علّمنا أبي أنّ الصباح لله، وأنّ قولة "صباح الخير" فرضُ صلاة وتنهيدة دعاء، وأنها قرعٌ على باب الرب، استحضاراً لنعمة، وشحادة لبركة ورجاء لخير، وحفَّزَنا أنْ نسبق الغير، قريباً وغريباً، فنرش عليه فرح الصبح رسالة محبة و عطراً سلامياً.
ما أرقَّ هذا الرجاء: أن نبدأ نهارنا بالتمني فتمرّ ساعاته علينا بسلام، وأن نستودع الرب أرواحنا مساءً على أمل أن نصبح على خير. والحياة بمنبسطاتها وتعرّجاتها، بِحُلوها ومرها، هي الحياة.
وصية أبي أن نتعاطى تقلّبات الحياة بفرح وصلابة، وأنْ لا فرح وصلابة خارج الايمان، وأنْ لا نفلسف الأُمور فنضيع في المتاهات! وفي "أمر اليوم"، وهو كان دركياً للناس والقانون مترهباً بالكاكي متخصّراً بأميريٍّ أَقسم لا يخرجه من غماده الجلدي العريض إلا في حقل الرماية، قال لنا: "ليست وظيفتنا أن نُرعب الناس بل أن نزرع احترام القانون في نفوسهم".
وحفظْنا عن أبي أن الصباح ليس جزءاً من اليوم بل حالة تمتد على اتساع ما تحتمله صدورنا من قابلية المحبة والفرح. وأيّ فرح أنقى من أن تقابل من تعرفه او لا تعرفه فتبادره فطرياً بغريزة إنسانية "صباح الخير" وتحصد زرعك فوراً بأن يرد عليك "يسعد هالصباح"! وفي هذه التبادلات الطيّبة جامع مشترك بين صلوات الشعوب والأديان، أن الصباح نور، وأنه زمن للخير ودعوة للتجدد فعلاً وتفكيراً ومذهب حياة.
تعلّمْنا من أبي وأمي أن يكون كلّ يومنا سلوكاً صباحياً لا مطرح فيه للعتمة ولا غفوة ضمير فيه، وأنْ لا استراحة من أيّ واجب إنساني، وأنّ "شرَّ الصباح أهون من خير المساء"، وأنّ "الصباح رباح"، و"الرباح" خيرٌ معتَّقٌ كما الخمر!
وتعلّمتُ من أبي وأمي، وأُعلِّم أولادي أن الصبحية - ولو أندرتها مطالب الحياة وأويقات الراحة-، ليست فنجان قهوة ولا قراءة خطوط البنّ فيه، بل هي قاموس أبي الدركي مجمع عائلي مصغر نتراجع فيها أعمالنا ونتذاكر سابق أفعالنا وأفكارنا فنندم على تجاوز ونكفّر عن ذنْب ونستغفر كثيراً فنتوب ونُسَرّ حيثما أرضينا الرب وأنفسنا. وفي "الصبحية" نحضّر معاً جدول أعمال اليوم قبل أن ننطلق إلى دورة الأيام حاملين بسمة الهناء، لابسين رحمة الرب، حتى يحل مساءٌ ويَمُرّ ليل ويطل صباح مُجدداً لنقول من جديد: "صباح الخير"!