3

:: الثورة العزيزة.. ثانية ::

   
 

التاريخ : 06/06/2011

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1566

 


 

 

الثورة العزيزة الغالية.. تحياتي لك مرة أخرى، انقضى أسبوع على رسالتي الأولى لك، كنت أنت خلاله تستجمعين قواك لثورة ثانية وجمعة غضب في 27 مايو، أو جمعة تصحيح المسار، وتحت شمس القاهرة الساخنة وقفت أنت في ميدان التحرير بأعداد أقل وبتأمل أكبر. انفض من حولك الأخوان المسلمون وآخرون، وعاتبتك افتتاحيات الصحف الرسمية لأنك لا تراعين علاقتك بالجيش والمجلس العسكري، كأنما يتهمونك بشق الصفوف، بل ووصف البعض وقفتك تلك بأنها " جمعة لتخريب مصر " هكذا صرح لجريدة الأهرام د. طارق زيدان رئيس اللجنة التنسيقية لائتلاف الثورة، وتكرر مثل هذا المعنى بصيغ مختلفة على ألسنة أخرى كثيرة. وعندما غادرت أنت الميدان في المساء منصرفة، قيل إنك فشلت، لأن حجمك لم يصل إلي مليون متظاهر، لأنك كنت فقط مئات الآلاف ممن يريدون جمعية تأسيسية لوضع دستور للبلاد قبل إجراء انتخابات البرلمان في سبتمبر المقبل، والإسراع في محاكمة رؤوس النظام السابق التي انقضى على اعتقالها شهور دون محاكمة، وتطهير المؤسسات الحكومية والجامعات والإعلام من كوادر نظام مبارك التي تواصل العمل بأقنعة ولغة الثوار. يالها من تركة ثقيلة!  

لكني أحببتك وأنت أقل عددا، وأكثر تأملاً. فهل أدركت في تلك اللحظات وأنت تقفين في وجه الخطر أنك ثورة بلا سلطة؟ ثورة ليس لديها السلطة لتعيد استخدامها في تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟. بل وظلت السلطة في يد نظام مبارك، فالمجلس العسكري الحاكم هو ربيب النظام القديم، وركيزة  سنين حكمه، وأعضاؤه هم رفاق مبارك في مسيرته الطويلة، وهم الذين قبلوا ويقبلون أن يعتمد الجيش على مساعدة أمريكية تقدر بمليار وثلاثمائة مليون دولار سنويا مقابل تقزيم حجم ودور الجيش، والمشير طنطاوي (الذي يدعوه البعض ليظل حاكماً ولا يتحرجون – حسب تعبير هيكل - من تسميته رئيساً!) ظل قائدا عاما للقوات المسلحة على مدى ثمانية عشر عاما منذ عام 1993 بعد ترقية مبارك له إلى رتبة مشير. فكيف قمت أنت بكل شيء وبذلت دمك وواجهت الرصاص ومع ذلك بقيت دون سلطة؟ أليس انتقال السلطة من طبقة لأخرى هو أهم مؤشر على الثورة؟. قولي لي إذن: كيف خرجت أنت إلى الشوارع، بكل تاريخك العظيم، وبأبنائك، وبغضبك، وقمت بكل شيء، ثم لم يتبق بين يديك سوى ميدان مفتوح كالأمل للاحتجاج؟ أما السلطة فظلت في يد النظام القديم؟ في يد المجلس العسكري، بحيث بدا أن كل دور الثورة هو عرض مطالبها على النظام القديم لينفذ جزءا منها، وبطريقته، وفي التوقيت الذي يحدده. كأن حصاد التضحية هو "شراكة" بين الثورة والنظام، مساومة، نأخذ شيئا ما صغيراً، ويحتفظون هم بالنظام القديم، من ناحيتنا نحصل على تعديل دستوري أو دستور جديد يحد من صلاحيات الرئيس المطلقة ويقلص فترة الرئاسة مع تنديد بالفساد ومحاكمات لبعض رموزه، ومن ناحية النظام القديم يحتفظ بكل أسسه وركائزه السابقة.

في جمعة تصحيح المسار- 27 مايو – وقفت في الميدان تفكرين في كل ذلك، قلبك الساخن الذي نزف نحو ألف شهيد يقول لك إنك ثورة، وعقلك يتأمل الحصاد، ويفتش عن مواطن القوة، ولحظات الضعف. تقولين لنفسك: لقد أطحت برأس النظام، وبوزرائه، لكنني لم أستطع بعد أن أحل تركيبة اقتصادية اجتماعية جديدة محل التركيبة القديمة. تقولين لنفسك وأنت ترين مشاهد التعذيب التي مازالت مستمرة في أقسام الشرطة إن علاقات الاستغلال القديمة مازالت قائمة، وإن القوانين التي انتحر في ظلها الشباب من البطالة والجوع مازالت سارية، القوانين التي أجبرت المئات على الهجرة ولو بالموت في عرض البحار، القوانين التي تشبع القلة في ظلها حتى الموت من التخمة والسأم، ومازال هناك كما قال طه حسين ذات يوم "من يؤرقهم الشوق إلي العدل، ومن يؤرقهم الخوف من العدل"! تقولين لنفسك "لم أتمكن من تحطيم البناء الحكومي القديم، فقدموا لي في كل المجالات كوادر الصف الثاني التي كانت في الظل، رفعوها لأعلى، لتحل محل الوجوه المستهلكة في الصحافة والإعلام والوزارات والجامعات، الكوادر التي تربت على أيدي نفس الأجهزة طويلاً، خرجت لنا كأنما هي وجوه الثورة"!   وباختصار فإنك لم تستطيعي أن تضعي يدك على سلطة الدولة، لتعيدي استخدامها في تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. تقلبين يديك في الميدان الفسيح، وتفكرين في أنك في يناير حطمت القيود عن يديك، حطمت الخوف، وصارت يداك العملاقتان حرتين، وما أن يصبح المرء حرا حتى يسأل نفسه : من أكون؟. يريدونك الآن، أن تكتفي بإصلاح سياسي، دستوري، بانتخابات نزيهة، ببرلمان منتخب، لكن قلبك يخفق في اتجاه آخر، أعمق. أنت تذكرين يوم تشكلت من الضباب، وبرزت كتفاك الضخمتان، من أحداث ووقائع صغيرة كثيرة، من آلام ذلك الموظف الذي وقف في أغسطس 2009 لتسديد فاتورة الكهرباء، فقيل له إن المطلوب مائتا وخمسون جنيها عن شهر واحد، فبهت، وصمت، وشملته ارتجافة، ثم سقط مغشيا عليه وتوفي أمام العوز الذي أطبق علي حياته، تشكلت كتفاك الضخمتان في يناير من تفاصيل كثيرة، كحادثة الشاب العاطل في أسوان المسمى أحمد مصطفى والذي أنهى حياته بشنق نفسه داخل حجرة نومه من شدة الضائقة المالية التي يمر بها. وتشكل صدرك الذي واجه الرصاص من شعورك العميق بأن الشعب عاجز، ومرتبك، ويشعر بالإهانة، وأنهم سرقوه طويلا، وجوعوه، وضربوه في كل أقسام الشرطة، هكذا ظهرت أنت، بدنك كله مشحون بحاجة الناس للطعام والعمل والمسكن والتعليم والحرية، ثم ظهر عقلك الذي ارتبك وقارن مابين مجرد إصلاح سياسي مع بقاء نفس النظام، أو تغيير النظام. وسوف يلحون عليك لدفعك إلي الاكتفاء بالدستور، والانتخابات الرئاسية، ولكنك تعلمين تماما أن تلك وسائل لتحقيق ما هو أكبر، لتغيير يضمن لنا النهوض بصناعتنا القومية وزراعتنا، ويضمن لنا أن نتحرر من التبعية والهيمنة، ويضمن للجميع حياة كريمة.

لقد تحررت يداك من القيود، وأنت الآن تفكرين: من أكون؟. وحين يلح عليك ذلك السؤال، فتذكري اللحم والعظم الذي خلقت منه، تذكري الفقر المدقع والثراء الفاحش وفكري، وستجدين معك أبناء بلا عدد، واعلمي أن أحدا لم يسرقك، وأن أحدا لم يخدعك، وأنك وحدك ستقررين كل شيء، وأننا نعيش الآن لحظة حراك وقلق مواتية، تتفتح فيها كل المحبة التي دفعت أبناءك لمواجهة الرصاص من أجل عينيك  وأحلامك، من أجل أن تجدي نفسك وتعرفين من أنت.   

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.