في التلفزيون بصمت، فإذا قدمت لها مدام جانيت قطعة كيك صغيرة قضمت منها من دون أن ترفع بصرها عن الشاشة. تظل جالسة هكذا إلى أن تسمع صوت والدها ينادي عليها لأن أحد السكان في الطابق الثالث أو الرابع يطلب شيئاً من المحلات، حينئذ تثب، وتهرول، وتغمغم من عند الباب وهي تنصرف بكلمات شكر غير مفهومة. تغادر هدى الشقة فينسل لون ما من الجو، ويحل شعور خفيف بالوحدة والأسف في الصالة، وعلى كسوة المقاعد، ويتفادى موريس وجانيت أن تتقاطع نظراتهما، إلى أن ينطق هو ورأسه فوق الجريدة بعبارة ما، ليس لها معنى خاص، وتؤكد هي على كلماته وعيناها سارحتان: طبعاً.. طبعاً. تنهض واقفة: أعمل لك شاي؟. وينظر كل منهما إلى الآخر، وينقل بنظرته مشاعر مختلطة من ذنب وغفران وعرفان لأنهما مازالا معاً ولأن أيا منهما لم يقل للآخر أبداً إن الحياة موحشة.

في يوم آخر تطرق هدى الباب، وتجلس على حافة الفوتيه أمام التلفزيون تتفرج بفيلم كوميدي قديم، تأكل مما يقدم لها، وفي تلك الأثناء تقيس عليها مدام جانيت فستاناً قديماً ضاق على نجوى بنت أختها، وتفرح هدى، وتنهض بعد ذلك وتساعد مدام جانيت في غسل الصحون، ثم تنام على الكنبة في الصالة حتى الصباح. أبوها لم يجد مشكلة في مبيتها المتكرر، فشقة موريس وجانيت قريبة منه في الطابق الأول بجوار السلم، والأستاذ موريس رجل طيب وكبير في السن.

كل يوم أربعاء يتجه أبو هدى إلى مستشفى قصر العيني لغسيل كليته، ويعود منهكاً أصفر الوجه يرقد على فرشته وهدى تناوله الماء والخبز، هكذا رجع هذه المرة، لكنه بعد أن رقد لمدة ساعتين يئنُّ تحت السلم فارق الحياة. وانتبه سكان العمارة فجأة إلى أنهم لا يعرفون لمحمود البواب عنواناً ولا أقارب، ولم يكن يشير لأصله سوى أبناء بلدته العابرين، الذين كانوا يظهرون بحثاً عن عمل، فيشربون معه كوب شاي على الدكة أمام مدخل العمارة ويستمعون لنصائحه ثم يرحلون. الحاج شفيق قام بجمع تبرعات من سكان العمارة وتولى مع الأستاذ موريس إجراءات الدفن. في المغرب ظلت هدى واقفة تمسك قبضتاها الصغيرتان بالسور الحديدي لسلم العمارة، رأسها مدلى تنظر إلى الفرشة التي كان ينام عليها أبوها تحت وتبكي. تواسيها مدام جانيت وتجذبها لتدخل الشقة ثم تيأس منها فتتركها وتعود إليها بعد ساعة إلى أن وجدتها نائمة تقريباً وقد أسندت خدَّها إلى حديد السور فسحبتها من يدها إلى الداخل. بقيت هدى في الشقة، وموريس وجانيت يطيبان خاطرها كل يوم بالكلمات وقطع الحلوى حتى كفّت عن البكاء، وبدأت تختلس النظر إلى لقطات من أفلام التلفزيون وهي تمسح أنفها بكمِّها. وحين صارت إقامة هدى عند الأستاذ موريس أمراً مسلما به، اشترت لها مدام جانيت من ممر الراعي الصالح فستاناً وحذاءً جديدين، وبدأت تخرج معها وتمسك بيدها بحرص وهما تعبران الشارع، وبعد مدة أخذت جانيت تفكر في وضع سرير لها في الحجرة الصغيرة، وحين مضى على وجودها شهر كامل قالت جانيت لموريس بحنان: إيه رأيك لو أدخلنا هدى مدرسة قريبة؟.

 مساء ذلك اليوم عرّج موريس على صيدلية بركات المجاورة ليشتري علبة أنسولين، فغمزه د. مصطفى الصيدلي وهو يفتش عن الدواء بسؤال عابر: أخبار البنت هدى إيه يا أستاذ موريس؟ مش الحمد لله بخير؟. لم يتوقف موريس عند السؤال طويلاً، وأجاب: الحمد لله. ماشي الحال. وبعد يومين وجّه الحاج عصفور صاحب محل العطارة السؤال ذاته إلى موريس لكن بنظرة ثقيلة باردة جعلت موريس يتساءل: إيه الحكاية؟. شخص ما في الشارع نكش موضوع هدى قائلاً "موريس أخذ البنت الصغيرة في بيته وْحَ يْخلّيها نصرانية، حَ يْربّيها على طريقتهم!"، وتواثب الكلام من محل المكوجي إلى صاحب المخبز ومن دكان العصير إلى المقهى ومن بائعة اللبن إلى داخل البيوت. في نهاية الأسبوع سدّد الجزار وهو يقطع فخذاً بالساطور نظرة عداوة إلى موريس وطرح عليه السؤال بنبرة أقرب إلى المساءلة منها إلى التساؤل. هذه المرة أدرك موريس المقصود بالكلام، فبهت وتلجلج قائلاً "الحمد لله" وأسرع منصرفاً. في اليوم التالي قرر موريس أن يستشير لطفي صديقه وزميله في البنك، فنصحه على الفور بطرد البنت قائلاً "بقاؤها عندك ممكن يعمل لك مشكلة في الشارع والمنطقة كلها". جزع موريس "أطردها إزاي؟ دي طفلة؟ ومالهاش حد؟". فرد عليه لطفي "سرحها، شوف لها حد غيرك تقعد عنده". بسط موريس كفيه بحيرة متألماً: " لكن البنت بتحبنا أنا وجانيت ومستريحة معانا، كمان احنا.. ". قاطعه لطفي بحزم "سيبك من حكاية الحب والراحة دي، المسألة أكبر من كده يا موريس".

في طريق عودته أحس موريس أن حجراً ثقيلاً يهوي بقلبه فرفع بصره إلى السماء الغائمة بنظرة عتاب ورجاء، وما أن دخل الشارع حتى شعر بالأعين تلاحقه في صمت، تترقب قراره، وتحثه عليه، وعندما اقترب من محل الجزار خرج له صبيه ودفعه في كتفه بشكل كأنه غير مقصود وتابع سيره.

 جلس موريس في الصالة يسأل نفسه كيف يطرد طفلة صغيرة بلا أهل ولا سند؟ وماذا يقول لجانيت؟ وللبنت؟.

في الأيام التالية أخذت كلمات الغمز واللمز من الشارع تصك أذنيه بقوة أشد، وتذكر كلام لطفي، فحكى لجانيت كل شيء. استمعت إليه جانيت واقفة بوجه مخطوف باهت ولم تقل كلمة. جلست على حافة السرير وبكت طويلاً بصوت مكتوم ثم نهضت وجفّفت دموعها بيدها واتجهت إلى المطبخ. نادى موريس هدى فأسرعت إليه "نعم يا عم موريس" ووقفت أمامه منتظرة. مطً موريس شفته السفلى، وشبك أصابع يديه ولم يجد ما يقوله للبنت الصامتة. أخيراً استجمع موريس شجاعته وشرح لها بقدر ما يمكن لطفلة أن تفهم أن عليها أن تغادر الشقة. البنت الصغيرة في الفستان الأوسع والأطول مقاساً عليها بكت ومع أنها لم تظهر من قبل عنادا أو تشبُّثا بشيء إلا أنها هزّت رأسها هذه المرة "لاء". وأعاد موريس ما قاله بكلمات أخرى فاستغربته: "ح أمشي فين؟ أنا ما أعرفش حد، ومدام جانيت قالت لي ح أرتب لك الأوضة الجوانية؟" وحسماً للوضع هرولت هدى إلى جانيت في المطبخ "الحقي.. عم موريس بيقول لي أمشي!". وأشاحت جانيت بوجه متصلب كأنها لم تسمعها متشاغلة بدعك الأطباق بعصبية.

في اليوم الثاني، والثالث، والرابع، كرر موريس لهدى ما قاله من قبل، وأوضح لها إنه يحبها مثل ابنته بالضبط، بل هي ابنته. لكن هدى لم تعد تعير كلماته أي اهتمام، تسمع ما يقوله وتهز رأسها " لاء " وتنصرف إلى الصالة تراجع ما علمته إياها مدام جانيت من حروف الكتابة أو تتفرج على التلفزيون. مرة وأخرى، ثم لم يجد موريس بدّاً من جذبها بقوة من ذراعها وجرجرتها خارج باب الشقة.

البنت خارج الشقة، ملتصقة بالباب المغلق، تخمشه كالقطة وتبكي: أنا زعلتك في حاجة؟ والنبي دخّلني. دخّلني والنبي ياعم موريس. تفرّ دموع موريس وراء الباب المغلق يقول: ما أقدرش يا بنتي.. والعدرا ما أقدر.

والنبي، والعدرا، والنبي. والباب مغلق وخلف كل ناحية شخص وحيد بحاجة للآخر.

 

 

- القصة من المجموعة القصصية " كناري " لأحمد الخميسي

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.