3

:: لماذا الكتابة؟ ::

   
 

التاريخ : 07/09/2011

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 2104

 


سؤالٌ طالما ردّدته الأجيال، وحاولت أن تُجيب عنه. ولطالما ضجّ في بال كثيرين ممّن يكتبون ويفكّرون ويقرأون. كلٌّ حاول أن يُجيب. كلٌّ لا يزال يحاول. تتعدّد الإجابات بتعدّد الكتّاب والشّعراء والمسرحييّن والرّسّامين والسّينمائييّن والرّاقصين و... كلّ فنّ كتابة! وتتعدّد، بعد، وتختلف باختلاف الآراء والثّقافات والاتّجاهات والميول والرّغبات و...

        كلُّ فنّ كتابة، قلتُ؟ نعم. كيف؟

        ألموسيقى كتابةُ أحاسيس بالنّغَم. ألرّقصُ كتابةُ أحلام بالجسد. ألنّحتُ كتابةُ رؤًى بالجَماد... ألنّغَم لغة، الجسدُ لغة، الجَمادُ لغة. وتاليًا لا جَماد. كلُّ جَمادٍ نظريٌّ، هو "حياةٌ" بالقوّة، "يحيا"؟ يُصبحُ حياةً بالفِعل. ألرّوحُ، في الجسد، ليست وحدها، علامة حياته. بل الحُبّ، الشّعور، الحلم، والكتابة!

        ولكن، طالما هنالك تَراكُم إجابات بهذا المقدار، وبهذه الآراء والثّقافات والاتّجاهات و... فلماذا المحاولات، بعد؟ هل من إضافة؟ ألا نجد إجابةً تُشبِهُنا، أو تُرضينا، أو تُعبِّر عن فكرنا ووِجداننا وتطلُّعاتِنا وأحلامنا والرّؤى...؟ أيُعقَل أن تكون إجابات مَن سبقوا ضَحلةً، أو فارغة، أو خاوية، أو فقيرة...؟ أليس لهم، جميعًا، فكرُهم وثقافتُهم وعواطفُهم وخَيالُهم ورؤاهم وقالبُهم الفنّيّ...؟

        ألمحاولات تتكرّر؟ لأنّ لكلٍّ ما يُضيفُه. وإلاّ، فكتابتُه تكرار أجوف لا قيمة له. والإضافةُ قد تكون قيّمةً، أو أقلَّ قيمة. وبما أنّ الكتابة محاولات، فمن طبيعتها ألاّ تتوقّف. ألمحاولات لا اكتمالَ لها. لا نهاية لها. طالما أنّها محاولات، سيحاول اللاحقون الاستناد إليها والإضافة، ما يُساهم، حقًّا، في بِناء حضارة الكلمة: عِلْمًا، فنًّا، أدبًا، فلسفة، إجتماعًا، لاهوتًا و... في هذا خصبٌ وإغناءٌ. ألآراء تُغني أصحابَها والآخرين. في هذا تَبادُل ثقافاتٍ، إذًا، تَبادُل قِيَمٍ تبني الإنسانَ، بل تنحتُه، تَصقلُه، تَسْمو به، وبه تقتربُ من المِثال. ما يَرقى بالإنسانيّة، جيلا بعد جيلٍ، إلى ما لا نهاية.

        وعليه، علينا ألاّ نبحثَ، في ما وصل إلينا من كتابة، إلاّ عمّا يَختلِف عن تفكيرِنا. ألاختلاف غِنى. ولا عاطفة تُشبهُ أخرى، إلاّ من حيثُ الصّدقُ فيها، والقوّةُ، والغِنى. إلاّ أنّ الصّدقَ نفسَه، يتمايزُ. صدقُ العالِم، غيرُ صدقِ الشّاعرِ، غيرُ صدقِ الفيلسوف... وقوّةُ العاطفةِ، أهي موجودةٌ عند العالِم؟ طبعًا! وإلاّ، فمن أين رغبتُه في تحسينِ دواءٍ ما، مثلا، أو اختراع، أو أيّة "حقيقة" علميّة؟ وهي، كعاطفة، وراء كلّ رغبةٍ، أو أملٍ، أو هدفٍ، أو ... في تغيير ما لا ينال رضانا. وما لا ينال رضايَ، قد ينال رضى آخر، وما ينال رضى واحدٍ، قد ينال، أيضًا، رضى آخر، إنّما ربّما، بدرجةٍ أقلّ أو أكثر.

        إذًا، فلا ضَحالة في أجوبة. كلّ إجابةٍ تحملُ فكرًا ما، تحمل اتّجاهًا ما، وجهةً، رؤيةً، رأيًا، بُعدًا... ألضّحالةُ، من هذا المنطلَق، "نقطةٌ" انتهى إليها السّابقون، وعلى اللاحقين الانطلاق منها: تفريعًا، تَشابُكًا، تَكامُلا، تَناسُلا،... ما يؤدّي إلى تَناغُمٍ في الفكر البشريّ، على تَمايُز بَهيّ! كلُّ تَمايُزٍ تَمَيُّز، كلُّ تميُّزٍ إضافة. كلُّ إضافةٍ انطلاقةٌ جديدة. ولا تَوَقُّف! هي الإنسانيّة، بمجموعها، الفردُ إلى الفرد، العالِم إلى العالِم، الأديبُ إلى الأديب، الفنّانُ إلى الفنّان، الشّاعرُ  إلى الشّاعر، الفيلسوف إلى الفيلسوف، التّربويُّ إلى التَّربويّ، المسرحيّ، الممثّل، المُغَنّي، الرّاقص، المؤرِّخ، الصّحافيّ... كُلٌّ إلى زميله. كلٌّ يغتني بالكلّ. والإنسانيّةُ كلٌّ!

        لا يُمكِنُ، ولا يُقبَلُ، ولا يُرجى، أن تكونَ المجتمعاتُ على صورة بعضِها! لا العاداتُ، ولا التّقاليد، ولا الأديان، ولا الثّقافات، ولا نُظُمُ التّربيةِ، ولا... هي نفسُها. ويجب ألاّ تكون. ألاختلاف غِنى. ألأرضُ، بما عليها، "مَعرِضُ" الله عندنا. من هنا اختلافُ "اللوحات" و"الصّور" و"المنحوتات" و"الأشكال" و"الصّياغات" و... ! وهذا هو الجَمالُ، الجَمالُ كلُّه!

          ألكتابةُ! الكتابةُ! حياةٌ وبُشرى حياةٍ، واستمرار تَوَهُّج الحياة! ألكتابةُ تَراكُمُ ثقافاتٍ وحضارات حيّةٍ تُحيي. ألكتابةُ هي الحياةُ!


         

 

 
   
 

التعليقات : 4

.

12-09-2011 09:4

إيلي

أستاذ حبيب
"فهمُكَ" في الاتّجاه الصّحيح...
تُسعِدُني، دومًا، تعليقاتُك!
محبّتي


.

11-09-2011 02:1

حبيب

هي محاولة لرسم ال "أنا"  لتصل إلى أنا الآخر وتفهمه.. والدوافع هي التواصل والانصهار بها ..لكن عبثا حتى الفهم متمايز..

علّني قد أكون كتبت فهمك .

استمتعت بقراءتك كثيراً وكثيراً أيضاً استمتعت بتعليق السيدة ناتالي.

شكراً 


.

10-09-2011 01:2

إيلي

ناتالي! أحسنتِ!هذا، تمامًا، ما رميتُ إليه؛ وأرى أنّك تشاركينني الرّأي.
كم يفرح الكاتب (أليس كذلك؟) حين يجد مَن "يفهمه" ويشاركه الرّأي، معًا يغتنيان...
بمحبّة...


.

09-09-2011 06:4

nathaliekhoury19@hotmail.com

ناتالي الخوري غريب

أستاذي المحترم

قد تكون مقالتك هذه دعوة الى الكتابة في بشرى الاحتفال بالتفرّد الذي يميّز المبدع، شاعرًا أو أديبًا أو...

ويدّعم نتائجك نظريات هيغل عن جدلية التاريخ والمجتمعات والفنون...

ولكن السؤال الذي طرحت، قد يشعرنا أحيانًا باننا نكتب حتى نرسم أنفسنا أبطالاً نحرّك قدرنا...فلا يكتبنا القدر...

أو قد يكون هروبًا من انفسنا إلى عالم من حبر او ورق

أو قد يكون مصالحة مع ذواتنا، في رحلة إلى اعماق الذات لا نجدها إلا في الكتابة...

وبذلك لن نشبه أحدًا ولا يتشبه أحد بأخر...لاختلاف الرؤية والرؤيا...

مع تقديري.


 

   
 

.