3

:: "العُرْفُ الباقي"- "حرفٌ من كتاب"- الحلقة 31 ::

   
 

التاريخ : 11/09/2011

الكاتب : هنري زغيب   عدد القراءات : 1602

 


 

          بين مَحفوظاتِ الشعر في لبنان، قصائدُ تؤرِّخ حِقْبةً من مسيرة الوطن صوب تآلُف أبنائه، ونُصرة حقوقِه، وبناء مَجده الخالد، في وفاء شعراء لبنانيين تركوها ذخيرةً في ذاكرة لبنان.

        من هؤلاء الأوفياء الصحافيُّ الشاعر أمين رزق، ابنُ جزين التي وُلِدَ فيها سنة 1890، وتعاقَبَ قلمُه على صحف عدةٍ منها "الوطن" لشبلي ملاط، و"الحديث" لالياس حرفوش، و"الصيّاد" لسعيد فريحة، إلى افتتاحياته مُدةً في جريدة "العمل".

        عُرِف سنة 1905 بـ"شاعر الحكمة" لانتمائه إلى معهدها الشهير، وسنة 1927 لَقَّبَه خليل مطران بـ"شاعر الشلاّل"، وحمل لقب "شاعر السلام" بعد فوزه بجائزة الإذاعة البريطانية سنة 1943.

        جمعَت له عائلتُه مؤخراً ما وُجِد من قصائده، في ديوان "العُرف الباقي" وفاءً لذكرى غيابه سنة 1983.

        عُنيَ بالكتاب نَجْلُ الشاعر، الأستاذ الكبير إدمون رزق، وقدَّم له بأسلوبه النَّضِر الصَّقيل.

        ولأنّ أفضلَ ما يُعَرِّف بالشاعر شعرُه، نفتح "العُرْف الباقي" ونقرأ.

        من قصيدةٍ له عن مدينته الأميرة جزّين، جاء:

شلالُ ماءٍ ما رأتْ قبلاً ولا           بَعداً له عينُ الأنــام نظيرا

أقفُ النهـار أمامه متأملاً           بجماله السامي فأَسلو الدورا

متحدِّراً من شاهقٍ متسابقاً           نحو الصخور لكي يخرَّ خريرا

متسلسلاً ما بينها  ينساب            كالأفعى ولكن يشبه البلّورا

في قلب وادٍ أزهرَت جنَباتُهُ           ملأت أزاهرُه الجـوار عبيرا

        وفي 30 تموز 1927 تُكرِّم جزين الشاعر خليل مطران باحتفال كبيرٍ ألقى فيه أمين رزق قصيدةً جاء فيها:

لبنــــان آيُ الله في إبداعه      ومُقامُه الأرضيُّ خيرُ مُقامِ

في كـلّ مـرقى قمةٍ من أرضه     مرأى مَشاهدَ للطبيعة سامِ

شابَــت نواصيه، وظَلَّ شبابه       متجلياً  في حُسنه المتسامي

كيف اتجهتَ سمعت شدوة صادحٍ     مثـل البلابل  طائرٍ حوامِِ

متنقّلٍ في الأرز يصــدح تارةً       بِمجالس السُّمار والنُّـدام

ويحط في وادي العرائش وارداً       شاطي الغدير ولم يكن بالظامي

يا شاعر القطرين هلــاَّ وِقفةً       ملأَ الجنوبَ  دويُّها المترامي        

جزّين روضٌ جــاءه غرّيدُه        فاسجع له عن ثغرك البسامِ

قف في ذرى شلالِها مستوحياً        فلأنت  شلاّل البيان الهامي

وارسم مَحاسنَه برأْس يـراعةٍ       عنها تقصّـر ريشةُ الرسامِ

شلالُنا علمٌ... فكن في وصفه        مولى الفصاحة سيِّدَ الأعلامِ

        يومها أجاب خليل مطران بقصيدةٍ مؤثّرة، من أبياتِها:

يا أهل جزين الذين تَجمَّلوا           بِمكارم الأخلاق والعرفانِ

ألفيتُ من إيناسكم وسَماحكم         ما لا يفي بِحقوقه شُكراني

طوّقتُموني بالجميـل، ولم أكن       أهلاً لهذا الفضل والأحسانِ

        ومن أعالي جزين، يشرف أمين رزق على مدينتنا التاريخية صيدا، فيكتب في قصيدته "صيدون":

صيدونُ يا مهدَ الفنون ومنبتَ        الأعـلام من غيدٍ ومن فتيانِ

هل تذكُرين وأنتَ قائمةٌ على         هذي الشواطئِ من قديم زمانِ

عهداً به فُـقْتِ البلاد  تَمَدُّناً           طالت عظائمُه على الـرومانِ

صيدونُ يا أمَّ الحدائق والرياض      وأُمَّ كـــلّ  خَميلةٍ وجنانِ

خَلعَ الجمالُ عليك أسْمى بُرْدِه        سبحان ربِّـك مبدعِ الأكوانِ

        ويضجُّ الوطن في وجدان أمين رزق، فيناجيه بقصيدة "نَهواكَ يا لبنان":

من مسرح العُقبانْ         للسَّفح  للوديانْ

أجدادُنا الشجعانْ            كم شيّدوا بنيانْ

      وعمَّروا أوطان

أنعِـم بِها  أجدادْ           ما شابَهم إفسادْ

قد حاربوا الإلحادْ           والظلْمَ والأحقادْ

                           بقُوّة الإيمانْ

        ولا يكتفي بالمناجاة، فيكتُب في قصيدته "وطن الخلود":

لبناننا بيتُ السماحة والندى          بالمكرُمات أَعَــزهُ الأجدادُ

بيتٌ على الإيمان قام، وشعبه        صلب العقيـدة، خيِّرٌ، جوّادُ

لبنان كان وسوف يبقى مورداً        عذْباً  يَـؤُم حياضَـه الوُرّادُ

حريةُ الإنســان فيه  عقيدةٌ        لا الضغطُ يُحرجها ولا التهدادُ

وطنَ الخلود فدتْكَ أرواحٌ إذا         ناءت بما يرضي العلى الأجسادُ

وعلى بقائك  خالداً متشامِخاً         يتعـــاقب الأبناءُ والأحفادُ

        ويرى في المغترب اللبناني ثروةً بشريةً كبرى، فيناديه:

أيها الفاتحُ العظيمُ ولم يطلِق          رصاصـاً ولم يُسَدِّد حِرابا

حَيِّ شعباً  ملءَ الزمان بنوه          فـانطلاقاً ونهضةً واغترابا

لَهُمُ الكون مسرحٌ ومَجالٌ             يَحفظون الأخلاق والآدابا

يُنبتون الصخور إن ضاقت الأرض    عليهم ويعصـرون السرابا

أيها العائـد الحبيب إلى لبنان        حَــيِّ الربوع والأصحابا

وتَبَرَّكْ بِلَثْـمِ أرضٍ، عليـها         قد رأيتَ الضيا، وشُمّ الترابا

رُبَّ يومٍ تعيشُ في الوطن الأمّ        يُـساوي الأعوام والأحقابا

نفحةٌ من هوى الأمومة تُحْييكَ       وتَنســى الهموم والأتعابا

        ديوان أمين رزق "العُرْف الباقي"، في شِعريَّة زمانِه ولُغَتِها، باقةٌ من شِعر لبنان، تضُوعُ بالوفاء للأرض الأُمّ، وسمائِها الحانية، وشعبِها القويّ، كأنما ليبقى هذا الشعرُ، في وجداننا دائماً، صوتاً في ضمائرنا، يَندهُنا إلى الوفاء للبنانَ الذي لا يَحتاج منّا اليوم أكثرَ من لفْتةِ حُبٍّ، هو الذي يَحضُنُنا ويَحْمينا، فلا أَقلَّ من أن نبادِلَه بِبُنُوَّةٍ صادقةٍ تُعيد إليه بعضَ أُبُوَّته الغامرة، وحَنْوَتِه علينا في مواسِم الوفاء.                                                               

يصدر هذا المقال في موقع "جماليا" بالتزامن مع بثّه في إذاعة "صوت لبنان" صباح الأحد 11 أيلول 2011

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.